مالك بن نبي… المُثقّف الغريب
بقلم: عبد الله بن عمارة-
شخصية بن نبي وطريقة تفكيره المستقلّة وضعته بمعزل عن التصنيفات الأيديولوجية "التقليدية".
الحديث عن مالك بن نبي هو بالضرورة حديث عن مجموعة من المفاهيم والأفكار التي ارتبطت باسمه ومثَّلت حُمُولتها ومَضَامِينها، عُصَارة ما أنتجه وعيه كمثقّفٍ عَايَن مرارة العيش تحت نَيْر الاستعمار والفقر في بلاده الجزائر. فقد انكّب على دراسته وتفكيك تلك العلاقة المُعقّدة بين المُسْتَعمِر والمُسْتَعمَر كالكثير من الواعين من "أبناء المستعمرات" في الجنوب الجزائري. لكنه بن نبي تميّز عندما ربط كل ذلك بواقع "التخلّف الحضاري" الذي يعيشه العالم الإسلامي. فالاستعمار، برأيه، نتيجة لهذا التخلّف ما دفعه إلى صوغ "مشروعه الفكري" انطلاقاً من إطار مَفَاهِيمِي عُنوانه "مشكلات الحضارة".
قد يتّفق البعض أو يختلف مع بعض المفاهيم التي نَحَتَها مالك بن نبي، مثل "القابلية للاستعمار" و"عالم الأفكار وعالم الأشياء" و"شروط النهضة" وغيرها، لكن ربما يُجْمِع الكل أنها تستحق الدراسة والبحث. فمن هو مالك بن نبي؟ وما هي أبرز معالم "مشروعه الفكري" ؟ وماذا بقي من هذا المشروع؟
مالك بن نبي ومسار الحياة الشاق
وُلِد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة شرق الجزائر سنة 1905 لأسرةٍ فقيرةٍ كأغلب الجزائريين في ذلك الوقت. ارتبط بجدّته لأمّه المُعَمِّرة (أكثر من قرن) التي نقلت له ما عايشه جيلها من تشريدٍ ومصادرة الأراضي، أو ما وصلها من آبائها من أخبار المجازر التي ارتكبها الاستعمار. بالتأكيد كان لكل ذلك التأثير الكبير في تَشَكُّل وعي الطفل مالك بن نبي المُعادي للاستعمار، بالإضافة إلى ما لمسه من تمييز عنصري في مقاعد المدرسة الإبتدائية.
انتقل بن نبي إلى الثانوية، حيث مكَّنته قراءاته الأدبية والفكرية باللغة الفرنسية من التعرّف إلى المناهج الغربية في التحليل العلمي وقراءة الواقع الاجتماعي بعقلٍ نقدي، فضلاً عن مُرَاكَمَتِه لبعض المعارف في التراث الإسلامي من خلال مَن تأثَّر بهم من شيوخٍ في المدينة. فكان لذلك الأثر البالغ في تشكيل رؤية مالك بن نبي الفكرية ومُقارباته في قراءة واقع بلاده.
بعد إتمام دراسته الثانوية هاجر إلى فرنسا لدراسة الهندسة الكهربائية في ظروفٍ معيشيةٍ صعبة. وكانت تجربة الهجرة مهمّة وثريّة بالنسبة إليه، ليس لما للاختصاص العِلمي من تأثيرٍ على طريقة تفكيره فحسب، وإنما أيضاً كانت فرصة للتعرّف إلى نظام ومجتمع الاستعمار في "المتروبول"، وكذلك على النشاط السياسي والثقافي لبعض المُهاجرين المغاربة الذين التحق بهم. فقد بدأ الكتابة باللغة الفرنسية بُعَيْدَ الحرب العالمية الثانية حيث نشر كتاب "الظاهرة القرآنية" ثم رواية "لَبَّيك" وهي مُؤَلَّفه الأدبي الوحيد، ثم كِتَابَيْ "شروط النهضة" و "وجهة العالم الإسلامي"، قبل أن يهاجر بعدها إلى مصر التي بارك ثورتها ضدّ النظام المَلَكي واعتبرها "بداية بناء العالم الإسلامي". هناك أكرمه نظام "الضبّاط الأحرار" وترجم ونشر كتبه ليعود إلى الجزائر بعد سنة من انتصار ثورتها واستقلالها، حيث استقرّ فيها إلى أن توفى سنة 1973.
