الأيام الأخيرة للأمير عبد القادر ووفاته
علي الصلابي

الأيام الأخيرة للأمير عبد القادر ووفاته

بقلم: د. علي الصلابي-

كانت أيامه الأخيرة يغلب عليها الهدوء والبساطة والنظام الدقيق، وكان يستعد للقاء الله عز وجل وينتظر الأجل، ومنذ حجه عام (1862م) وأصبحت حياته تميل إلى الزهد والعبادة والعلم والتعليم ومساعدة الناس.

كان الأمير عبد القادر يستيقظ قبل الشروق بساعتين، وينصرف إلى الصلاة، وتلاوة القرآن والأذكار والتفكر في فقه القدوم على الله عز وجل، ويبقى حتى شروق الشمس، وبعد صلاة الشروق يعود إلى منزله، ويتناول وجبة خفيفة، ثم يعمل في مكتبه حتى الظهر، وأذان الظهر يدفعه إلى المسجد من جديد، حيث يكون تلاميذه قد تجمعوا بانتظار وصوله، فيأخذ مقعداً ويفتح الكتاب الذي اختاره للمناقشة، ويقرأ فيه بصوت عال تقاطعه باستمرار طلبات الإيضاح التي يقدم الأجوبة عليها فاتحاً الكنوز العديدة في الدراسات والأبحاث التي تجمعت لديه طيلة حياته المديدة.

وبعد صلاة العصر يعود عبد القادر إلى منزله حيث يمضي ساعة مع أولاده، مستوضحاً عن النتائج التي حصلوا عليها في دراستهم، ثم يأكل، وعند غروب الشمس يعود من جديد إلى المسجد حيث يدرّس لمدة ساعة ونصف، وتنتهي مهمته كمدرّس لذلك اليوم، ومازالت لديه بعض الساعات يقضيها في المكتبة ثم يذهب ليرتاح.

وكان الأمير عبد القادر دقيقاً أيضاً في إحسانه كل يوم جمعة، كان بالإمكان رؤية الشارع المؤدي إلى منزله مليئاً بالفقراء المجتمعين كالعادة لتوزيع الخبز، وكان الفقراء الذين يموتون مفلسين تماماً ـ ليس في حيه فقط وإنما في دمشق كلها ـ يدفنون على نفقته، ويكفي أن يسمع بمعاناة إنسان ليسعفه فوراً، وكان يكرس بصورة مستمرة جزءاً من ماله للأعمال الخيرية.

استفاد الأمير من ذهابه الأخير إلى الأراضي المقدسة وحج مرتين، وبقي في مكة والمدينة تلك الفترة المتواصلة، واستقبله شريف مكة، وأمر بتخصيص غرفتين له في الحرم، واستفاد من العلماء والعباد، واجتهد في طلب العلم وفي العبادة، وبقي في مكة اثني عشر شهراً متتالية، وصرف كامل وقته للدراسة والصلاة والتأمل والصيام وملاقاة العلماء والزهاد وطلاب الاخرة، ثم بعد ذلك ذهب إلى المدينة، وبقي فيها أربعة أشهر على مقربة من المسجد النبوي، ثم عاد إلى مكة للحج من جديد وكانت تلك الرحلة زاداً روحياً لبقية حياته، حافظ على ذلك حتى أيامه الأخيرة.

1 ـ مرض الأمير عبد القادر ووفاته:

مع تقدم سن الأمير واعتلال صحته خفّ نشاطه وجهده، وعمّت الإشاعات عن حالته الصحية. وذهبت بعض الصحف إلى حد إعلان وفاته عام (1880م)، فرثاه الشاعر محمد إسحاق الأدهمي الطرابلسي، واطلع الأمير على ذلك وكتب يشكره، وكذلك يشكر الجرائد على اهتمامها به وتقديرها له، وكان ذلك مبعث سرور الأمير في نفسه، فقد علم بأنه بعد مماته سوف يكون له ذكر حسن {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ *}.

وأثناء تلك الأيام زاره الأديب التونسي محمد السنوسي، فأكرمه وأحسن ضيافته، وذكر الأديب التونسي جزءاً من سيرته ومرضه بعد ذلك في كتابه الرحلة الحجازية.

وفي بداية شهر (ماي 1883م) وكان معتكفاً بمصيف «دُمَّر» في داره يتهجد ويتبتل لربه، اشتد عليه مرض المثانة وحصر البول، فزاده الضعف والهرم، وفي منتصف ليلة (السبت 26 ماي 1883م) دعاه مولاه، وقبضت روحه، وحان أجله، وغسله نزيله وضيفه، الشيخ عبد الرحمن عليش الأزهري، وفي الصباح نقل في عربة من قصره في دمر إلى داره في الشام وصلِّي عليه في المسجد الأموي في مشهد قلّ نظيره، وخرج لتشييعه جمع كثير وغفير ، مع الخضوع والتذلل ، وشيَّعته دمشق عاصمة الأمويين في موكب مهيب ، وبدموع وقصائد رثاء سطرت بمداد مضيء، وكتبت مقالات جاءت لتكون اعترافاً بمكانته النضالية والفقهية والإنسانية، وتكريماً لهذا البطل من الله عز وجل على لسان سكان هذا الكوكب.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *}[ النحل: 41].

