الإمام ابن باديس وآراؤه التربوية
بقلم: د. خالد محمد الحاج-
ما أظن أن التاريخ العربي الحديث سيغفل في يوم من الأيام عن ذکر العلامة العربي العملاق (عبد الحميد بن باديس) وما أظن انه سيبخل أن يوسع له في صفحاته اكبر نصيب، واوفى مساحة بل ما أظن أن أمتنا العربية ستنسى فضل هذا العلامة الكبير عليها .
لقد آمن بأمته وبحقها في الحرية والاستقلال وبأنها جديرة بأن تتبوأ المكانة التي اختصها الله بها دون سائر الأمم، فكانت خير أمة أخرجت للناس .
ولد الشيخ عبد الحميد بن باديس في الخامس من ديسمبر سنة 1889 بمدينة قسنطينة بالجزائر، ونشأ في أسرة ذات جاه وشهرة بالدين والعلم والفضل، وترجع في أصولها الى المعز بن باديس الصنهاجي مؤسس الدولة الصنهاجية الأولى.
لقد حصل ابن باديس على الثقافة العربية الاسلامية في قسنطينة، ثم ارتحل إلى جامعة الزيتونة وأتم فيها دراسته الجامعية. وقد ساعده ثراء أسرته على أن يتحرر من الحاجة الى طلب الوظيفة من الادارة الفرنسية وعلى أن يخصص حياته بأسرها لإحياء الروح الجزائرية، وأن يعد أمته للمقاومة الفعالة التي انتهت بتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي سنة 1962، بعد استعمار دام 132 سنة.
لقد غرس الامام بذور النهضة والاصلاح في الجزائر، كما حصرا في اعداد هذه النهضة بعدة العلم الصحيح، وعلى أسس تربوية سليمة وبهمة معلم مطبوع على التعليم.
لقد وقف كالطود الشامخ في وجه الاستبداد والمستبدين وأهل الخرافة والمشعوذين، واستمر في جهاده ونضاله، حتى لبى نداء ربه راضيا مرضيا سنة 1940 .
مسلكه العملي في التربية والتعليم
يتجلى عمل الشيخ ابن باديس بالتربية والتعليم بالتدريس بالمدارس والمساجد وفي الوعظ والإرشاد والمناظرة والصحافة وغيرها من وسائل نشر الدعوة… مارس الشيخ ابن باديس مهنة التربية والتعليم، وأعطاها جل عنايته واهتمامه، ولكي نقدر جهوده حق قدرها، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار حال التعليم، وثقافة العصر، وما آل إليه أمرهما، بعد أن ابتليت الجزائر بالاستعمار الفرنسي الذي حاول أن يجعل منها جزء من فرنسا… وفي سبيل تحقيق أغراضه الخبيثة فقد أغلق المدارس، ومنع ابناء الجزائر من تعلم لغتهم، وتلاوة قرآنهم، ودراسة تاريخهم، كما حرم عليهم تدريس المواد العلمية والرياضية، وهكذا ظل حوالي تسعة أعشار ابناء الجزائر بلا تعليم، فقد ارادت فرنسا أن تنشئهم على التشرد والجهل والبطالة، لكي تعدهم للهجرة الى فرنسا للعمل في مصانعها كأي عاملة رخيصة.
شاهد المصلح ابن باديس، ذلك الانحطاط والقهر والاستبداد والجهل الذي حل بشعب الجزائر، فتألم لهذا الحال، وملك عليه نفسه، فنهض بدعوته الاصلاحية التجديدية، وأعد لذلك عدته بتدريسه وكتاباته ومحاضراته وخطابته.
كان الشيخ – الامام – مثالا أعلى للاستاذ الذي يريد تربية شعب بأسره، فكان يقضي نهاره وشطرة من ليله للتدريس دون انقطاع، اللهم إلا ساعه يخصصها للصلاة والغذاء، ثم يستمر في دروسه ولا ينهيها إلا بمجالس التذكير بعد صلاة العشاء. وكان يبدأ نهاره بتدريس الدين وعلوم العربية للصغار، متدرجا معهم حسب مستوياتهم المختلفة. وكان بمثابة أستاذ وحيد ينهض بعبء التدريس بفرده. وفضلا عن ذلك فقد كان يخصص قسما من ساعات الليل لتدریس کهول قسنطينة وشيوخها، حيث كان يفسر لهم القرآن الكريم في الجامع الأخضر ويدعوهم إلى الله، وإلى تغيير ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم.
وقد ذكر لنا الامام ابن باديس تاريخ بدء التدريس في الجامع الأخضر، قال: «وأما بدء تعليمي فيه فكان في عام 1332 هـ، وكان ذلك بسعي المفتي في ذلك العصر الشيخ المولود بن موهوب، وقد يسر الله لنا بفضله التعليم فيه الى اليوم (1938م)، ونسأل الله أن يجازي كل من أعاننا فيما قمنا به كل خير، وأن يسر لنا القيام بخدمة العلم فيما بقي من العمر.
