الشيح محمد الصغير بن بتقة معلم قرآن وإمام مصلح
بقلم: أبو سمية-
منطقة القبائل في وطننا لها أثرها الطيب في تاريخ الجزائر الجميل بالنظر إلى موقعها الجغرافي ، ومحبتها لدى قلوب الناس، وذكرها الساحر في قلوب الشعراء والكتاب والمبدعين… وإلى التغني بها في معالي أمورها وخصائل طيبتها.. لأنها موطن العلماء ، والفقهاء، وأرباب اللغة العربية وآدابها، ومنشأ الأبطال والثوار والمجاهدين على مر العصور، . وأنى اتجهت في ربوعها وجدت أرضا تفيض خيرا، ووجوها يهزها الجود طربا، وقلوبا سليمة صافية راحتها في المؤانسة بالضيف والمشاركة في الرغيف.. ومنها هذا الشيخ المغفور له بإذن الله الأستاذ الجليل محمد الصغير بن بتقة. وقبل أن نتعرف على مولده ونشأته ونسبه الطيب لابد لنا أن نذكر بعض خصاله الحميدة .
1- نسبه:
هو محمد الصغير بن بتقة بن محمد الصغير بن الحاج بن محمد الشريف وابن مداغ العلجة بنت محمد الشريف بن امحند بن محمد أرزقي.
2- مولده:
ولد الشيخ محمد الصغير بن بتقة في 30 ذي الحجة 1348ه الموافق لـ 29 ماي 1930 بقرية الماجن بلدية الماين ولاية برج بوعريريج.
3- نشأته:
نشأ محمد الصغير في بيئة علمية دينية بحتة محاطا برجال من العائلة مثل محمد أمزيان بن بتقة – محمد الطاهر ومحمد الطيب بن بتقة مما رسخ فيه حب العلم والدين، حيث التحق مبكرا بالمسجد لحفظ القرآن الكريم وتعلم على يد المشايخ الذين تعاقبوا على مسجد القرية منهم، العم محمد الشيخ الطاهر أو يخلف الذي تعلم عليه مدة الأربع سنوات من 1944 إلى غاية 1947 حيث ازدهر المسجد في عهده سواء من ناحية جمع شمل أهل القرية، أو من ناحية تحفيظ القرآن، وفي أثناء ذلك انتهى بالشيخ جمعه أو يخلف وكذا الشيخ محمد الشريف بوزغوب.
أتم حفظ القرآن الكريم وعمره لا يزيد عن 15 سنة
في سنة 1948 شد الرحال إلى زاوية الشيخ محمد السعيد بن سحنون بناحية بني وغليس ولاية بجاية لمتابعة بعض الدروس في الفقه مثل ابن عاشر والرسالة لابن أبي زيد القيرواني ودروس اللغة والنحو من الأجرومية وبعض المتون وفي العقيدة مثل جوهرة التوحيد وقد تخرج منها بشهادة الأهلية ثم لحفظه كلام الله.
التحق بزاوية تمقره دائرة أقبو ولاية بجابة للاستزادة في مختلف العلوم الشرعية واللغوية والحساب، على يد شيخه الطاهر آيت علجت حفظه الله وأطال الله في عمره.
4- أبرز شيوخه:
من أبرز الشيوخ الذين تلقى عليهم العلوم والتفقه في الدين نذكر منهم الشيخ موسى الزنداوي – الشيخ الطاهر أو يخلف- الشيخ الطاهر آيت علجت – الشيخ محمد وعلي مداغ.
5- أماكن إمامته:
عمل كمعلم للقرآن الكريم بمسجد أولاد هلال بالماين من سنة 1951 إلى غاية 1955 في هذه السنة بالذات، قام المحتل الفرنسي بقصف المسجد عن كامله فطلب الالتحاق بجيش التحرير لكن رفض طلبه في سنة 1957 نتابع نشاطه الثوري من جمع الاشتراكات والمساهمة في تنظيم مظاهرات 11 ديسمبر 1960.
بعد الاستقلال مباشرة اتجه إلى القرية حيث عين إماما بأحد مساجد المنطقة ( قرية أعشابو) وهذا لمدة قصيرة.
في سنة 1963 عين بمسجد التقوى بالماين المركز معينا للأستاذ محمد وعلي مداغ حيث كلف هو بالتعليم القرآني والأستاذ بالإمامة ولكبر سن الأستاذ محمد وعلي أحيل على التقاعد فكلف الشيخ بمهام الإمامة بهذا المسجد إلى غاية إحالته على التقاعد سنة 1996 وتعاقد لمدة 10 سنوات.