ودفن في الصالحية من دمشق أسفل جبل قاسيون بحي المهاجرين.

2 ـ رثاء الأمير عبد القادر:

ـ ومن الشعراء الذين رثوه الشيخ العلامة الكبير طاهر الجزائري، فقال في رثائه:

خطب تبدلت الدموع به دماً تجري كغيث هاطل مدار

وغدت به الأكباد وهي كليمة حرّاء حامية كجذوة نار

إلى أن قال:

واحسرتاه لليل من ذا بعده يحييه بالطاعات والأذكار

ذهب الذي قد كان برّاً عابداً مستغفراً لله في الأسحار

لهفي على الفقراء من ذا بعده ينجيهم من مخلب الإكسار

ويرد ناب البؤس عنهم تائباً ويفتك ما راموا من الأوطار

لهفي على الأيتام ماذا بعده يلقون من ضيق ومن إقتار

ذهب الذي كان خير أب لهم يوليهم فيض الندى المدرار

لهفي على الأدباء من ذا بعده يلقونه ببدائع الأشعار

ـ ورثاه من أدباء عصره الأديب حسن بيهم، من وجهاء مدينة بيروت، فقال في قصيدة من ستين بيتاً، منها:

مصاب به العلياء تبكي أميرها وكل امرأئ من ذا المصاب به شطر

به جاء ناعي البرق يرعد قلبنا فأمطرت الاماق ما ضمه الصدر

أجل مات عبد القادر الحسني ومن به سادات وافتخر الفخر

قضى العشر شغلاً لم يذق طعم راحة وما شغله إلا الجهاد والذكر

يراقب وجه الله في كل حالة وما للهوى نهي عليه ولا أمر

غدا في جوار الله أكرم نازل وبين ملوك الأرض كان له الصدر

به ملتقى البحرين للعلم والندى ففي صدره بحر وفي كفه بحر

وإن أعمل الصمصام أنشد وقعه لنا الصدر دون العالمين أو القبر

وإن شق قلب الحرب يوم كريهة يرى الموت طوعاً أو يرافقه النصر

فقدناه والامال ترجو بقاءه وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر

وساعة ساروا يحملون سريره قد عرفوا من هولها ما هو الحشر

ترى الناس غرقى في بحر دموعهم على أنه هول به أقفر البر

لئن مت يا مولاي والموت سنة ففضلك باق في الأنام له الذكر

3 ـ نقل رفات الأمير إلى الجزائر عام (1966م):

لم تنته ملاحم الكفاح وبطولات الجهاد، ونضال الأبطال في الجزائر، يستلهمون الصبر والعزيمة جيلاً بعد جيل من عقيدتهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم، وتاريخ ابائهم وأجدادهم. وسيأتي تفصيل نضال الشعب الجزائري ضد الاحتلال من بعد الأمير عبد القادر في الجزء الثاني من هذه الموسوعة.

لقد استمر الشعب في الكفاح، وقدم قوافل الشهداء، فأصبحت ثورة تعرف بثورة مليون ونصف مليون شهيد، واحتضن الشعب بجميع فئاته وأحزابه هذه الثورة وغذاها بالقوة والرجال إلى أن يئست فرنسا من النصر، وكان الجنرال ديغول قد وصل إلى الحكم وأصبح رئيساً للجمهورية الفرنسية، وقدّم عدة مشاريع لإنهاء الثورة لصالح فرنسا، فباءت جميعها بالإخفاق الذريع، وأخيراً اضطر إلى تقديم مشروع الاستفتاء فنالت الجزائر على إثره استقلالها التام، وانتصر الحق وزهق الباطل {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا *}.

وأخذت جحافل المستعمرين المنهزمين تغادر البلاد بعد مئة وثلاثين عاماً من الاحتلال، وخرج آخر جندي ومستوطن فرنسي، وعادت الجزائر حرة مستقلة بفضل الله سبحانه وتعالى، وبفضل تضامن أبنائها ووحدتهم الوطنية والدينية، ووقوفهم ضد المستعمرين كالبنيان المرصوص، ولم ينس أبطال الجزائر وثوارها وحكومتها وزعماؤها رفات الأمير عبد القادر ؛ فقد كانت سيرته الجهادية وأخلاقه الربانية ملهمة لهم، وأصروا على نقل رفاته من دمشق إلى الجزائر، وتواصلوا مع الدولة السورية وتم الاتفاق.

وفـي احتفال شعبي ورسمي نُقل رفات الأمير عبد القادر وهو في الواقع ليس رفاتاً، بل تراث وتاريخ ونضال وكفاح وجهاد، من دمشق إلى مدينة الجزائر البيضـاء بعد أن أصبحت دار سـلام، ليُوارى في التراب الذي روته دمـاء جروحه وتضحيات إخوانه وجنوده وأبناء جيله في ملحمة نادرة في تاريخنا المعاصر.

