اختراق المخابرات الفرنسية لدولة عبد القادر

بقلم: د. علي الصلابي-

استطاع ليون روش عميل المخابرات الفرنسية أن يخترق دولة عبد القادر، وأن يصل إلى مكان مقرب من الأمير ويصبح مترجمه الخاص، ولعب دوراً خطيراً تحت قناع الإسلام، ويعتبر حلقة من حلقات الاستعمار في اختراقها للجزائر، فمن المعروف أن الحملات الاستعمارية الكبرى، باتجاه العالم الإسلامي، كانت تسبقها حملات مركزة للجوسسة للتعرف على الأرضية التي سيتم احتلالها، وكان من العادة أن يقوم بالمهمة مجند في أجهزة المخابرات، لديه خبرة واسعة بالأرضية، وأكبر مثال على هذا الجاسوس بوتان، الضابط في الهندسة العسكرية ؛ الذي أرسله نابليون بونابرت إلى الجزائر عام(1808م) وقام بإجراء دراسة دقيقة، والتي على أساسها تم احتلال الجزائر، لكن بعد الغزو العسكري سرعان ما اكتشف المحتل أن هناك مساحات كبيرة لم يتمكن من غزوها، فاحتلال الشعوب يقتضي التعرف بدقة على جغرافيتهم النفسية وخريطة عقولهم.

وهكذا بدأت المرحلة الثانية من حركة الجوسسة الاستعمارية، وذلك بإرسال رجال ونساء حتى يتغلغلوا في الشعوب، وينفذوا إلى أعماق النسيج الاجتماعي، ويقدموا التقارير الدقيقة والوافية عن تجربتهم في الداخل.

وستظل أسماء مثل ليون روش بارزة في مسيرة حافلة لهؤلاء الذين اخترقوا وتغلغلوا إلى أعماق المجتمع، فلم تكن التقارير العسكرية والأمنية كافية للسيطرة على هذه المجتمعات، بل كان من الواجب النفاذ بعمق في ألياف الحياة الاجتماعية والدينية والتجوال في دروسها والدخول إلى عمق أعماقها، فليون روش الجاسوس، كغيره من الجواسيس ندبته الحكومة الفرنسية في بداية غزوها للجزائر ليكون جاسوساً على الأمير عبد القادر، وأوعزت إليه أن يتظاهر عنده بالإسلام، وأن يتوصل أن يكون موضع ثقته ومحل أمانته، ففعل ذلك ونجح وأقام معه حوالي سنتين، كان خلالها يبعث بكل تفاصيل دولة الأمير عبد القادر إلى حكومته الفرنسية، ولم يكتف بهذا فقط، بل تخصص في إثارة الفتن بين الأمير عبد القادر والقبائل الأخرى، فكان هدفه إضعاف قوة المسلمين وتشتيتها من حول الأمير.

1 ـ قصة دخول ليون روش الجزائر:

ولد في فرنسا بمدينة غرونوبل في يوم (27 سبتمبر 1809م)، وبعد وفاة أمه كليمونتين شمبانو ذهب عند عمته، وبدأ دراسته الثانوية في ثانوية غرونوبل، ثم أكملها في ثانوية تورنون ونال شهادة البكالوريا عام (1828م). وبعدها بدأ دراسته الجامعية في جامعة غرونوبل في تخصص الحقوق، وبقي يدرس لمدة ستة أشهر فقط، ثم رحل إلى مرسيليا بعد أن أرسله أبوه للعمل هناك مع تاجر صديق له، فعمل معه وسافر بين فرنسا وشرق أوروبا، وزار العديد من دول شرق أوروبا، وكان عمره انذاك يقارب العشرين عاماً، كان أبوه الفونس ملحقاً بخدمات العتاد العسكري في الجزائر منذ الحملة الفرنسية (1830م)، واهتم بالعمل الفلاحي في ضواحي الجزائر، واقتطعت له مزرعة في سهل متيجة مساحتها حوالي (200) هكتار وكان يقوم بخدمتها بعض الجزائريين، ونظراً لتعدد مهامه، كتب إلى ابنه يطلبه للحضور ليساعده في الفلاحة بعد أن غاب عنه مدة طويلة. وجاء إلى الجزائر بعد انقطاعه عن والده لمدة أربع سنوات، وعاش في مدينة الجزائر، واختلط بالأهالي الجزائريين والأتراك والكراغلة والحضر، وتعلم اللغة العربية على يد رئيس مجلس قضاء الجزائر الشيخ عبد الرزاق بن بسيط، وتمكن من اللغة العربية وتحدث بها بطلاقة، وتعرف على العلماء والقضاة وأعيان المجتمع، وعرض نفسه كمترجم بين الفرنسيين والأهالي، وكان تعلمه للغة أمراً مدروساً ووسيلة مهمة للاختراق الاستخباراتي.

