الفكر السياسي ما بين ابن باديس والغزالي
بقلم: عنتر فرحات بن هداد-
لا يستطيع أي دارس للعقل والفكر الإسلامي أو مجرد مطلع إطلاعات خفيفة أن ينكر أن الفضل الأكبر لنشوء وتطور العقل الإسلامي هو للمعتزلة، ومعروفة الحركة العلمية الواسعة والطفرة الكبيرة التي تحققت إبان فترة الخليفة المأمون، فكل ما انتجه العقل الإسلامي من القرن الثاني الهجري حتى يومنا هذا يرجع الفضل فيه للمعتزلة وإن كانت هذ الطائفة قد تم القضاء عليها كمؤسسة أو جماعة إلا أن آثارها باقية ما بقي علم النحو والمنطق والفلسفة والأصول والمقاصد.
ولكن في الوقت نفسه لا يستطيع أحد أن ينكر أنه لولا المجهودات الكبيرة والعقول الجبابرة للأشاعرة لما استطاع أهل الحديث مجابهة المعتزلة لأنهم كانوا أصحاب عقول لا تعرف المستحيل، ولن يقف أمامهم إلا عقول لا حدود لمعرفتها وهذا ما وجدناه عند الأشاعرة، حيث وجدنا الإمام أبا الحسن الأشعري (324هـ) وهو المعتزلي قبلها يبطل حججهم في مؤلفه العظيم الإبانة، ثم من بعد الخطابي (319)والباقلاني (338هـ) والجويني (478)، ثم جاء الإمام الغزالي (505هـ) واستطاع استخلاص هذا المنتوج الفكري العظيم للأشاعرة وأصبحت مدرسة عملية إلى يومنا هذا.
مثلما لا ننكر أن الفضل للمعتزلة في خدمة العقل الإسلامي، كذلك لا ننكر أن الفضل للأشاعرة في القضاء على المذهب الاعتزالي، ولهذا جعل بعض المستشرقين الأمان مثل – غلهلم شبيتا 1883م، و ألفردفون كريمر(1889) وهلموت رتّر(1971)، يرون في انتصار الأشاعرة على المعتزلة تعطيلا للعقل الإسلامي؛ لأنهم قضوا على الحركة العلمية الفلسفية.
-الفكر السياسي عند الإمام الغزالي:
لسنا في حاجة للتعريف بالإمام الغزالي، هذه العقلية الإسلامية السنية الجبارة، والذي يعتبر نتاجا علميا وفكريا للمدرسة الأشعرية، والتي أصبح هو المنظر الحقيقي لها، وكيف تبحر في العلوم العقلية والنقلية.
-ويظهر هذا:
أولا: في رده على الفلاسفة، والنقاشات الكبيرة التي دارت بينه وبينهم، حيث دونها في أكثر من مؤلف.
ثانيا:وتظهر عظمة هذا الإمام أكبر في أنه استطاع تشخيص داء الأمة العضال، وعالجه بطريقة سياسية محضة، ظهرت آثارها فيما بعد في الأجيال التي قادها الزنكيون ثم صلاح الدين لتحرير الشام ومصر ثم بيت المقدس.
-وهنا نُعَرِّج مع الإمام الغزالي كيف استطاع أن يسترد الأمة ويعيد إحياء الروح الإيمانية فيها، حيث بفكره الدقيقة و التراث الفقهي الذي توسع فيه استطاع أن يشخص داء الأمة؛ ثم وصف له الدواء الشافي، ويظهر هذا في نقاشاته مع الفلاسفة، ثم ما تضمنه كتابه العظيم الإحياء، الذي كان فعلا حياة للأمة الإسلامية، وأي مجموعة اليوم تجعل هذا الكتاب العظيم (الإحياء) قانونها؛ إنها بإذن الله سَتُرْشَدُ.
