إسماعيل العربي باحث خارج السرب
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
كانت كل الشروط متوفّرة ليكون اسم إسماعيل العربي (1919-1997) لامعا في سماء الفكر الجزائري فقد ترك خلفه آثارا كثيرة في مجالات معرفية متعددة إلا أنه رغم كل هذا الإنتاج الغزير والمتوفر في المكتبات لم ينل ما يستحقه من الاعتراف من طرف أهل القرار، والدراسة من لدن الباحثين الذين لم ينشروا عنه إلا مقالات قليلة جدا.
وإذْ أنشر اليوم هذا المقال في الذكرى الرابعة والعشرين لوفاته (31 مارس 1997) أتمنى أن يسدد قليلا من الدين تجاه ذلك الباحث المجتهد، ويثير الانتباه إلى تراثه النفيس، ويساهم في تحفيز الآخرين إلى دراسة آثاره النافعة.
نبوغ مبكر ومستقبل زاهر في الأفق
ولد إسماعيل أعراب المشهور بإسماعيل العربي في بني وغليس بدائرة سيدي عيش (ولاية بجاية) في عام 1919. درس في زاوية سيدي موسى ببني وغليس ثم التحق بجامع الأخضر بقسنطينة ليواصل تحصيله العلمي عند الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي لمس فيه النجابة والجدية منذ اللقاء الأول فاعتنى بتكوينه ثم كلّفه بالسفر إلى باريس والالتحاق بالشيخ الفضيل الورتلاني الذي عينته جمعية العلماء مندوبا لها في فرنسا. كما رشحه للسفر إلى مصر ليواصل دراساته العليا في جامع الأزهر. وقد راسل في هذا الشأن شيخ الأزهر الأستاذ مصطفى المراغي وطلب منه تقديم منح لـ6 طلبة جزائريين ومنهم إسماعيل العربي.
كما طلب من الفضيل الورتلاني أن يحدّث في هذا الموضوع العلماء الأزهريين الموجودين في فرنسا والقادمين من أجل تحضير شهادة الدكتوراه في جامعة السوربون من أمثال الشيخ محمد عبد الله دراز والشيخ عبد الرحمان تاج، ويبلّغوا وزير الأوقاف المصري أو شيخ الأزهر باستقبال بعثة طلبة جمعية العلماء وتوفير لهم كل شروط التحصيل العلمي ونفقة الإقامة في مصر.
إسماعيل العربي في مصر
سافر إسماعيل العربي إلى مصر في سنة 1939 وبقي فيها إلى غاية 1947. درس خلال هذه الفترة في جامع الأزهر، وفي الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي نال منها شهادة الليسانس في الأدب الانجليزي الذي سيخصص له سنوات فيما بعد دراسات وترجمات عديدة ثم جمعها في كتاب يتكوّن من 3 أجزاء تحت عنوان: “نماذج من روائع الأدب العالمي”.
وقد حضر دروس ومحاضرات العديد من الأساتذة المصريين وأذكر هنا محاضرات الدكتور عثمان أمين أستاذ الفلسفة المعروف في كلية الآداب بالجامعة المصرية الذي لمس فيه وفاءً للفكرة الاصلاحية ودفاعا عن أفكار الإصلاح التي نادى بها العلماء الرواد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا في مصر وعبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي والطيب العقبي وغيرهم في الجزائر.
كما حضر إسماعيل العربي النشاطات الفكرية والأدبية التي كانت تقام خارج الجامعة المصرية، وقد ذكر منها صالون الشيخ محمد عبد اللطيف دراز الذي كان آنذاك وكيلا لجامع الأزهر. وكان ينشط هذا المجلس العلمي نخبة من العلماء والمفكرين والأدباء المصريين والعرب وكذلك الطلبة المسلمين الأجانب الذين كانوا يتلقون العلم في المعاهد والمدارس المصرية. وكانت المناقشات متنوعة تتناول موضوعات فكرية وأدبية وسياسية يساهم في إثرائها الدكتور عثمان أمين، الدكتور محمد البهي والدكتور عبد الحليم محمود… والأستاذ دراز بالخصوص.