2 ـ مطية الجوسسة:

جعل من تفانيه في تعلم اللغة العربية والدخول في الإسلام مطية للجوسسة التي كان قد كلف بها من قبل كانت المخابرات الفرنسية أوكلت إليه أمر مراقبة الأمير عبد القادر، ورسمت له الخطط المناسبة، واستغلت المخابرات الفرنسية معاهدة التافنة التي جاء في بندها الرابع على السماح للمسلمين بالعيش أينما أرادوا، ولهم الحرية المطلقة في الانتقال من دولة الأمير إلى الأماكن التي يحتلها الفرنسيون، وكذلك يباح للفرنسيين أن يسكنوا دولة الأمير، فأوعزت المخابرات الفرنسية إلى ليون روش لمهارته في اللغة العربية ومعرفة تقاليد الجزائريين وثقافتهم، للالتحاق بمعسكر الأمير والتظاهر باعتناق الدين الإسلامي، والدخول في وسط جيشه والتقرب منه؛ للتعرف على أحواله والقيام بمهمته.

غادر ليون روش مقر أبيه بإبراهيم رايس، واستقر عند قبيلة بني موسى في منطقة متيجة، وقد كانت تربطهم به علاقة سابقة، إذ كان يخرج معهم في رحلات للصيد خلال السنوات الماضية، وأعلن إسلامه ونطق بالشهادة، وسمي بعمر بن عبد الله. وبدأ بإقامة الصلاة وإعلان الشعائر الإسلامية علناً، ومن بني موسى بدأ ينظم اتصالاته مع بعض الفرنسيين والجزائريين، بهدف جمع المعلومات الكافية عن أحوال دولة الأمير عبد القادر الفتية، ووصل إلى مدينتي بوفاريك والبليدة، وأظهر إسلامه أمام الحاكم لجلب نظره، واستبشر به خيراً، وفرح به أشد الفرح لاعتقاده في أن الله قد هدى نصرانياً من الشرك إلى الإيمان فاستضافه وأكرمه وقدمه لمرابط المدينة سيدي بلقاسم سيدي الكبير، الذي وثق به على حسن نية، فأقام عنده وعمل على إقناع سيدي بلقاسم بتزكيته والتوسط لدى الأمير حتى يلتحق به ويقدم خدماته له.

وعاد ليون روش إلى أولاد سيدي موسى وحمل متاعه في طريقه إلى مليانة ففتحت له الطريق ووصل إلى مدينة مليانة حيث كان يقيم صديقه عمر باشا الذي كان يعلم أن ليون روش ينافق ويتظاهر باعتناق الإسلام، فاستضافة وقدم له النصح عن كيفية سيرته وأوصاه بالحذر في تحركاته والفطنة في سلوكه لكي لا يجلب شكوك المسلمين حوله، وفي هذه الأثناء كان خليفة الأمير محمد بن علال غائباً عن المدية، فاتصل ليون روش بنائبه وكاتبه قدور بن رويلة، وشرح له قصته المزيفة عن دخوله في الإسلام وأنه يريد الالتحاق بالأمير عبد القادر ليقدم له خدمات جليلة واستبشر قدور بن رويلة ووعده بأن يصطحبه هو بنفسه إلى معسكر الأمير ويطلب من الخليفة محمد بن علال أن يقدمه للأمير شخصياً.

وعندما سار الأمير عبد القادر إلى الشرق وعسكر على ضفاف وادي نوغه جيء به عند الأمير، فاستقبله فصار يخبره ويؤكد له أنه اعتنق الدين الإسلامي بكل إخلاص، وطلب منه الدخول في خدمته.