– بهذا الفكر السياسي الدقيق خرجت أجيال على يد هذه المدرسة العظيمة (مدرسة الغزالي)، حيث أن الغزالي لم يكن عالم شرع فقط؛ بل كان فيلسوفا متضلعا، ومفكرا حقيقيا بمصطلح اليوم، وهذ الأجيال التي نشأت في رحاب الفكر الذي أسسه الإمام الحجة، هي الأجيال التي وجدناها جنودا في جيوش الزنكيين، ثم أبطالا مع صلاح الدين فاتحين للأقصى وطارديين للصليبين وقبلهم الفاطمين، والمتتبع لحرب صلاح الدين ضد الفاطمين الشيعية فسيجدها كانت تدور في جزئيات دقيقة جدا (وهو ما سنخصص له كتابت خاصة)، وليس بغريب أن ينتصر الناصر صلاح الدين في هذه الجزئيات البسيطة على الشيعة الفاطمين؛ لأنه من مدرسة الإمام الغزالي.
-هذا مثال بسيط للفكر السياسي للإمام الغزالي وكيف أن فكره كان السبب المباشر في تحرير الأقصى وبلاد الشام من الصليبين، وتحرير القاهرة من الشيعة الفاطمين.
أي باحث أو متتبع لتاريخ الإمام الغزالي (505هـ) ثم يطلع ولو على عجالة على الإمام ابن باديس الجزائري (1358هـ\1940م) فإنه سيجد ابن باديس تقريبا صورة مماثلة أو مطابقة كثيرا إلى الإمام الغزالي، حيث أن كلا الرجلين استطاع أن يشخص داء الأمة، ثم وصف لها الترياق الشافي، وقد حصل بعده بعث جديد بروح جديدة، وهذا ما شهدناه عند الإمام الغزالي، وأنه هو من غرس النواة الحقيقية لتحرير بيت الأقصى ومصر والشام؛ فإن الأمر نفسه حدث مع الإمام ابن باديس، حيث كان هو السبب الرئيس في تحرير الجزائر من رَبَق المحتل الفرنسي الغاشم، وكمثال تقرييبي حادثة لاكوست سنة 1930م، لما أرادت فرنسا أن تحتفل بموت الإسلام في الجزائر، فردت عليها مجموعة من البنات بطريقتهن الخاصة، ما جعل لاكوست يعتذر للحاكم الفرنسي ما ذا أفعل إذا كان القرآن أقوى من فرنسا، ثم هذا الجيل الذي تربى على فكر ابن باديس هو من يحرر الجزائر.
حيثيات:
في حادث تعتبر عادية الأسطور الجزائري سنة 1827م يرد بقوة الأسطور الفرنسي في معركة نافرين، وليس هذا بغريب، لأنه لمدة أكثر من أربمائة عام والأسطول الجزائري سيد البحر المتوسط، حتى أنه في فترة كان الفرنسيون والإسبان يتجنبون الشواطي لما يزيد عن عشرين ميلا خوفا من الهجمات المباغتة للأسطول الجزائري القوي والسريع.
ثم ما ليس هو غير عادي بعد ثلاث سنوات فقط سنة 1830م، يتقدم الأسطول الفنرنسي ويقضي على الأسطول الجزائري في حادثة غريبة، ثم الداي حسين يسلم مفاتيح العاصمة الجزائر للفرنسين ويغادر الجزائر إلى إيطاليا، ولكن كل هذا لم تكن النهاية؛ بل كانت البداية، حيث أن الشعب الجزائري لم يستسلم باستسلام الحاكم التركي، بل راح يقاوم المحتل وبكل ما أوتي من قوة، حيث استمرت مقاومة الجزائرين للمحتل أكثر من سبعة وسبعبن عاما، وكانت آخر مدينة جزائرية تمت السيطرة عليها سنة 1907م، وإذا رجعنا إلى الثورات ضد المحتل فسنحدها ثورات عظيمة مابين طويلة وقصيرة ولكنها كانت كلها هادفة ولها دلالات قوية في تاريخ الأمة الجزائرية فمن ثورة الأمير عبد القادر التي استمرت أكثر من سبعة عشر عاما، وثورة بوعمامة، والمقراني والحداد، وأحمد باي والزعاطشة إلى باقي ربوع الوطن، والمتبع لتاريخ هذه الثورات فإنه سيجد كل أبطالها كانوا أشاعرة وأصحاب طرق صوفية، ولكن في لَحظةِ غَفلةٍ تستعين فرنسا اللعينة بالفكر الانجلوسكسوني وتبدأ حربا جديدة ضد الجزائر، ولكنها كانت أشد خبثا ومكرا من حرب الإبادة الأولى، لأنها حربٌ فكرية، حيث استطاع المحتل أن يقنع بعض شيوخ الطرقية أن هذا المحتل هو بلاء من الله، ويجب على الشعب الجزائري الصبر على ما قدره الله عليه، وليس لهم إلا الاكثارمن العبادة من أجل جلاء المحتل، وفي هذه الفترة تبدأ تنتشر الخرافة والجهل والتعلق بالقبور والزوايا، وكل هذا يعتبر امتدادا للتصوف الجديد، وبهذا المكر استطاعت فرنسا أن تضمن ولاء شيوخ الطرقية الجدد، وتهنأَ بأنه لا مقاومة بعد اليوم من الشعب إلا بعض المناورات الشكلية.