ولقد اغتنم إسماعيل العربي فرصة وجوده في القاهرة لزيارة دار الشيخ محمد عبده الذي بلغت شهرته الآفاق ومازالت آثار زيارته للجزائر في عام 1903 على ألسنة رجال الفكر والإصلاح الجزائريين. غير أن إسماعيل العربي تفاجأ بالإهمال الذي طال بيت هذا الزعيم الإسلامي الكبير. ولم يعد الناس يتذكرون كفاحه الوطني ويهتمون بنضاله الإسلامي، فقد صار هذا البيت الرمز «نهبا للرياح والأمطار»، وأصبح «المكتب الصغير الذي كان الأستاذ يسجل عليه آثاره القيمة، تغطيه طبقة كثيفة من خيوط العنكبوت». ولا أدري إن تحسن بعد ذلك حال بيت الشيخ عبده أو اهتمت به مصلحة الآثار وحوّلته إلى معلم يزوره الناس، ويستلهمون من عطاء صاحبه الشهير، ويتذكرون كفاحه الوطني والقومي، ويترحمون على روحه الطاهرة.
في رحاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عاد إسماعيل العربي من مصر في عام 1947 بعد أن نال شهادة الليسانس. وقد أسرع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى الاستعانة بخبرته واطلاعه على مناهج التربية والتعليم الجديدة وكلّفه بوضع تقرير كامل حول تنظيم التعليم العربي الحر. وقد نشر بعض فصوله في جريدة “البصائر”، لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهي تدل فعلا على اطلاعه الواسع على علوم التربية.
وتقديرا له عينته الجمعية رئيسا للجنة التعليم العليا التي كانت تضم خيرة أساتذتها ومعلميها. وقد نشرت جريدة “البصائر” صورة تذكارية لأعضاء هذه اللجنة وهم: علي مرحوم، إسماعيل العربي، العباس بن الشيخ الحسين، محمد الغسيري، الصادق حماني، عبد الحفيظ الجنان، أحمد بن ذياب، أحمد حماني، عبد القادر الياجوري، محمد الصالح رمضان.
وقامت هذه اللجنة برسم برامج مدارس الجمعية والتفتح على المناهج الحديثة، وضبط شروط الالتحاق بها سواء للتلاميذ أو للمعلمين، وضرورة الاشتراك في صندوق الضمان الاجتماعي والتأمين، وتحيين نظام التفتيش والترقيات وغيرها من القرارات الجديدة.
وفضلا عن هذا العمل البيداغوجي، واظب إسماعيل العربي على الكتابة في جريدة “البصائر” فنشر مقالات في التربية والسياسية والفكر. وكانت مقالاته تتسم دائما بجمال الأسلوب وعمق التفكير والاستدلال الدقيق. فقد كتب عن الوحدة الوطنية والقضية الفلسطينية وأشاد بالزعيم الهندي مهتما غاندي وقدم عرضا نقديا لكتاب “شروط النهضة” لمالك بن نبي…غير أن كتاباته قلت في هذه الجريدة بعدما تفرغ لإصدار مجلة “إفريقيا الشمالية” التي فتح صفحاتها لرجال الجمعية فكتب فيها أحمد توفيق المدني، أحمد رضا حوحو، محمد الصالح رمضان، أحمد سحنون، باعزيز بن عمر، عبد الكريم العقون، الربيع بوشامة… واعتبر الشيخ محمد البشير الابراهيمي إصدار هذه المجلة تحت الاحتلال الاستعماري وضغوطاته ومعوّقاته المختلفة بمثابة «مثال من تغلب الهمة على الصعوبة، وانتصار العزيمة على القنوط». فعلا تعب إسماعيل العربي كثيرا في إعدادها وتحمل ما لا طاقة له في توزيعها. وقرر في الأخير توقيفها بعد صدور 4 أعداد ريثما يسدد عجزها المالي.
من نوادي التهذيب إلى جامعة السوربون
زار إسماعيل العربي فرنسا للمرة الأولى في عام 1938 لما أرسلته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ليساهم في نشاطات نوادي التهذيب الإصلاحية التي كان يشرف عليها أستاذه الفضيل الورتلاني وعدد من رجال الجمعية. فتعاون معهم في تعليم اللغة العربية والإرشاد في صفوف العمال المهاجرين الجزائريين. ولما اندلعت الحرب العالمية الثانية، غادر إسماعيل العربي باريس وتوجه إلى مصر.