6- نشاطه ومواطنته:
الشيخ محمد الصغير بن بتقة إمام اجتماعي بطبعه فقد كان إماما مصلحا ومربيا وموجها ومعلما حيث جعل نفسه مسخرا بمصالح الناحية (من فصل بين الخصوم – إصلاح ذات البين – الزواج – تقسيم تركة الميراث …إلخ) فكان لا يدخر أي جهد مادي أو معنوي من أجل خدمة مجتمع القرية أو المنطقة بالعطاء والخير والتوجيه خاصة في ميدان التربية والتعليم حتى كان يقول عنه البعيد قبل القريب أنه رجل لن يتكرر.
حرص طيلة حياته أن يضع ما تعلمه من علوم الشريعة على يد مشايخه تحت تصرف الجميع ويبسط مفاهيمه باللغتين العربية والأمازيغية.
كان أول من شجع على تعليم الفتيات في قرى منطقة القبائل فلم يبخل بجهده المادي أو المعنوي في سبيل تحقيق ذلك.
ساهم أيضا في إنشاء مدرسة التعليم القرآني في سنة 1966 وهذا بعد الطلب الذي أرسله إلى رئيس بلدية قنزات آنذاك الذي وافق على الطلب ومن ثم قام بتعليم أبناء النواحي والمنطقة إلى غاية ختمهم للقرآن الكريم وبعض من هؤلاء الطلبة قام بإرسالهم إلى معهد بني دوالة بتيزي وزو لمواصلة تعلمهم العلوم الشريعة من فقه ونحو إلى غير ذلك.
كان يحث ويشجع أبناء المنطقة على الإقبال لاكتساب المعارف والتعلم والوصول لمستويات عليا، وقد وفق في ذلك، وهذا ما جعل يتخرج عدة طلبة من القرية، نذكر من ضمنهم البروفيسور محمد أكلي قزو، والمحامي بجاوي أعمر، والأستاذ محمد الطاهر بوعبطة والقائمة طويلة.
كما أنه ظل لسنوات وهو يشرف على مجلس القرية «تاجماعت» المجلس الذي ينظم حياة الناس في القرية ويسير شؤونهم الاجتماعية والاقتصادية وشعائرهم الدينية بشكل جيد…. لا يظلم عنده أحد ولا يبكي يتيم أو يجوع محتاج ولا تذل أرملة.
دون أن ننسى نشاطه الإداري حيث أنه يراسل المسؤولين لتحسين ظروف سكان المنطقة بشكل عام والتعليم بشكل خاص على سبيل المثال الإرسالية التي بعث بها إلى المسؤولين من أجل إقامة أقسام التنظيم المتوسط بالبلدية مركز وكذا بشق الطرق وخاصة منها الفلاحية على وجه الخصوص.
مشاركته في ملتقيات الفكر الإسلامي في كل من بجاية سنة 1974 وتلمسان.
سنة 1975 بحضور عدة دكاترة وأساتذة من العالم الإسلامي.
في الأعوام الأخيرة حتى وهو في حالة مرضية متقدمة لم يتوقف عن العطاء فكان متطوعا بتوزيع أموال زكاة الفطر على فقراء ومساكين قرى ومداشر المنطقة.
وكذلك إرسال حصص طلبة زوايا المنطقة من مطعم رمضان.
7- أخلاقه وصفاته:
هو الفقيه المفتي على المذهب المالكي، العالم الجليل الواعظ، الناضج الأمين، المرشد لأعمال البر والإحسان ذكي الفؤاد، لين الجانب، خفيف الروح، حاضر النكتة والفكاهة، بشوش الوجه، باسم الثغر، إشراقه في وجهه، وعلو في همته، صاحب الخلق الرفيع، والمنزلة العالية، فهو تحفة المجالس، في كل لقاء يبعث فيه روح العلم والتربية والأخلاق الحسنة، محبوب لدى الناس جميعا، فهو آلف مألوف، إذا لقيته في أول وهلة يفرض عليك إحسانه ومحبته وتقديره فتحبه، على الفور والمحظوظ من يجالسه ويلتقي به.