وأمر الأمير عبد القادر أحد العلماء بالاعتناء بهذا الشاب، وتفقيهه في أمور الدين الحنيف، وقراءة القرآن وآداب الشريعة الإسلامية، وفي وقت قصير أتقن ليون روش هذه العلوم وسُرّ الأمير لذلك، واستجاب الأمير لطلبه الزواج من إحدى الفتيات المسلمات، وهكذا أصبح ليون روش مسلماً ومقاتلاً أيضاً إذ كان يشارك في المعارك في تلك الفترة.

وشرع ليون روش يرتب أمور عمله لأداء مهمته الحقيقية كجاسوس، وطفق في جمع المعلومات ومراسلة الفرنسيين وتعريفهم بأحوال الأمير العسكرية والسياسية وغيرها، ووصف الأمير في تقاريره وصفاً دقيقاً في شخصه ومناقبه ولباسه وأوصافه الجسمية والخلقية والدينية والثقافية، وبيَّن عدله واحترامه لتعاليم الإسلام، وهيبته واحترام الجنود والمواطنين له، ولم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بالأمير ودولته وقع عليها إلا أرسلها في تقاريره.

وفي بداية عام (1838م) أثناء إقامته في مدينة تلمسان حين أوفده الأمير عبد القادر ليتعلم القرآن وتعاليم الإسلام شك فيه أهلها من نواياه الحقيقية، وأخبروا الخليفة البوحميدي، ولما أحس ليون روش بالعيون تراقبه فرَّ إلى مدينة وهران إلى أن وصل إلى خيام بني عامر قرب عين تموشنت، وفي خيمة الاغا انكشف أمره، فاسترجع أدراجه إلى الخليفة البوحميدي، ودافع ليون روش عن نفسه من تهمة الفرار إلى العدو دون إذن مسبق والخيانة العظمى التي تستحق الإعدام، وفضلاً عن ذلك طلب وثيقة سفر ليتوجه إلى الأمير عبد القادر، ويشتكي له من قسوة المعاملة التي لم تكن تليق بمكانته، واتخذ موقف المهاجم أمام الخليفة البوحميدي وراح يعاتبه على عدم الثقة فيه رغم أنه مبعوث من طرف أمير المؤمنين، وأن قلبه يعمره الحب والرغبة في الإسلام، وله الحق كغيره من المسلمين في حسن المعاملة، حينها اعتذر البوحميدي له في أدب ووعده بمنحه رخصة السفر وتوفير الأمان له إن رغب في ذلك، ولكنه حذره من العودة إلى مثل ما قام به من عملية الفرار .

وفي شهر فيفري (1838م)، بعث ليون روش برسالة مطولة إلى جهاز المخابرات فصَّل فيها النظام الإداري والعرفي الذي كانت تسير عليه قبائل غرب الجزائر، وشرح لهم ما عرفه عن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والدينية التي كان يمارسها الأهالي.

وفي أوائل شهر («أبريل» 1838م) وصل إلى مدينة المدية، فجثا أمام الأمير عبد القادر راكعاً باكياً واشتكى إليه من ظلم وجور الخليفة البوحميدي ورجاله، وسوء معاملتهم له، وأنهم اعتبروه كافراً وليس مسلماً أتى من أجل خدمة الأمير ولنصرة الحق على الباطل، وإظهار النور على الظلام، وبالغ في التضرع والخداع حتى حنّ قلب الأمير عليه، باعتباره مسلماً غريب الديار، وصدّقه وأصبح من حاشيته، وعيّنه كاتباً ومستشاراً ورفيقاً يقرأ عليه ويترجم له ما يكتب في الصحف الفرنسية، وكان يحضر حتى في مجالسه السرية التي كان يعقدها مع كبار دولته، وكان اختراقاً هائلاً وعظيماً ساهم في القضاء على دولة الأمير، ومن الأسباب التي أدت إلى إضعافها وتكسير مقوماتها ومؤسساتها.

