الذات الثقافية في كتابات أبو القاسم سعد الله
بقلم: محمد أرزقي فراد-
لا يختلف اثنان في سموّ مقام الدكتور المؤرخ بلقاسم سعد الله، المتميّز بالثقافة الموسوعية، الجامعة بين الإبداع الأدبي والكتابة التاريخية الأكاديمية الراقية التي وسمت حياته الفكرية، حتى لُقب بشيخ المؤرخين عن جدارة واستحقاق. كتب في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية فأبدع، وكتب في تاريخ الجزائر الثقافي فأقنع، وحقق كتبا مخطوطة فأنصف، وترجم كتبا فأمتع.
باختصار، أنجز الدكتور بلقاسم سعد الله موسوعة كبيرة خاصة بتاريخ الجزائر السياسي والثقافي غطت مدة خمسة قرون (الفترة العثمانية وفترة الاحتلال الفرنسي)، قد يستعصى إنجازها حتى على المؤسسات والمخابر العلمية، ولا غرو في ذلك، فهو القائل عن نفسه: طموحاتي أبعد من خيالي (أفكار جامحة، ص 189).
لقد جعل المؤرخ أبو القاسم سعد الله “تاريخ الجزائر الثقافي” بمثابة واسطة العقد لموسوعته التاريخية. فلماذا نحا هذا النحو؟ ولماذا لم يكتف بالكتابة في التاريخ السياسي الخاص بقيام الدول وسقوطها وتداول الملوك على سدة الحكم عبر الأزمنة؟ وما هو الحافز الذي جعله يغوص في الفكر والثقافة؟
لقد فعل ذلك – في رأينا- لأنه أدرك بحصافة رأيه أهمية الثقافة في صيانة الشخصية الوطنية، التي حاول الاستعمار طمسها بكل الوسائل. أشار إلى ذلك المؤرخ سعد الله بقوله: “… وكان هدفي من البحث هو إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور. ذلك أن المستعمرين الفرنسيين قد بثّوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنه لم يكن لأهلها ماض سياسيّ ولا ثقافيّ، وزاد إهمال الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر من حرصي على البحث والتنقيب. فالجزائر قد ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء.” (تاريخ الجزائر الثقافي، ج1، ص13.)
صحيح أن الدكتور أبو القاسم سعد الله لم ينطلق من الفراغ حينما استقر رأيه على الغوص في تاريخ الجزائر الثقافي، فهناك أعمالٌ سابقة لموسوعته أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: عنوان الدراية لأبي العباس الغبريني الخاص بعلماء بجاية في القرن 13م، وكتاب “تعريف الخلف برجال السلف” للحفناوي الصادر في مطلع القرن العشرين، وكتاب “المغرب العربي تاريخه وثقافته” للأستاذ رابح بونار الصادر في مطلع سبعينيات القرن الماضي.. لكن الدكتور أبو القاسم سعد الله استطاع أن يعطي قيمة مضافة لمكتبتنا التاريخية في حجم الجبال، قدّم موسوعة تاريخية مفصلة عن تاريخ الجزائر الثقافي لم يُسبق إلى مثلها. ومن فتوحات هذا الانجاز العلمي أنه أكد أن الانكسار السياسي لا يعبّر بالضرورة عن انكسار ثقافيّ، وأن تحدّي المحتل يعتمد على الصمود الثقافي. فاستطاع أن يبدع مفهوما جديدا وهو “الذات الثقافية”، ومعناه أن الشعب الذي يحافظ على ثقافته لا يموت حتى ولو تعرض للعدوان والاحتلال. فرغم إقصاء الجزائريين من المشهد السياسي خلال حكم العثمانيين الذين لم تكن لغة الجزائريين العربية هي لغتهم، ورغم خلو قصورهم من جلسات السماع الشعري وتكريم العلماء، ورغم عزوفهم عن تخصيص ميزانية للتعليم والثقافة، رغم ذلك كله، لم تعقُر الثقافة في الجزائر ولم يتوقف التعليم ولم ينقطع التواصل العلمي مع الوطن العربي. كلّ ذلك بفضل جهود الشعب الجزائريّ الذي موّل التعليم بالأوقاف، فاستمرت الزوايا والكتاتيب في الجبال والهضاب والواحات والمدارس في المدن، في تخريج متعلمين وعلماء أسّسوا مكتبات خاصة عامرة حافظت على الدين واللغة والانتماء الحضاري العربي- الإسلامي.
لقد أكد الدكتور سعد الله في هذه الموسوعة أن نكبة الاستعمار الفرنسي العنيفة، لم تنجح في إطفاء منارات العلم والتأليف، ولم تنجح في قطع صلة الجزائريين بمنابع المعرفة في العالم العربي. وأكد أيضا أن “الذات الثقافية” قد تحدّت الهزيمة السياسية، وأنه من رحم هذا الصمود الثقافي وُلدت الحركة الوطنية التحررية. ومن إيجابيات هذا العمل الفكري أيضا، أنه أخرج تاريخنا من مجال الظن إلى مجال اليقين، ومن التزييف إلى الحقيقة.
وبذلك صارت هذه الموسوعة التاريخية (تاريخ الجزائر الثقافي) أفضل سفير لتاريخنا في مكتبات العالم، وأزعم أن هذا الوصف ليس من باب الإسراف في الثناء عليها، خاصة عندما يقرأ القارئ “رسالة الكتاب” التي أوضحها الدكتور أبو القاسم سعد الله بقوله: “… ومع ذلك فإن لهذا الكتاب رسالة، فنحن إلى الآن لا نملك تاريخا لثقافتنا يحدّد معالمها ويكشف عن قيمها ويضبط علاقتنا بها. وقد كانت هذه الثقافة عربية إسلامية اشترك فيها الجزائريون من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. وهي ثقافة مهما قيل إنها متقدّمة أو منحطّة هي نحن في ماضينا، وهي التي نستمد منها اليوم ذاتنا وحقيقتنا، فالجزائريّ اليوم يجب أن يعتز بهذه الثقافة والانتساب إليها، لأن الشعوب التي ليس لها ثقافة لا وجود لها. ولا يهمّ بعد ذلك أن يقال عنّا إننا كنا سياسيا مستقلين أو مستعمَرين ما دام وجودنا الثقافي ثابتا لا يتزعزع. وهذه إحدى نقط رسالة الكتاب.” (تاريخ الجزائر الثقافي، ج1، ص24.).
وانسجاما مع منطلق تركيزه على أهمية “الذات الثقافية”، فإنه لم يقصِ في كتابه المتعلمين الجزائريين أصحاب الوظائف في الإدارة الفرنسية ومؤسساتها التعليمية والدينية والقضائية والثقافية، الذين خدموا الثقافة الجزائرية، أمثال محمد بن شنب، وعبد القادر المجاوي، وأبو يعلى الزواوي، وأبو القاسم الحفناوي، وعبد الحليم بن سماية، ومحمد السعيد بن زكري وغيرهم، فنوّه بأعمالهم الثقافية أسوة بغيرهم.