سار الموكب المهيب في شوارع دمشق، وراء النعش الملفوف بالعلم الجزائري، على عربة مدفع تتقدمها فرقة موسيقى الجيش وفرق رمزية من الجيش السوري تمثل جميع أسلحته إلى المطار، وعندما هبطت الطائرة التي تُقله في مطار مدينة الجزائر ؛ كان الملايين من الشعب بانتظارها، وعند سُلّم الطائرة وقف رئيس الجمهورية وكافة الوزراء وأعضاء جبهة التحرير، وما إن أطل جثمان الأمير الملفوف بالعلم الجزائري حتى امتدت أيادي رئيس الجمهورية والوزراء لتحمله. وفي تلك اللحظات علت أصوات عشرات الالاف من الجزائريين « الله أكبر » تشق عنان السماء، وكانت ترافق الهتافات زغاريد النساء، كما كانت دموع الفرح تملأ ماقي الجميع وتسيل مدراراً.

لقد قال الأمير عبد القادر لحظة الغدر به واعتقاله: إن الجزائر عربية وستبقى عربية، حتى لو احتليتموها مئة سنة. ويقال: إن التاريخ لقاء بين إرادة وحدث، أما الإرادة فكانت عبد القادر ومقاومته الشعبية، وأما الحدث فكان بعد قرن من ذلك، وهو كفاح الشعب الجزائري الذي نجح في التحرر من الغزاة المستعمرين.

وقد نظم الشاعر الكبير محمد الأخضر السائحي قصيدة عصماء حيّا بها دمشق الفيحاء بقوله:

يا دمشقُ الفيحاء ألف تحية قد عرفناك في الندى أُموية

أي بُشرى حملتها لبلادي برُفات الأمير أي هدية

وهو من قد سعى إليك اشتياقاً يستحث الخطى ليلقى الحمية

إنما قد رعيت حق إخاء عربي يا أختنا العربية

فاته أن يعود للدار حيّا ويرى الدار في الكرامة حيّة

ثم قال مخاطباً الجيش الجزائري:

انزلوا في العيون أو في الحنايا يا جنود الأمير هذي البقايا

أيُّ قبرٍ يضمها وهي أُفقٌ من معالي وقمة من سجايا

من عُلاها استمد جيشُ بلادي ذلك العزم يوم خاض المنايا

فدعوها منارة من سناها يتلقى الهُدى جميع البرايا

هي ليست كما سمعتم رُفاتاً بل تُراثاً مقدساً وعطايا

وقال مخاطباً روح الأمير:

أرجع الطرف عبر هذي البطاح لن ترى يا أمير غير النجاح

ذهب الغاصبون لا دو ميشيل لا دورليان ولا صليل السلاح

مات بيجو وألف بيجو وأودى كل جيش رمته هُوجُ الرياح

غبت لكن بقيت في كل شخص ماثلاً في القلوب والأرواح

لم تغب عن عيونهم في مكان كلُّ شبر ظنوه «خنق النطاح»

أنت في كل ثائر كنت تحيا عبقريا محنّكاً في الكفاح

4 ـ كلمة الرئيس عبد العزيز بو تفليقة التي ألقاها عام (1999م) بمناسبة إحياء الذكرى (167) لمبايعة الأمير عبد القادر هذا نصها:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى اله وصحبه إلى يوم الدين السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.

لقد جئناك في الموعد وفي المكان وفي البقعة المباركة بالذات التي تمت فيها مبايعتك في (27 من نوفمبر 1832م). جئناك بمثل ذلك الحماس الصادق الجياش الذي كانت تطفح به قلوب أولئك الجزائريين والجزائريات الذين وضعوا ثقتهم وأموالهم في إمام الجهاد والمجاهدين عبد القادر بن محيي الدين ابن مصطفى المختار الحسني، فبايعوه بالإمارة، ليقود جهادهم ضد العدو الغازي ومسيرتهم المظفرة نحو الغد الأفضل.

وكيف لا يغمرني الفخر والاعتزاز وأنا أقف وقفتي هذه بهذا المكان وأمام الشجرة المباركة الثابتة في عهدنا هذا، الذي استعاد فيه بلد الأمير عبد القادر كامل سيادته وحريته وكرامته، بفضل وفاء الأجيال المتعاقبة المتواصلة التي تمسكها بالعهد المقدس ؛ الذي قطعه شعب برمته على نفسه، وأودع مضمونه في أعماق ذاكرته الجماعية، متواصيا جيلاً بعد جيل بالوفاء له والالتزام به، ليتوارثه أبناؤه البررة أباً عن جد.

وكيف لا ألبي وأنا مدعو إلى حضرة القائد الهمام، الذي كان نبراس الأجيال المتوالية، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكيف لا ألبي الدعوة إلى حضرة من علَّمنا الرفض، رفض الظلم والجور، من علَّمنا رفع ثوبنا عن كل لوم، من علَّمنا الذود عن الدين بذلك النضال المستميت، من علَّمنا ركوب كل هول من أجل المكارم والثبات عليها، من علَّمنا كيف نجعل الغدر منا محالاً، وكيف ترقى بنا المكارم وتتنوع فينا الخصال، من علَّمنا كيف نكون نحن الرجال رجالاً للرجال، كيف لا اتي إلى هذه الحضرة وأقف وقفة من سبقنا من الأجداد وقفة تجلٍّ وإكبار وخشوع وأبايع رمز الأنفة والإباء، رمز المجد والشموخ، وأبايع هنا كل عظيم حبلت به الجزائر لنجدتها وتحريرها وإعلاء شأنها، أبايع السيد المهاب الذي يبقى أبد الدهر مهاباً وإن رحل إلى جوار ربه منذ عقود عديدة مضت وأسكنه فسيح جناته.