وعاد إلى فرنسا في عام 1949 طلبا العلاج في المستشفيات الفرنسية. واغتنم وجوده في باريس للتسجيل في جامعة السوربون لإتمام دراساته العليا. واختار تخصص التاريخ وكان يستمع باستمرار إلى المحاضرات التي كان يقدمها الأساتذة وينقلها في كراريس مدرسية ومازال يحتفظ ببعضها ضمن أشيائه الثمينة إلى أن لحق بالرفيق الأعلى في 31 مارس 1997.
لقد أنجز رسالة جامعية حول موضوع جغرافية ابن سعيد المغربي تحت إشراف المستشرق المعروف موريس لومبار الذي وصفه بـ «العالم المتضلع الذي يملك أدوات للبحث لم يتح لي أن أعرف أحدا يملك مثلها، فكان يستعمل ثلاث عشرة لغة للبحث، وذلك مع تواضع ونزاهة في البحث وتعاطف مع الإسلام». ووفاء لهذا الأستاذ الفرنسي ترجم كتابه “الإسلام في مجده الأول” والذي نال رواجا عند القراء في الجزائر وفي العالم العربي وطبع مرات عديدة. وفي سنة 1954 نال إسماعيل العربي شهادة الدراسات العليا في التاريخ من جامعة السوربون بعد جهد وفير وصبر كبير.
ولم تنقطع صلته بفرنسا فكان يزورها من حين إلى آخر، وكان يحرص في كل مرة على زيارة المكتبة الوطنية بباريس والإطلاع على رصيدها الثري من المخطوطات العربية وتصويرها عندما يسمح له بذلك، والاشتغال عليها بعد ذلك سواء بالرجوع إليها في كتاباته المختلفة أو بتحقيقها، وأذكر هنا على سبيل المثال: “تحفة الألباب ونخبة الإعجاب” لأبي حامد الغرناطي.
رحلاته في الشرق والغرب
سافر الأستاذ إسماعيل العربي إلى ليبيا وأقام فيها سنة واحدة حيث عمل مترجما في مكتب رئيس الوزراء. وبعد هذه التجربة، سافر إلى لندن حيث التحق بالقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية واشتغل فيها 4 سنوات وتكوّن بشكل جيّد في مجال الإعلام الاذاعي الذي لم ينفصل عنه، واستمر في إعداد وتقديم البرامج الإذاعية حتى بعد الانتساب إلى الوظائف الإدارية الأخرى، وأذكر هنا منها برنامجه الشهير الذي كان يعده ويقدمه في الإذاعة الجزائرية حول الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الصحراء. وقد نشر تلك الحلقات فيما بعد في كتاب بعنوان: “الصحراء الكبرى وشواطِئها”.
كما استقر عدة سنوات في جنيف للعمل في المنظمات الفرعية لهيئة الأمم المتحدة حيث سبقه إليها صديقه المثقف والمصلح الأستاذ محمود بوزوزو. ولما عاد إلى الجزائر واستقر في عاصمتها عمل مستشارا للشركة الوطنية للنشر والتوزيع. ولم يكتف بتقديم الاستشارة والتعبير عن آرائه حول الكتب التي تعرض على هذه المؤسسة بغرض الطبع، فقد تفرغ للبحث والكتابة والترجمة والتحقيق بعد أن ضمن طباعة أعماله التي بلغت ما يقارب 50 عملا أثرى بها المكتبة التاريخية والأدبية الجزائرية.
وسافر إلى العديد من الدول بحثا عن المخطوطات أو للمشاركة في الملتقيات العلمية. وأذكر هنا: الندوة الثانية للجنة العالمية للدراسات الموريسكية بتونس في ديسمبر 1983، والندوة القومية لكتابة التاريخ العربي ببغداد في ديسمبر 1987. وزار بهذه المناسبة قسم التاريخ في جامعة الموصل بدعوة من صديقه الدكتور أحمد الحسو. وما زال الطلبة العراقيون يتذكرون هذه الزيارة كما قال لي الدكتور ناصر عبد الرزاق جاسم الذي كان آنذاك طالبا في جامعة الموصل: «ألقى علينا محاضرة رائعة وأثار إعجابنا بعلمه الغزير وبوقاره وقامته المديدة وشعره الأبيض».