8- مع الجنائز:
حضوره في الموكب الجنائزي يعطي لهذه المناسبة رهبة وخشوعا لا نظير لها، حيث يفتتح الجنازة بـ لا إله إلا الله محمد رسول الهو، بصوت جماعي فيه الخشية والخضوع لله رب العالمين، ثم يعقبها بقصيدة لأحد العارفين بالله، مطلعها.
الحمد كما أمر والشكر لا ينحصر على القضاء والقدر: إلى آخر القصيدة…
صوته صوت جهوري يفرض على المشيعين السكينة والوقار، وإن كانت الجنازة في مدينة برج بوعريريج فكل السيارات تتوقف وكل السائقين يقفون ويتأملون القصيدة لا إله إلا الله بصفة جماعية يتمتعون بصوت الشيخ الذي يقود الموكب بنظام رائع يبعث في النفس الوجل واستحضار عظمة الخالق في القصيدة الرائعة التي تعبر عن هذا الموقف الجنائزي الرهيب.
9- الحادث المروع بالشاحنة:
يحكي لي الشيخ بلسانه فيقول .. مرة ركبت مع ابني الكبير المدني في الشاحنة وهي محملة بصفائح البيض، ناقلا إياها إلى مدينة برج بوعريريج، وبينما نحن في الطريق الرابط بين قرية تفرق التابعة لدائرة الجعافرة وقرية أولاد دحمان التابعة لدائرة زمورة، بنفس الولاية، ومع طريق صعب المسالك وشديد الانحدار، وأثناء الطريق ولأول مرة يذكرني ابني…، أن فلانا مدين لي بمبلغ كذا، وآخر دائن له بثمن كذا، كأنه أعلمه الله باقتراب أجله، وبينما نحن في موضوع المدين والدائن…، إذ فرامل الشاحنة تنفلت من بين أيدينا…فلم يبق إلا الموت الأسود بين أعيننا. وقال لي ابني والرعب الشديد يخيم على نفسه، وجوارحه ترتعد خوفا، إجبد يا أبي فراميل اليد، فجبدته فلم يلب المطلوب، لأنه هو بحد ذاته مقطوع …فدهسته العجلة، فانقلبت الشاحنة وسقط على الأرض وانقلبت الشاحنة، وبعد أن توقفت الشاحنة بجدار مرأب أخرجته من تحت العجلة فوجدته ميتا فلقنته الشهادة وقلت في نفسي إنا لله وإنا إليه راجعون.. والشاهد في هذه القصة المؤلمة والمؤثرة، أن الشيخ بقي يؤدي رسالة الدعوة إلى الله والإصلاح بين الناس، وحضور مناسبات الناس، سواء كانت مفرحة أو محزنة، وبقي يقود سيارته ومحافظا على ورده القرآني. ويتعايش مع جميع أفراد المجتمع إيجابا أو سلبا… لأن عقيدته راسخة رسوخ الجبال الشامخة، لأنه يدرك تمام الإدراك أن المعطي هو الله وأن المانع هو الله وأن النافع هو الله وأن الضار هو الله ولا راد لقضاء الله… ولو فرضنا أن هذه المصيبة وقعت لبعض العوام لاختل عقله ولأصبح في عداد المجانين عفانى الله وإياكم ونسأل الله لكم السلامة والعافية.
10- الخاتمة:
في الأخير ننوه بأن من الأثار المادية الملموسة التي تركها الشيخ خطبا محررة وبخط يده معظم موضوعاتها تدور حول قضايا الأمة والمنطقة، ولأنه ارتأى إلى أن يهتم ويدافع عن وحدة هذا المجتمع ولم شمله والتمسك بالعادات والتقاليد المستمدة من الدين الإسلامي، وكذلك نشر الوعي ومحاربة الأمية فسخر حياته كلها دون كلل أو ملل في توفير ظروف تكوين المجتمع والأجيال تكوينا معرفيا وثقافيا ليصبحوا صالحين لخدمة هذا الوطن والله وأهل المنطقة يشهدون على ذلك.
11- وفاته:
توفي الشيخ محمد الصغير بن بتقة في صباح يوم 30 أكتوبر 2017 ببرج بوعريريج وشيع في جنازة مهيبة وحضرها المئات من الأشخاص الذين توافدوا من كافة مناطق الجزائر فقد صلى عليه شيخه الطاهر آيت علجت حفظه الله.
فرحمة الله عليه وجعل أعماله ونشاطاته في سجل حسناته عند الله سبحانه وأسكنه جنة الخلد.