أيتها السيدات، أيها السادة:

إن أول ما يترتب علينا في مثل هذه المناسبة الطيبة من واجبات ؛ هو أن نشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعم علينا به من استعادة الاستقلال وسيادة كاملة على أرضنا، محققاً لنا بذلك الغاية التي كرّس عبد القادر جهاده في سبيلها، بعد أن غرس في قلوب أبناء وطنه الغيرة عليها يتوارثونها أباً عن جد، ويحمل شعلتها عبر السنين أبطال وبطلات، من أمثال لا لا فاطمة نسومر والشيخ الحداد والمقراني والشيخ بو عمامة والشيخ بو زيان والأمير خالد وميعالي الحاج وغيرهم من رعيل أول نوفمبر المجيد.

ومن أخلص مظاهر شكرنا لله أيها الأخوة والأخوات أن نلتئم في مثل هذا الحفل المهيب، ونجددها مبايعة صادقة صريحة لروح قائدنا الذي لم يطلب الإمارة، بل فُرضت عليه فرضاً من أجل تثبيت هويتنا، وتنظيم مواجهة الاجتياح العدواني الكاسح للبلاد، المبيد للعباد؛ وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره فقبلها مكرهاً، وحمل أمانتها محتسباً لخالقه، وناكراً للذات، متفانياً مخلصاً، وراح يستميت في الذود عن حق ربه، ويواصل الجهاد بالسيف، وبلسان الرشاد والسداد، وبالعمل الدؤوب والمثابرة والإصرار، رغم شح الوسائل وتفوق العدو عدة وعدداً، وخذلان المناصر وفقدان المعين، وتقاعس ملوك المسلمين وأمرائهم عن معونته ونصرته حتى باللسان، إنه جاهد وصمد في وجه الغزاة الدخلاء، والخونة المارقين والقعدة من ضعفاء النفوس.

وكما بايع المسلمون جدك رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وكما قال تعالى في سورة الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا *} صدق الله العظيم .

كذلك بايعك الجزائريون، إذ كنت أحسننا وأفضلنا، فرحم الله أولئك الذين بايعوك تحت هذه الشجرة على سنة أجدادنا الذين اقتدوا بالأسلاف الأوائل في مبايعتهم رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم يوم بيعة الرضوان، فما أحوجنا إلى صدق المبايعة التي خص بها أجدادنا الأمير، ثم انصرفوا إلى ساحة الوغى يخوضون المعركة تلو الأخرى في خضم وهج السنابك وطعن القنا وخفق البنود ورعد المدافع وقصف البارود لا تثنيهم لا مخاطر ولا صعاب، ولا تغريهم محاسن عيش، ولا يحسبون للموت حساباً، فكانوا قدوة حسنة لمن خلفهم من أبناء وأحفاد، تسلموا منهم مشعل الجهاد، فرفعوه عالياً وصانوا الأمانة من خلال معارك متواصلة على مدار القرن والنصف، حتى أفضت إلى طرد العدو وإزالة دنسه عن أرضهم، وكان سر نصرهم المبين وحدة الصف ورباط الدين الواحد، والانتماء المشترك إلى الوطن والقيم الفاضلة وصدق العزائم، وبقيت هذه أعمالهم وأخلاقهم إلى أن أدوا للجزائر حريتها وللشعب عزته وكرامته ومكانته المرموقة بين الشعوب والأمم، وكأن الله أبى إلا أن يمحو عار (الخامس من يوليو 1830م) المتمثل في الاجتياح الجائر الظالم للجزائر بنصر مبين باهر صريح تمّ في نفس اليوم ونفس الشهر من سنة (1962م).

ثم تابع رئيس الجمهورية كلامه، فقال:

أيتها السيدات، أيها السادة:

تمر شعوب العالم الحية الواعية في مسيرتها التاريخية بمحطات، فتتوقف عندها للتأمل في خضم أعمالها السالفة لمراجعة مضامينها على ضوء الأسباب والأجواء الخاصة ؛ التي ساهمت في أخذ كل قرار، وإرساء كل اختيار، فتكون مناسبة طيبة لمراجعة الذات، وتغيير ما بالنفس، والرجوع عن غواية أهوائها، وتقييم أعمالها، وذلك قصد مواصلة الطريق على أسس مجددة سليمة نحو غايات بينة الملامح مثمرة النتائج محمودة العواقب، فتُعبأ لها الوسائل الكافية المناسبة وتُشحذ لكسب رهانها الهمم المخلصة الوفية.

إن المبايعة التي نحيى اليوم ذكراها المئة والسابعة والستين لتعد بحق من تلك المحطات المصيرية في تاريخ الجزائر المجيد، وخصال شعبها الأصيل الأبي، إذ أقدم الجزائريون والجزائريات على تلك المبايعة، فدخلوا عهداً جديداً، عهداً متساوياً مع قيمهم السمحاء وتقاليدهم الخيّرة، عهداً يتميز بالغيرة على سلامة تراب الوطن واستقلاليته، والتطلع إلى التطور السريع المبني على العلوم وضروب التقنيات الحديثة، عهداً يفتح المجال أمام المساهمة الكاملة الفعالة للمواطنين في اختيار قادتهم وأخذ القرار عند البت في قضاياهم المصيرية.

