إن مع العسر يسرا
بقلم: محمد الهادي الحسني-
زرت الشيخ عبد الرحمن الجيلالي في بيته، وذلك قبيل وفاته ببضعة أشهر.. وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث وقع بصري على صورة شيخ مهيب تتصدر القاعة.. انتبه الشيخ إلى انشغالي عنه وتركيزي على الصورة.. فسألني: هل عرفت صاحب هذه الصورة؟
نفيت معرفتي، فأدخل الشيخ يده في جيبه وأخرج منديلا، وراح يمسح به غبرات غالبها فغلبته، ثم تنهّد وقال: إنه شيخي وأستاذي أبو القاسم الحفناوي، صاحب كتاب “تعريف الخلف برجال السلف”.. فترحمنا عليه وعلى علمائنا. وقد نشر هذه الصورة في الطبعة الأخيرة لكتابه “تاريخ الجزائر العام”. (ج5 ص304).
ركز الشيخ نظره عليّ وسألني: هل ترافقني للترحم على روح شيخي؟
لم أتردد في الموافقة، ظنا مني أن الشيخ مدفون في إحدى مقابر مدينة الجزائر.. فقال الشيخ: هيئ السيارة، وحدد يوما..
سألت الشيخ: أين يوجد قبر شيخك؟ فقال: إنه قرب مدينة بوسعادة، وفي بلدة “أولاد ابراهيم”، المعروفة باسم “الدّيس”، وكنت أظن “الديس” هو ذلك النبات الذي يفترشه كثير من الناس، والحقيقة هي أن “الديس” هو رقم (10) باللسان الفرنسي، وسمي المكان كذلك لبعده بـ(10) كيلومتر عن بوسعادة – كما قيل لي.
كلمت الأخ الطاهر محمودي، وهو أحد أبناء المنطقة، ليهيئ سيارته، وفي اليوم الموعود توجهنا تلقاء بلدة “أولاد ابراهيم”، التي زرتها عدة مرات قبل هذه المرة.
إن السفر مع الشيخ عبد الرحمن متعة وأية متعة، فذاكرته العجيبة لم توهنها الأيام، ولم تنسها الأعوام.. فهذه قضايا دينية، وهذه حوادث تاريخية، وهذه لطائف أدبية، وهؤلاء علماء عرفهم، تلمذة لهم، كالشيوخ ابن شنب، وابن سماية، وبلخوجة، وأبي يعلى.. أو زمالة لهم في “مدرسة الشبيبة كمحمد العيد آل خليفة، وجلول البدوي، وفرحات الدراجي، وباعزيز بن عمر وغيرهم..
وانتقلنا إلى الحديث عن أحوال أمتنا الإسلامية، ومنها وطننا، فما سرّنا شيء مما يجري فيها، فهؤلاء حكام لا خير في كثير منهم، وهذه فتن كقطع الليل البهيم، تدع الحليم حيرانا، وكل معجب برأيه، وكل حزب بما لديهم فرحون، وأعداء الأمة يضحكون ويشمتون.. وغلب على حديثنا التشاؤم حتى كدنا نستيئس لولا أن أخرجنا الشيخ بذكر قصيدة “المنفرجة”، وهي من أشهر القصائد في التفاؤل وعدم اليأس المنهي عنه شرعا. وذكر الشيخ البيت الأول من هذه القصيدة وهو: اشتدى أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج.
ثم قلت: إن “بعد” العسر يسرا.. فإذا بالشيخ يحدجني بنظرة، ملئت منها “رعبا”، وقال: لقد جئت شيئا نكرا.. الله – عز وجل- يقول: “إن مع العسر يسرا”، وأنت تقول: إنا بعد العسر يسرا.. فاستغفرت لذنبي، واستسمحت الشيخ- وأنساني “قريني” الآية الكريمة: “سيجعل الله بعد عسر يسرا”. ولو تذكرتها لجادلت فضيلة الشيخ – تذكرت هذه القصة وشعبنا يكابد ما يكابد مما يدفع إلى التشاؤم ولهذا أذكر نفسي، وأذكر الإخوة بقوله تعالى: “إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا”، ولن يغلب عسر يسرين. و:
إن الجزائر في أمرها عجب …. ولا يدوم بها للناس مكروه
ما حلّ بها عسر أو ضاق متسع …. إلا ويسر من الرحمان يتلوه