وإن كانت هذه الحرب الخطيرة التي بدأ تطبيقها على الشعب تقريبا سنة 1902م، إلا أن سنة 1889م، كان الله قد أكرم الأمة الجزائرية بميلاد طفل سيكون على يديه إبطال سحر ومكر فرنسا، إنه العلامة عبد الحميد بن باديس، (حياته وآثاره غنية عن التعريف)، استطاع ابن باديس وهو في ريعان شبابه أن يفك شفرة المحتل الفرنسي، وأن قوته الحقيقية اليوم ليست في البنادق أو المدافع التي يمتلكها المحتل، ولكنه عرف كيف يستغل ويحتل عقول الجزائرين عبر هؤلاء الطرقية المخادعين، كان ابن باديس من الجزائر الأشعرية الصوفية، وهو اليوم يرى صوفية غير الصوفية التي تعرفها الجزائر، أصبح حال الأمة الجزائرية اليوم مثل الذي كانت عليه إبان فترة الإمام الحجة الغزالي تتكرر الأحداث والمشاهد؛ لذلك لم يوجه ابن باديس سِنَامه ضد المحتل؛ لأنه أدرك يقينا أن تحرير العقل الجزائري هو تحرير لأرضه، وبدأت حرب شديدة بين ابن باديس والطرقية الصوفية، وقد حاولوا اغتياله أكثر من مرة، لم يحارب الطرقية فقط، بل بدأ فعلا يسعى لتحرير العقل الجزائري من الشَرك الذي أوقعهم المحتل الفرنسي فيه، وذلك ما جعله يهتم بالصحافة والمسرح، فقد أنشأ أكثر من جريدة، وإن كان المحتل لا يسمح لها بأن تعمر طويلا.
مهما كانت محاولات المحتل من ثَني ابن باديس عن مشروعه، سواء بالطرقية أو بمنع نشاطاته أو بحصاره في بيته ثم قتله بالسم، إلا أن فكر ابن باديس حرر الشعب الجزائري حقيقة، وفعلا لم تمر إلا خمس سنوات بعد وفاته (1940) ثم تظهر أكبر انتفاضة في الجزائر حيث استشهد فيها أكثر من خمسة وأربعين ألف شهيد سنة 1945م، ثم كانت هذه الانتفاضة بداية حقيقية لاندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر سنة 1945م، والتي بسببها أخذت الجزائر استقلالها من المحتل الغاشم بعد 132 سنة من العذاب المستعر من المحتل الغاشم.
أي متتبع ومهما كان توجهه فلن يستطيع أن ينكر أن بعث الأمة الجزائرية كان بفضل الإمام ابن باديس؛ لأنه هو الذي حرر العقل الجزائري من أغلال المحتل، وأن الجيل الذي تربى على يد ابن باديس هو الجيل الذي حرر أرض الجزائر.
وهنا يقينا أن الإماميين أن باديس والغزالي لم يكونا علماء شرع فحسب، بل كان كل منهما مفكر راسخ القدم في الفكر السياسة ومحلل عميق لوضع الأمة.
رحم لله الإمامين.