إنه ليس من باب المصادفة بعد بدء الغزو وتواصله، وإن سقطت العاصمة واستسلم النظام العثماني القائم، وأخذت جيوش العدو تكتسح مختلف المناطق، تسفك الدماء، تفتك وتهتك الأعراض والممتلكات ؛ أن تتجه الأنظار إلى الشيخ محيي الدين لتوليه زمام الأمور وإدارتها، على الأسس التي يرتضيها الجميع.

أما الشيخ محيي الدين فقد رفض تولي السلطة لثقل مسؤولياتها وكبر سنه، ولم يتولها ابنه غير مخير إلا لخطورة الوضع وجسامة المشاريع الإصلاحية؛ التي تقتضيها في جميع المجالات أية محاولة جادة لمواجهتها وإيجاد الحلول لها.

إن حضورنا في الموعد والمكان قد تكون له أكثر من دلالة فنحن جئنا نجدد العهد ونستقي من معين الجهاد أزكى ما فيه من معاني حب الوطن، المقرون بعبادة الله عز وجل، هنيئاً لمن قاسموك على مر الأجيال جهادك بجهادهم، وكان سخاؤهم كبيراً وهم يجودون في سبيل الوطن بالنفس والنفيس والدماء الزكية الطاهرة، هنيئاً لمن ـ ولو بالأسوة الحسنة ـ حاول الاقتداء بك وبصحابك في الرجولة والاستقامة والتعبير عن المواطنة حقوقاً وواجبات، هنيئاً لمن سخروا أقلامهم وبيانهم وبلاغتهم، فأضفوا المزيد من الأضواء على من خطوا بسيوفهم صفحات تاريخ البلاد المشرقة، ولكن هنيئاً كذلك لمن لم يتناسوا زعماءنا من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها ، فأعطوا كل ذي حق حقه بنعمة القصد ، ونظرة الشاعر ودقة المؤرخ ، وبأمانة الشاهد النزيه، لكل رجل قام هنا أو هناك على مر الزمان مع زرافة من الأحرار، ليقولوا رفضهم الذي لا رجعة فيه للمحتل والمغتصب، وكل من أراد أن يغير فينا ما هو منا بما هو ليس منا، ولتكن نصيحتي رنانة مسموعة اليوم عند المجتهدين من الطلبة، وخاصة أولئك الذين تخصصوا في علم التاريخ، وهم لا يزالون يكدحون في الجامعات، فلتصل فرحتي إليهم حتى يزيلوا كل ما كدسه الغزاة من غبار على تاريخنا وأمجادنا ورجالاتنا وماضينا المجيد. ولكي يعلم أهل الذكر قيمة ما تزرعه معرفة تاريخ البلاد من مفعول في همم الرجال ونفوس الشباب الطامحين، من غيرة للذود عن حاضرهم وتصور مشرق بالأمل لمستقبلهم، مفعم بثقتهم بالماضي الثقة التي ترسخ هويتهم وأصالتهم وتضرب في الأعماق بأطناب جذورهم.

وكل من يساهم في دراسة هذه الصفحة المشرقة من تاريخ الجزائر وإضفاء المزيد من الأضواء على من خطوا بسيوفهم ونهجهم وأقلامهم وعلمهم حروف بيان من أمثال الأمير وخلفائه المتوزعين على مختلف مناطق البلاد.

أيتها السيدات، أيها السادة:

إن سـر صمود الدولـة الجزائرية الحديثة التي وضع أسسها الأمير، لمواجهة الغزو الاستعماري العـاتي طيلة المجابهة المسلحة ؛ التي دامت خمس عشرة سنة كاملة ؛ وبقـاء مبادئها حية متقدة في وجدان أبنائها عبر مختلف انتفاضاتهم المتواصلة الحلقات ؛ إلى غاية اندلاع ثورة نوفمبر المظفرة ؛ يعود إلى مميزات المبادئ القائمـة عليها هذه الدولـة، وطريقة توزيع السلطات ضمنها، والشروط الواجب توفرها في المسؤولين على المستوى المركزي والمستوى المحلي، ومن أهم مميزات هذه الدولة، دولة الأمير عبد القادر:

ـ أولاً: طابعها الأخلاقي الذي تتميز به قوانينها، ويتحلى به الرجال الساهرون على تطبيقها وخلفاؤه.

ـ ثانياً: التوزيع المحكم للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية داخل هذه الدولة بما فيها الجيش، وعلاقته الخاصة بالأمير ؛ الذي يرعاه بعنايته السامية ليكون الدرع الواقي للأمة.

ـ ثالثاً: التسامح الديني وتطبيق تعاليم الإسلام السمحاء على المواطنين، من أهل ومن يهود ونصارى، وحتى الأسرى من أفراد الجيش الغازي، فكان يرعاهم بعناية خاصة مطبقاً حقوق الإنسان التي شهد له بها العالم، من ملوك وأمراء عهده في حادثة المسيحيين في سوريا الحبيبة.