3 ـ انكشاف أمر الجاسوس:

في نهاية عام (1839م) سافر الأمير عبد القادر إلى تلمسان لتنظيم شؤون الدولة والجهاد دون أن يترك أية أوامر تخص ليون روش، فانتهز فرصة غيابه وخادع الناس بمهمة مزعومة إلى مدينة مليانة، ليتفقد مصانع الأسلحة، وأخذ كل ما يحتاجه من وثائق من بينها خريطة جغرافية جزائرية، وجهاز بوصلة وخاتمه بصفته كاتب الأمير، ورافقه جاسوس آخر هو ايزدور الذي كان يعرفه منذ أن كان يقيم عند أبيه من قبل، كما أخذ عدداً من الرسائل استعملها في شكل برقيات ليخادع بها كل من اعترض طريقه ويساعده في معرفة المواقع، وتوجه نحو مدينة وهران فاراً نحو الجيش الفرنسي، ولما وصل إلى منطقة معسكر أخبر من اعترضه من أهلها أنه ذاهب في مهمة إلى معسكر وتلمسان بأمر من الأمير إلى وكيله في وهران، ووصل ليون روش بصحبة رفيقه إلى مركز الجيش الفرنسي في ناحية الكرمة بالقرب من وهران، ثم انتقل من هناك إلى مقر حاكم الإقليم، ونسي الأمير ودولته وطفق يحارب مع الجيش الفرنسي ويطارد قوات المجاهدين حتى سنة (1844م)، فكرمته دولته الفرنسية وعيّنته بأعلى المراكز وكافأته على نجاحه في المهمة التي كُلف بها.

وذكرت الأميرة بديعة الحسني الجزائري في كتابها القيم بأن ليون روش استطاع تزوير رسالة باسم الأمير عبد القادر إلى أمير مكة مقلداً خطّه ووقعها بختمه الخاص، وهرب حاملاً الرسالة إلى فرنسا ومتجهاً إلى باريس، وأطلع حكومته على الرسالة فحمّلته هدية ثمينة، وأمرته بالسفر إلى مكة، فارتدى اللباس الجزائري وأخذ الهدية والرسالة، وسافر إلى مكة فوصلها معززاً مكرّماً.

وهناك قابل الشريف محمد بن عوف أمير مكة وسلمه الرسالة والهدية، فأكرم أمير مكة وفادته وعامله معاملة رسل الملوك، وبعد أيام كما هي العادة وكما كانت تقضي التقاليد العربية سلمه أمير مكة رسالة جوابية، ومعها هدايا ثمينة إلى الأمير عبد القادر، فرجع حاملاً هذه الأشياء إلى فرنسا وسلم حكومته الرسالة التي كان يُفترض تسليمها إلى الأمير، وبعد قراءتهم الرسالة تأكدوا أنه لا علاقة للأمير بأمير مكة، ولم يسبق أن ساعده بشيء.

وبعد نجاحهم في هذه العملية التجسسية أعادوا الكرّة مرات عديدة، فمرة كانوا يرسلون الجواسيس على أنهم سيّاح ومرة على أنهم تجّار، ولكن جميع تلك المحاولات كانت تبوء بالفشل، إلا أنه بعد هروب ليون روش وافتضاح أمره أصبح الحذر شديداً لدى المسلمين، والأوامر صريحة وواضحة بهذا الخصوص.

وقد ألّف ليون روش كتاباً تاريخياً بعنوان «اثنتان وثلاثون سنة في الإسلام» أصبح مرجعاً كبيراً لكثير من المؤرخين والكتّاب، وقد وصف فيه مقابلته الأمير في معسكر عين شلالة فقال: رأيت وسط المعسكر خيمة كبيرة يقف ببابها جمهور كبير إنها خيمة السلطان، وكان جالساً وحده في صدر الخيمة، فغضضت من بصري وتقدمت نحوه ببطء، ثم ركعت ولثمت يده كما هي العادة عندهم، ظننت أنني أحلم عندما رأيت عينين خضراوين تحيط بهما أهداب سوداء كثيفة، كان يحمل بيده مسبحة وتحيط بوجهه لحية سوداء حريرية، ولو بحث فنان عن صورة لعابد من عُبّاد القرون الوسطى يضعها على لوحته ؛ فإنه لن يجد حسب رأيي نموذجاً أفضل من الأمير ببرنسه الأبيض وجلسته اللطيفة، وعلى الرغم من مكانته العظيمة التي كانت تسمح له بالتعالي والسمّو ؛ كان طيباً لبقاً، ولم يكن أحد من الحرّاس بجانبه.


من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.