مالك بن نبي و"مشروع النهوض الحضاري"
مشكلات الحضارة وشروط النهضة:
كانت الإشكالية التي طرحها مالك بن نبي، في حقيقة الأمر، امتداداً طبيعياً للسؤال الأساس الذي طرحه روّاد ما اصطُلح عليه بــ "النهضة الإسلامية" بدءاً من جمال الدين الأفغاني إلى محمّد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا، وهو "لماذا تأخَّر المسلمون وما السبيل لنهوضهم من جديد؟".
إلا أن بن نبي صاغ إشكاليته ضمن إطار مفاهيمي تجاوز ما كان سائداً من اصطلاحاتٍ مثل النهضة والتقدّم....الخ، وحصرَها في مفهومٍ يستمد مضمونه من دراسة "سُنَن" نشوء وسقوط الدول ونظريات "العمران" التي أسَّسَ لها إبن خلدون، وهو "الحضارة".
فالعالم الإسلامي وفق هذه الرؤية هو في طور الأفول وليس التخلّف وانعدام الفعاليّة و"القابليّة للاستعمار" كشكلٍ من الانهزام النفسي والشعور بالدُّونية أمام الرجل الغربي (وهي تجسيد لما أسماه إبن خلدون ولع المغلوب بتقليد الغالب)، سوى أعراض لهذا الطور، أدَّت في الأخير إلى السقوط تحت رحمة الاستعمار الذي يُعيد إنتاج نفسه كل مرّة بأساليب مختلفة ليضمن بقاء المسلمين في حال التأخُّر، أو ليضرب محاولاتهم النهضوية.
يُسمِّي بن نبي هذا الطور بمرحلة "ما بعد المُوَحِّدين"، في إشارةٍ منه إلى الامبراطورية الكبرى التي أنشأها المهدي إبن تومرت، ووحّدت تحت رايتها كل بلاد المغرب والأندلس، وكانت مرحلة أفولها، حسب بن نبي، بداية لسقوط الأندلس وتَفَكُّك المغرب إلى كياناتٍ ضعيفةٍ وفاشلةٍ مهّدت الطريق نحو السقوط الأخير في يد الاستعمار.
وعليه، ومن أجل العودة بالحضارة الإسلامية إلى طور الأوّج، حدَّد بن نبي ثلاث مشكلات حضارية تتمثّل الأولى في مشكلة الإنسان المسلم في فترة ما بعد الموحّدين، وهي انعدام الفعالية والرُّكود والرضوخ للواقع. يرى بن نبي هنا أنّ من شروط النهضة هو وعي هذا الإنسان بحاله تلك، وإحداثه للتغيير المطلوب الذي يُفضي إلى نسفه لتلك الأغلال النفسية التي تُعيق حركته. أما الثانية فهي مشكلة التراب، أي القيمة الاجتماعية للأرض وللثروة كعاملٍ من عوامل النهوض، في حين أن الثالثة تتمثّل في مشكلة الوقت والزمن، فبن نبي يرى أنه "يتم تكييفه اجتماعياً، وإدماجه ضمن العمليات الصناعية والاقتصادية والثقافية باعتباره ركيزة تقوم عليها سائر إطرادات هذه العمليات، ويعتبر امتداداً ضرورياً لنمو واكتمال الإطرادات المتعلّقة بعِلم الاجتماع"، وفق ما كتبه في مُؤلّفِه "شروط النهضة". فالإنسان المسلم الذي قرّر أن يأخذ مصيره بيده عليه أن يعي قيمة الزمن، فيعرف أن انتصاره في الصراع الذي تفرضه عليه القوى المُهيمنة لاستضعافه في العالم، رهن بأدائه لعمله وإدارته لهذا الصراع بسرعةٍ وفعالية. فلا مجال لتبديد الجهود وتضييع الوقت.
شروط النهضة التي صاغها بن نبي في معادلته هي تفعيل هذه العناصر الثلاثة، مُعتبراً أن الفكرة الدينية أو ما يُسَمِّيه "المُركّب الحضاري" هي الإطار الذي يصهر كل تلك العناصر. كان بن نبي كثيراً ما يضرب الأمثلة بالصين الشعبية التي رأى في ثورتها ونهضتها في مواضع عديدة من كتبه، نموذجاً حيّاً لما كان يدعو إليه.