ـ رابعاً: ومن عظمة هذه الدولة الحديثة التي أنشأها الأمير ؛ أنها قامت على المبادئ التي بدأ ظهورها عبر القارة الأوروبية، وهي المبنية على القوميات والحدود الفاصلة، والرامية إلى إقامة «الدولة الأمة» جامعاً بين الأصالة والعصرنة.

هذا، وكان الأمير في سعيه من أجل تحقيق المشاريع الضخمة، يعتمد على التعبئة الشعبية وتضافر الجهود المخلصة، عملاً بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جعل من مجاهدة النفس والعمل الصالح الدؤوب الجهاد الأكبر ؛ الذي لا أمل في تحقيق النصر إلا به ؛ بوقوف أبناء الأمة الواحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.

وإن لعلاقاته الخارجية وسمعته على الساحة الدولية إنجازات ومناقب، يشهد له بها العدو قبل الصديق.

أيتها الأخوات، أيها الأخوة:

كان تحرير الجزائر وبناء دولتها الحديثة صفحة من البطولات والتضحيات، صور فيها شعبنا بروحه الأبية وبخاصة الشباب مثل الأمير عبد القادر ورفاقه، إصرارهم على عدم التنازل عن أدنى ذرة من عزة الوطن وكرامته والحرص على رفع مكانته بين الأمم وكان شباب الأمس يرمي بنفسه ونفيسه في سبيل تحرير الوطن ناكراً ذاته، فعلى شباب اليوم والغد أن يرمي نفسه بالتفاني والإبداع في سبيل بقاء الجزائر عزيزة كريمة.

عزة الجزائر وهيبتها في عزة الجزائريّ بنفسه وشيمه، ليست بماله وإنما بأخلاقه وروحه الأبية الوطنية، ليست بحسب ثروته وعصبيته، وإنما بالتعاون على النهوض بالمواطنة، ليست بجمع المال، فثروة العقل والإرادة ليست بالذهب والفضة وجمعها.

هذه هي أيتها الأخوات أيها الإخوة رسالة ذكرى المبايعة، وعلينا أن نرتفع إلى مستواها، نقبل وننهض بهذه المسؤولية التي سبقنا إلى حملها أجيال وأجيال قبلنا، وننذر أنفسنا للقيام بها خير قيام، ثم يأتي مَن بعدنا فيواصل على الدرب، وحسبنا أن يقال عنا حينئذ أننا أدينا الأمانة وخدمنا جزائرنا وأضفنا لبنة إلى صرحها الركين.

إن الله تعالى عظَّم شأن المبايعة وحذر من نكثها بقوله خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *} صدق الله العظيم.

فالشعب الجزائري لما هب لاستئناف النضال في (أول نوفمبر 1954م) ؛ بايع الله وشهداءه وأسلافه الميامين على مواصلة التضحية، من أجل كسب التحدي الكبير، الذي يجب على كل أبنائها أن يهبوا لمواجهته، ويبذلوا كل طاقاتهم لتحقيقه بتحرير البلاد، وبعث دولتنا الحديثة واسترجاع سيادتنا السليبة. ومن ثمة علينا أن نسير على هدي من سبقنا، ونستكمل المشوار معتمدين على الكفاءة العالية، والأمانة التامة، والولاء المطلق للشعب، والأخذ بأسباب التقنيات المتقدمة والوسائط والأساليب الحديثة، في مختلف مجالات التسيير والتخطيط والتقييم والمتابعة.

ذلكم هو ما عقدنا العزم على التعهد به يرضي الله والشعب الجزائري ومعه في المرحلة الجديدة التي دخلنا بعد (15 أبريل) الماضي إنه بناء جزائر المستقبل والمجتمع الأفضل، البناء الذي نأمل أن يكون ثلاثون مليوناً من البناة والمدربين والمقتدرين المؤهلين، إخلاصاً وأمانة وكفاءة، تترسخ فيه المنهجية الوطنية القائمة على توظيف نشر الحق والعدل والإخاء والمساواة، أي كل شروط المواطنة الصالحة ؛ التي لا تُستوفى إلا بوجود الأسوة الحسنة، وجوباً في قيادة البلاد من قاعدتها إلى قمتها، وإلا تعذر تعميم العيش الكريم بين الجميع، وبناء مجتمع الأمل والمحبة والخير، قبل أن أودعك أيها الأمير أريد أن ألتمس منك عذراً إن كنا تطاولنا عليك أنا ورفاقي، من ساروا إلى رحمة الله فاجتهدنا اجتهاداً مخلصاً وأرجعنا رفاتك إلى وطنك، وأنت صاحب المواقف العظيمة، وإننا هنا نعتقد أن الجزائر هي دمشق، ودمشق هي الجزائر، ولربما كنت هناك في راحة أكثر مما لو كنت في أحضان شعبك وذويك.