نظرات في آثـاره العلمية
يعتبر الأستاذ إسماعيل العربي من أكثر الباحثين الجزائريين إنتاجا وعطاءً رغم بعده عن العالم الأكاديمي، فهو لم يشتغل بشكل رسمي في الجامعة بسبب عدم حصوله على شهادتي الماجستير والدكتوراه. ورغم ذلك لم يتوقف عن البحث والكتابة والنشر، والتواصل العلمي المستمر مع المؤرخين المعروفين من أمثال الدكتور أبي القاسم سعد الله والدكتور ناصر الدين سعيدوني.
تنوعت أعمال إسماعيل العربي بين التأليف والترجمة والتحقيق. كما تعددت اهتماماته بين التاريخ والجغرافيا وأدب الرحلة والعلوم السياسية والاقتصاد والأدب العالمي. وقد أحصى له الباحث الدكتور مسعود فلوسي 46 كتابا، ويصعب عليّ الآن أن أذكر هنا كل عناوينها، لكن سأكتفي بالإشارة إلى أهم كتبه التاريخية أو التي لها صلة بالتاريخ: “المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر”، “دولة بني حماد ملوك القلعة وبجاية”،”دولة بني زيري ملوك غرناطة”،” دولة الأدارسة ملوك تلمسان وفارس وقرطبة”، “تاريخ الرحلة والاستكشاف في البر والبحر”، “دور المسلمين في تقدم الجغرافيا الوصفية والفلكية”، “كتاب سير الأئمة وأخبارهم” لأبي زكرياء يحيى بن أبي بكر، “نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد ـ رحلة الغزال وسفارته إلى الأندلس” لأحمد بن المهدي الغزال،…الخ.
أما مقالاته ودراساته المنشورة في الصحف والمجلات فهي كثيرة ولم يجمع إلا الجزء اليسير منها لحد الآن. ولا بأس أن أشير هنا إلى أهم المجلات التي حرر فيها: “الأصالة”، “الثقافة”، “الشعب”، “المجاهد الثقافي”، و”مجلة الدراسات التاريخية”….الخ.
واختلف منهجه في الكتابة فأحيانا يكتفي بالسرد وأحيانا أخرى يمزج بين السرد والتحليل على حسب الموضوع ومستوى القراء الذين يوجّه إليهم عمله. كذلك بالنسبة للتحقيق فأحيانا يكتفي بجهد إكتشاف المخطوط ونشره قبل أن يصيبه التلف ويتعرض النسيان كما حصل لمخطوطات كثيرة، وأحيانا يبذل جهدا كبيرا في التحقيق والمقارنة بين النسخ العديدة التي توصل إليها بعد بذل الجهد وإنفاق المال، وتأريخ للكتاب والاعتراف للمستشرقين الذين لهم الفضل في العثور عليه للمرة الأولى ونشره أو ترجمته إلى اللغات الأوروبية المختلفة.
ولا بد أن أشيد في ختام هذا المقال بمجهودات الأستاذ إسماعيل العربي الجبارة في ترجمة نصوص إنجليزية مهمة جدا كشفت جوانب مختلفة للحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في الجزائر في القرنين 18 و19 من خلال شهادات ومذكرات شخصيات إنجليزية وأمريكية عاشت في بلادنا في تلك الفترة الحاسمة من تاريخنا الحديث، وكتبت عنها بعروض وصفية ونظرة ثاقبة وروح نقدية لا شك أنها تساعدنا –إن اهتممنا بها- على فهم الوجه الآخر لماضينا الذي نظر إليه غيرنا بأعينهم الفطنة وعقولهم اليقظة، فربما نبهونا إلى أخطائنا التي لم نبصرها لنتجنبها في حاضرنا وغدّنا، أو أشاروا إلى محاسننا التي أهملناها فنقيّمها ونستفيد منها في واقعنا وفي مستقبلنا.