القابلية للاستعمار:
يعتبر مفهوم "القابلية للاستعمار" من أهم المفاهيم التي لاقت رواجاً كبيراً واستخداماً واسعاً في سياقاتٍ قد تتناقض، بالأساس، مع التوجّه العام الذي أراده به صاحبه، (لا مجال لسردها في هذا المقال). فالمفهوم الذي صاغه بن نبي جاء بالأصل للتعبير عن حال السلبية واللامبالاة التي تختصّ بها بعض المجتمعات الإسلامية، وتمنعها من تجاوز الواقع الذي فرضه عليها الاستعمار، بل وتتعدّاه إلى القبول به من دون بذل أدنى جهد لتغييره. فالقابلية للاستعمار بحسب بن نبي هي التي تُعيق المسلمين عن النهوض، ولا سبيل للتغيير سوى بالتخلّص منها.
وقد طرح الفكرة في إطار تحليله لواقع الاستعمار الفرنسي لبلاده. فهو ينفي أن تكون الهزيمة أمام الاستعمار نتيجة حتميّة للتخلّف الحضاري، أي أنه قد ينهزم شعب مُتَحَضِّر أمام شعب أقل تَحَضُّراً منه. وذلك طرح فكرة أن الغرب نهض وتَحَضَّر لأنه استعمر، ولم يستعمر لأنه تَحَضَّر. يستدلّ بن نبي لدعم نظريته هذه بأمثلةٍ من تاريخنا عن التتار وما فعلوه بحواضرنا في الشام والعراق، وبما فعله الإسبان بشعوب أميركا اللاتينية على رغم مستواهم الحضاري المُتَدنِّي مقارنة بمستوى تلك الشعوب، وصولاً إلى ما حدث في الجزائر، فيقول إن المُستوى التعليمي والثقافي للجزائريين كان يفوق نظيره عند الجيش الفرنسي المُسْتَعْمِر.
لكن هذا لم يمنع هزيمتهم أمامه. فالاستعمار الذي "لا يتصرّف في طاقاتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها مواطن الضعف فسخَّر لنا ما يريد"، بدأ سياسة إفقار وتجهيل مُمَنْهَجَة للجزائريين كانت نتيجتها أن خرجت فرنسا من الجزائر تاركة بلداً غارقاً في الأميّة. فالفكرة هي أن رضوخ المجتمع للهيمنة الاستعمارية يستدعي تسفيه فكرة المقاومة وانصياع تام و"طوعي" لكل ما يصدر عن هذه الهيمنة من قراراتٍ ثقافيةٍ أو سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ، فيصبح التحرّر من "القابلية للاستعمار"، وفق بن نبي، شرطاً ضرورياً للتغيير والثورة.
ماذا بقي من أفكار مالك بن نبي؟
شخصية مالك بن نبي النقدية وطريقة تفكيره المستقلّة، لم تمنعه فحسب، من الانخراط في جمعياتٍ كانت أقرب اليه فكرياً وإيديولوجياً، وإنما وضعته بمعزل عن التصنيفات الأيديولوجية "التقليدية".
فهو المفكّر الإسلامي المرفوض من "الإسلاميين"، لأنه أيّد ثورة "الضبّاط الأحرار" في مصر، في ذروة الصِّدام بين النظام الذي انبثق عنها وجماعة الإخوان( بل واتّضح في ما بعد أنه اتّخذ مواقف حادّة من هذه الجماعة)، ولم يُخْف إعجابه بالنموذج الشيوعي الصيني، والمفكّر الثوري المُعادي للاستعمار الذي، وإن كتب بإعجابٍ شديدٍ عن النموذج الثوري الصيني، وماو والثورة الثقافية، لكنه بقي منبوذاً في أوساط اليساريين الذين لم يرقهم ارتباطه بالمرجعية التراثية الدينية، وهو طبعاً لم يتمكّن من نَيْل إعجاب المُؤسّسة الدينية (الإصلاحية، ناهيك عن التقليدية).
جسّدت هذه الوضعية حالاً يمكن أن نُسمِّيها "غربة فكرية" استمرت حتى بعد وفاة بن نبي. فهو لم يترك جماعة أو حزباً يُؤَسِّس لأفكاره، وإنما مجموعة من التلاميذ و"المُريدين" في المشرق والمغرب، تختلف انتماءاتهم إلى حد التناقض أحياناً.
مهما تكن المواقف من "المشروع الفكري" لمالك بن نبي فإنه وجبَ الاعتراف أن معالمه لاتزال تحتاج للتمحيص وللقراءات النقدية، بعيداً من الحجم الكبير من الدراسات التي أُجريت حوله والتي يغلب عليها الطابع "التبجيلي".