إن إخوانك في الشام احتضنوك وبجّلوك وكرّموك وأنت الكريم، وما كانوا يفعلون ذلك حباً فيك فقط، ولكن كانوا ينطلقون من أنك من أبنائهم وأن شعب الجزائر شعبهم، وكما كانوا انذاك فإنهم لا يزالون اليوم يفرحون لأفراحه، ويترحون لأتراحه، ويقاسمونه السراء والضراء، فأنعم به شعباً سورياً قوي الشكيمة في الوطنية، يعرف قيمة الرجال ؛ الذين تساموا بأرواحهم، وارتقوا إلى ما لا زلنا نتغنى به من مكارم الأخلاق على أبناء البشرية جمعاء، إننا قوم لا نتنكر للجميل، ونعتذر اليوم لمن اختطفناك منهم تحفظاً، وليس بوحي نية أنانية، لقد أتينا بك إلى وطنك، وطنك الأول برضاهم. أرجعناك إلى ديارك حتى نقول لمن أبعدوك عن مسقط الرأس وبيتك من الشعر، لمن قالوا بالأمس عدنا إليك يا صلاح الدين بنفس النخوة والاعتزاز والقوة. لقد عدنا بك يا عبد القادر والوطن العزيز يهتز خفاقاً للحدث العظيم من الشام إلى الجزائر، وسيعود صلاح الدين إلى الجولان فيسترجع الجولان كل الجولان وجنوب لبنان، كل جنوب لبنان ويعطي للفلسطينيين حقهم المشروع في دولتهم المستقلة بعاصمتها القدس.

إنك اليوم يا عبد القادر كباقي الشهداء لا امتياز يحيط بك أو يفضلك عليهم إلا ما تركته من حسن الذكر، وما تركت من جميل الخصال وكريم الأعمال، ومن تراث ثقافي تغبط عليه في الجزائر وخارجها.

هل جئنا اليوم لنتذكر فقط، أو جئنا لنتأمل فيما صنعت أنت والصديقين والشهداء الذين توافدوا من بعدك في كل شبر من الوطن، لنتأمل في المعنى العميق للرسالة التي أورثتموها للأجيال، أو لا تسمحون أن أخبركم بأن الوطن كاد يضيع، ولا زال البغاة من أعدائه في الداخل والخارج يريدونه في مهب الريح، ينتهكون الأعراض ولا يستحون، يقتلون الأطفال ويتبجحون، يعيثون في الأرض فساداً، يخربون بيوتهم بأيديهم، ويدخلون السرور والبهجة في كل مشؤوم يتربص ببلادنا الشر ويبتغي لها الانهيار.

ولكن ها هو الشعب قال قولته الفصل، وقولة الشعب فصل وما هي بالهزل، إنه شعب جنح إلى السلم والسلام إلى المصالحة والوئام.

وكما جئنا نعاهدك اليوم على أن نبقى على الدرب سائرين، لقد عاهد شعبنا نفسه وربه أن يبقى هو أيضاً على العهد، يدفع أغلى ثمن من أجل السلام ووحدة الجزائر تراباً وشعباً، والدفاع عن النظام الجمهوري، والالتزام بهيبة الدولة، واحترام صرامة القانون في عدالته.

قد يسمعني شباب لا يفهم لهجتي ولا يفقه كلامي ؛ لأنه استقى من وطنية تمخضت عن الاستعمار الاستيطاني والاحتلال، وهو لا يعرف شيئاً عن تلك العهود، ينظر إلى واقع الدنيا وكأنه في شاشة التلفزيون، ويريد أن يصل اليوم قبل الغد إلى مستوى الدول المتقدمة، ولا يعرف إطلاقاً ما دفع في سبيل ذلك من ثمن وجهود وتضحيات، شباب طموح منكوب بماسيه، من تزعزع الأمن والبطالة والحاجة إلى السكن والتطلع إلى المدرسة وانتظار المستشفى إلى غير ذلك من حاجيات لا تخفى علينا، كما هي لا تخفى على أبناء شعبنا الصالح منهم والطالح، شباب يرى من يتبجح تبجحاً مثيراً مستفزاً لحرمانه، مما دفع به إلى فقدان الأمل والرؤى القاتمة للمستقبل، لقد فسدت الأخلاق وعمّ فسادها أمن رجال ونساء لازالوا للعهود حافظين، يغارون على هذا الوطن الذي حباه الله بأهمية الموقع واعتدال المناخ وشساعة الأرض، وتعدد الإمكانيات، حتى أشارت إليه الأصابع بخير وكذلك بسوء.

رجال أمن غيورون على بلادي ليتعاونوا اليوم على البر والتقوى، ويتأكدوا نهائياً أن ليس لهم عن الجزائر وطن بديل، وأنه لابد أن يتقاسموا العيش في أرجاء هذا الوطن الحبيب، وأن لكل شيء بداية وبداية الأمور اليوم عندنا هو استتباب الأمن والاستقرار، ومن ثم نقسم بالله، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، ما من شيء تعسر اليوم على البعض إلا تيسر غداً للجميع، وإن بلادي من عند الله مرموقة، من أحبها أحبها بعشق المتيمين، ومن كرهها لا يجد راحة في التامر عليها وعلى مصيرها.

ومن هذا الباب أتوجه إلى أخواتي وإخواني أبناء شعب جزائرنا الغالية، وأغتنم فرصة إحياء ذكرى مبايعة الأمير عبد القادر، وأستعين بالله وبكم، وأدعوكم مرة أخرى إلى طريق الرشاد إلى سبيل العزة إلى نهج الكرامة، ولن يكون ذلك إلا منا جميعاً نساءً ورجالاً شباباً وكهولاً مشمرين عن السواعد في بناء الوطن والتوكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ونعم الوكيل.