لقد استمر الشيخ ابن باديس في مهنة التدريس، وكان يعلم أبناء الجزائر – شبابا وشيوخا – احتسابا لوجه الله، حتى ظن بعضهم أنه يتقاضى مرتبا كسائر الموظفين، وقد أشار الى هذا الظن إشارة لطيفة جادة ومرحة فقال: «مضت عشرون سنة والناس يشكرون للحكومة توظيفها مدرسأ، يقضي سحابة نهاره، وشطر من ليله في خدمة العلم الديني واللساني ونشره، ظنا منهم، أنني أتقاضی مرتبا كسائر الموظفين، وأنا لم أرزأ الحكومة فلسا واحدا، والفضل لله، وما كنت إلا مدرسا متطوعا مكتفيا بالإذن لي في التعليم، ذاكرا ذلك للناس عن الحكومة في المناسبات بالجميل» .
كان لابن باديس اليد الطولى في الثورة التعليمية التي أحدثها بدروسه الحية والتربية الصحيحة التي كان يأخذها تلاميذه، والتعاليم الحقه التي كان يبثها في نفوس أبناء الجزائر الطاهرة النقية.
آراؤه التربوية
لابن باديس آراء محدثة في تربية الطفل، ولم يقصر دور التربية على فترة معينة من حياة الانسان، ولكنه كان يؤمن بأنها استمرار الحياة الانسانية، وقد طبق هذا المبدأ على نفسه.
نقد ابن باديس، المناهج وطرق التدريس التي كانت سائدة في عصره . وبخاصة تدريس العلوم العربية والإسلامية في جامعة الزيتونة ، ونعى أنهم يتركون اللب من أجل القشور، ويغرقون في بحار من الجدل والتشعيب تنسيهم أصالة الفكر الإسلامي، ومدى تأثيره في النفوس، وقدرته على تغيير مقادير الشعوب. وهو يرى أن يرجع الناس (عامتهم وخاصتهم) في أدلة العقائد الى القرآن الكريم، والإعراض عن أدلة المتكلمين، ومصطلحاتهم الجافة، مما يسهل طريق العلم «أما الإعراض عن أدلة القرآن الكريم، والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة، ذات العبارات الاصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق العلم الى عباده، وهم أشد الحاجة إليه، كان من نتيجة هدمها ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الاسلام وحقائقه.
ويقول : فقد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة، ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله»، ويتعجب الشيخ من حالة علماء المسلمين في عصره فإن أغلبهم «أجانب أو کالاجانب من الكتاب والسنة).
وليس غريبا أن ينبه الإمام ابن باديس على قيمة العلم وشرفه، وهو الذي كان عالما ومعلما ومصلحا ومجددا فقد كان يؤمن بأن العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات. وهذا أصل اسلامی عظیم، يجب التمسك به، حتى تكون عقائدنا حقا، وأقوالنا صدقة، وأفعالنا سداد. «ولعمر الله، أنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم إلا بإهمالهم وتساهلهم في هذا الأصل العظيم.
ويرى الإمام إبن باديس أن من أوجب واجبات المعلم نحو تلاميذه، هي الشفقة عليهم ومعاملتهم بالرفق واللين وإسداء النصح لهم، وأن يجريهم مجری أبنائه، فلا يسرف في الشدة، لاعتقاده أن القهر يذهب النشاط، ويفسد المعاني الإنسانية في الأفراد والأمم. وهذا المبدأ التربوي قد طبقه الإمام على نفسه فقد كان – رحمه الله – يعامل تلاميذه كأبنائه، فكان يودعهم فردا فردة عند سفرهم إلى قراهم ومدنهم، ويأخذ بيد المذنبين برفق ويفتح باب الأمل أمامهم، ولم يسلك معهم مسلك العلماء شديدي التزمت، الذين يغرسون الرهبة في النفوس، بل نراه يأسر القلوب بتواضعه ومودته.
ولا يخفى فهذا المبدأ الخالد الذي نادى به الإمام، قد استقاه من السنة النبوية الشريفة فقد قال له: «إنما أنا لكم كمثل الوالد لولده، وقال أيضأ : اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فيه فارفق به».
ومن توفيق الله لهذا المصلح الحكيم ان يسر الله له تحقيق الوحدة الفكرية، بين الجزائريين على اختلاف نزعاتهم وثقافاتهم، وذلك، عندما اعتمد على مبدأ إسلامي جليل اتخذه دستورة له، وهو: «الكلمة الطيبة والدعوة بالموعظة الحسنة من قبلها فهو أخ في الله، ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوة في الله فوق ما يقبل وما يرد» .
وقد اصطلح علماء التربية الحديثة على تسمية هذا المبدأ بمبدأ التعزيز. وقد اصطنع الشيخ هذا السلوك النبيل مع تلاميذه ومريديه ومع خصومه على حد سواء.
ومن المبادىء التعليمية التي نادى بها المربي «ابن باديس» وتعد بحق من أجل المبادىء التربوية، هي: مراعاة عقل طالب العلم، واستعداده الذهني، والتدرج معه من الأخف الى الأثقل.