وبارك الله في كل غيور لا زال يغار على عزة الجزائر وعلى كرامة شعبها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

5 ـ إطلاق اسم الأمير عبد القادر على مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية وإشعاع الأمير في العالم:

إن شعبية الأمير في الغرب لم تكن نتيجة العمل الإنساني الذي قام به إزاء المسيحيين فقط، بل إن أحداث دمشق التي كان الأمير بطلها لم تكن إلا لتزيد من تلك الشهرة التي كانت واسعة من قبل

لقد أثار كفاحه البطولي ضد أكبر قوة في أوروبا إعجاباً كبيراً في كافة أنحاء العالم الغربي، كما كان له صدى كبير حتى في أمريكا.

وهكذا ففي سنة (1846م) أسست مدينة صغيرة بولاية أيوا «iowa » من طرف ثلاثة رواد أمريكيين يسمون جون تومسون، وتيموثي ديفيس، وسيج تشيستر، أطلق عليها اسم القادر على شرف الأمير، وهكذا فإن سمعة الأمير قد تعدت بكثير مجال نشاطاته، ولم يكن من وراء هذا العمل الذي يشرف عليه إلا الإعجاب بهذا الرجل العظيم، وبعد أن اتفق الرجالعلى تسمية هذه المدينة التي كانوا ينوون تشييدها قال لهم تومسون: فلنتقابل غداً لوضع مخطط هذه المدينة، وهكذا فبعد (125) سنة سيعلم الناس بأن شيئاً هاماً يتعلق بالأمر.

وبتعبيره هذا فإن تومسون كان يعلم بأنه هو وأصحابه قد أحسنوا الاختيار، ولم يخطئوا فيما يخص خلود شهرة هذا الرجل الذي شرفوه، وتروي الصحيفة المحلية «سيدير رابيد قازيت» أن يوم (5 نوفمبر 1985م) قد خصص «يوم عبد القادر» أي بعد مرور (139) سنة من وضع أولئك الرواد الأشاوس لمخطط مدينتهم.

إن الذين كانوا يتجاهلون الوزن الكبير لشخصية الأمير، هم الوحيدون الذين اندهشوا لشيوع الإعجاب به في العالم، في زمن كادت به الاتصالات أن تنعدم، في نفس الوقت كانت كل أوروبا تتابع بإعجاب ملحمة الأمير وقتاله البطولي، وعبقريته التنظيمية، وهذا من قبل حتى معاهدة التافنة التي أقرته كرئيس دولة، كتتويج لنضاله الطويل.

وهكذا كتب المؤرخ الإنجليزي لورانس كايف: إن سمعة الأمير قد أصبحت أوروبية منذ (1835م)، وهذا الإعجاب بعبقرية الأمير الحربية، ووطنيته الفياضة، سرعان ما تحول إلى تعاطف عميق عندما بدأ نجمه يأفل، ثم انقلب بعد ذلك إلى سخط على تنكر الدولة العظيمة لوعدها، وقد كتبت مجلة «التايمز» مقالاً في هذا الموضوع (10/10/1851م): إن لعبد القادر في سجنه بفرنسا، نفس الصدى العالمي الذي حققه في السابق، عندما كان يقود فرسانه العرب.

كما أن كارل ماركس قد أجرى دراسة حول الأمير، تكاد تكون مجهولة، ويصفه فيها بـ «قائد مغوار». والرأي العام الفرنسي بدوره قد حيّا وبعبارات كثيراً ما كانت طنانة، شجاعة الأمير في القتال، وعزة النفس حين البلوى، وزيادة على ذلك الوسام الرفيع للجوقة الشرفية، فإن فرنسا قد منحته وساماً كتبت عليه العبارات التالية: أمير من شمال إفريقيا مدافع عن القومية العربية وحامي المسيحيين المضطهدين.

إلا أن عمله البطولي خلال أحداث دمشق بالذات ؛ هو الذي زاد كثيراً من إشعاعه في الغرب، أما فيما يخص الحكومات ؛ فإنها جميعاً قد منحته اسمى أوسمة بلادها.

وعلى كل حال فإنه من المؤكد أن عمله البطولي والإنساني لصالح المسيحيين لم يرفع مكانته عند الغرب فحسب، ولكن العالم العربي في مجمله قد قدر عمله سواءً من الناحية الإنسانية أو السياسية، وفهم أن تقتيل الأبرياء، لولا التدخل الشجاع للأمير، كان سيؤدي بفرنسا إلى وضع يدها على سوريا.

وقد رأينا أن أول من منح الأمير وساماً، ووضع صورته بجانب صورة أجداده، كان السلطان عبد المجيد نفسه، وقد وصلت شهرة الأمير إلى حد أن الخديوي كان يغار منه ويخشى منه على عرشه.

ولنذكر في الأخير هذه الملاحظة التي أبداها الملك فيصل ملك العراق سنة (1920م) لكاتب فرنسي يدعى «ب. ديسنايور سانتران» «يعد الحاج عبد القادر واحداً من أكبر رجالات الإسلام، وأكثرهم مدعاة للاحترام، وأجدرهم بتقدير الإسلام وإجلاله».



من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.