يقول الشيخ الابراهيمي: «أحد رفاق ابن باديس» في توضيح الفكرة التي ارتضاها ابن باديس في تربية النشء وتوجيهه: «وكانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة المنورة في تربية النشء هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة .. ولو مع علم قليل…. حسب التدريج – كما في التبليغ – الذي هو من سنة الله في خلقه وفي شرعه …. فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي اعددناه من تلامذتنا».
إن فكرة مراعاة عقل طالب العلم واستعداده والتدرج معه من السهل الى الصعب هي من الآراء التربوية التي تنادي بها التربية الحديثة.
لقد طالب «ابن باديس» المربين والمصلحين أن يعالجوا أمراض الأمة برفقة وأن ينظروا إليها بعين الشفقة والحنان لا بعين الزراية والاحتقار.. ومن توجيهات الرشيدة.
على مرشدي المسلمين أن يعافوا أدواءهم بالعلاجات النافية ويشخصوها لهم عند الحاجة بالعبارات الرقيقة المؤثرة في رفق وهوادة مجتنبین كل ما فيه تقنيط أو تثبيط، .
وهذا المبدأ مستقي من فلسفة الاسلام الحاني على أبنائه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس، فهو أهلكهم.
قال الشيخ ابن باديس معلقا: «إن هذا الحديث أصل عظيم في التربية المبنية على النفسية البشرية وأنه يحتاج إليه كل مرب، سواء أكان مربيا للصغار أم للكبار وللأفراد أم للأمم… إذ أن التحقير والتقنيط، وقطع حبل الرجاء قتل للنفوس، نفوس الأفراد والجماعات ، وذلك ضد التربية، والاحترام والتنشيط وبعث الرجاء أحياء لها، وذلك هو غرض كل مدرب ناصح في تربيته» .
التربية الخلقية
عقد المفكر ابن باديس فصلا طويلا تحدث فيه عن أهمية الأخلاق بالنسبة للفرد والجماعة، وسلك في ذلك مسالك الحكماء الذين يمزجون درر حكمهم بما يوافق الأمزجة المريضة من أساليب الكلام، ليبلغوا من نشر مبادئهم الغابة والمرام.
لقد قام – رحمه الله – بهذه المهمة الجليلة فبث تعاليمه القيمة بحكمة المصلح للأخلاق المهذب للنفوس، فأحيا للجزائريين أخلاقهم، واستنبطها من القرآن الكريم وعالج بها آفاتهم العائلية والاجتماعية، وأصلح بها نفوسهم. إن نظرته الأخلاقية الصادقة التي أجاد استنباطها من تعاليم الاسلام هي في اعتقادي أفضل مما قرره الفلاسفة، أمثال: سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من القدماء والمحدثين. فهو يبين لنا في كل يسر ودون جهاز معقد، من المصطلحات الفلسفية، أن الدين والأخلاق، يوجبان على المرء، أنه يعني بإصلاح نفسه أكثر من أن يعني بجسمه. ومن قبل قال سقراط: « إن حقيقة الإنسان هي نفسه، وان من یعنی بجسمه، إنما یعنی بشيء يخصه وأما من يعنى بماله، فهو يعني بشيء أبعد مما يخصه .
أما ابن باديس، فيرى ان المكلف المخاطب من الانسان هو نفسه وما البدن إلا آله لها ومظهر تصرفاتها، وان صلاح الانسان وفساده، إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها وما فلاحه الا بزکائها، وما خبثه إلا بخبثها، قال تعالى : وقد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها.
ومع ذلك فإنه يؤكد ضرورة العناية بالجسم، حتى يحدث التكافؤ بينه وبين النفس ، وهذا أمر يتسق مع ما يقرره الاسلام من ضرورة الجمع بين الدنيا والدين . لقد حض ابن باديس الناشئة على الصدق والتمسك بالفضائل الرفيعة والأخلاق العالية ودعا الى اختيار الرفقة الصالحة ومجالسة اهل الفضل ومفارقة مجالس السوء .
ويرى ابن باديس أن «الأخلاق الفاضلة هي موجودة في فطرة الإنسان بأصولها، وتنمو بحسن التربية وتنطمس بالإهمال» ثم يقول: (وإذا تربت الأمة على هذه الأخلاق وتدرجت إلى الكمال فيها، فذلك عنوان نجاحها وفوزها، وبلوغها غاية آمالها وسعادتها في الدارين).
وهذا الجانب من التربية الأخلاقية في مذهب الإمام ابن باديس، يفسر لنا ما ظفر به هذا المصلح الحكيم من أثر بالغ في المغرب العربي خاصة وفي العالمين العربي والاسلامي عامة.
وبعد: فهذه بعض آراء وأفكار العلامة ابن باديس التربوية، وقد استقاها من الكتاب والسنة، ومن تجاربه الواسعة التي أتيحت له والتي قلما ير لسواه من أصحاب الأنظار التربوية والتعليمية في زمنه.
عن مجلة رسالة المعلم