مالك بن نبي وفكره الذي لا يموت
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
في نهاية شهر اكتوبر الجاري تحل الذكرى السابعة والأربعون (31 أكتوبر 1973م ـ 31 أكتوبر 2020) لرحيل المفكر العالمي مالك بن نبي الذي يعد من ألمع المفكرين الجزائريين في القرن العشرين، ومن أهم مفكري النهضة الإسلامية وفلاسفة الحضارة في العصر الحديث.
ولد في الفاتح جانفي 1905 في عهد احتلال فرنسا للجزائر، امضى أربع سنوات بكتاب تحفيظ القرآن الكريم بمدينة تبسة بالتوازي مع دراسته في المدرسة الفرنسية إلى أن أتم تعليمه الابتدائي والإعدادي. وكان طالبا تلميذا لامعا متفوقا، ولما أنهى تعليمه الثانوي عام 1925 سافر إلى فرنسا لكنه عاد إلى الجزائر لعدم حصوله على فرصة عمل، ثم عاد مرة أخرى في سنة 1930 إلى فرنسا لمواصلة دراسته، غير أنه لم يستطع الانتساب إلى معهد الدراسات الشرقية، فتوجه إلى مدرسة اللاسلكي حيث حصل على شهادة مهندس كهرباء عام 1935.
سخر مالك بن نبي فكره وقلمه لخدمة امته والنهوض بها من كبوتها الحضارية، وخلف بعد رحيله ثروة فكرية كبيرة، وسجلا حافلا بعطاء وإبداع فكري أحدث تأثيرا كبيرا في اجيال المثقفين العرب والمسلمين المعاصرين في الشرق والغرب.
كان من أشرس الخصوم الفكريين لمالك بن نبي الذين وقفوا ضد طموحاته الدراسية والمهنية داخل فرنسا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي حاول إيذاءه بشتى السبل بعد أنفشل في استمالته ووضعه تحت وصايته الفكرية ،لقد رأى المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في مالك بن نبي خصما إيديولوجيا وخطرا فكريا على خططه الهدامة الهادفة إلى بث الفرقة والشقاق بين الشباب العربي وخاصة شباب شمال افريقيا.
وقد تطرق بن نبي في كتاب المذكرات «العفن» إلى تجربته المريرة مع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي لعب دورا مُهِماًّ في سياسة فرنسا في بلاد المسلمين خلال الفترة الممتدة على أكثر من أربعة عقود (من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى موته سنة 1962)، كان منتميا إلى المخابرات الخاصة، كما كان عضواً في عدة لجان وزارية مشتركة، ومن بينها اللجنة المكلفة بالشؤون الجزائرية خلال الفترة الاستعمارية (كتحضير الاحتفال بالذكرى المئوية للوجود الفرنسي في الجزائر، وإعداد القانون الجزائري سنة 1947) وليس من المستبعد أن يكون وراء «الظهير البربري» الذي فرضته إدارة الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1930.
الصدام الفكري الذي دار بين مالك بن نبي، وبين أحد كبار المستشرقين الغربيين في القرن العشرين جعلت المفكر الجزائري يدرك أهمية ظاهرة الصراع الفكري وخطورة المستشرقين على نهضة العالم الاسلامي. قد لا يكون مالك بن نبي هو أول من اكتشف الصراع الفكري أو عانى من سهامه، ولكنه أول مفكر عربي يستخدم مصطلح الصراع الفكري وقد صرح بذلك في إحدى محاضراته التي ألقاها في أواخر حياته في 1973 قائلا: «إنني أعتقد أني أول مَن استعمل مفهوم (الصراع الفكري) منذ خمس عشرة سنة».
ولإلقاء الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة والتنبيه للاستراتيجية الماكرة للدول الاستعمارية وفضح اساليب التضليل والتغليط والتخذيل التي يستخدمها المستعمر لإدامة سيطرته على المسلمين والدول المستعمرة كتب المفكر مالك بن نبي سنة 1957كتاب (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) والذي صدر في القاهرة سنة 1959ويقول فيه: «إن البلاد المستعمرة لا تعرف عموما ما هو الصراع الفكري، وإنما تسجل تلقائيا نتائجه السلبية في حياتها، فحين ترسل إلى الخارج بعثة من الطلاب للدراسة العليا، فقد قامت بعمل يتصل بالصراع الفكري، ولكنها لا تعلم بالضبط مقتضيات هذا الصراع وأسلوبه ووسائله وأهدافه». يشير مالك بن نبي إلى الصراع الفكري ،بأنه «الكفاح المُرُّ، الأصمّ، والذي يجري دوما في الخفاء ولا يجري في العلن إطلاقاً». كما يتأسف لغياب الاهتمام بخطورة هذه الاستراتيجية الاستعمارية في العالم الإسلامي حتى من طرف العلماء المسلمين، فيقول: «فحتى العلماء – أي المسلمين الأقرب منا- كانوا بعيدين عن النظر إلى الأشياء بعمق، فكان جوهر المأساة الدنيوية غائبا عنهم تماما».
لقد كانت فئة المستشرقين هم الادوات الناعمة في ترسانة العدوان الاستعماري لكسب جولة الحرب الفكرية في معركة الصراع الفكري على الدول الإسلامية وإحكام السيطرة عليها ونهب ثرواتها ومنعها من التطور والتقدم، ويعرف مالك بن نبي في كتابه (انتاج المستشرقين واثره في الفكر الاسلامي الحديث) المستشرقين فيقول: «إننا نعني بالمستشرقين الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الاسلامي وعن الحضارة الاسلامية». لقد كان المستشرقون هم عيون الاستعمار الذين درسوا مكامن الضعف في المجتمعات الإسلامية وكشفوا الثغرات التي يمكن للمحتل أن يتسلل منها لتمكين الاستعمار، كما كانوا المرشدين المفكرين للقادة العسكريين لإدامة السيطرة والتحكم في المجتمعات الإسلامية
تناول مالك بن نبي الظاهرة الاستعمارية باعتبارها نتيجة لمرض أصاب الأمة وهو التخلف والقابلية للاستعمار من ناحية ،ومن ناحية فهو نتيجة للصراع الفكري الذي خططت له المصادر الاستعمارية التي أحسنت إحكام خطتها..
وبالإضافة إلى خطورة المستشرقين، أشار المفكر مالك بن نبي إلى عامل آخر من عوامل سقوط المجتمعات الاسلامية في براثن الاستعمار الغربي، وهو عامل أو مصطلح «القابلية للاستعمار» الذي ضمنه في كتابه (شروط النهضة) الصادر سنة 1948، ومازال هذا المفهوم يحتفظ بكل أهميته في تفسير الوضع العربي الراهن، رغم كل الجدل والتحفظات والانتقادات التي واجهت مصطلح القابلية للاستعمار منذ ظهوره. في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) الصادر في سبتمبر 1954 يقول مالك بن نبي: «هناك مسار تاريخي ينبغي ألا نهمله لكي لا يغيب جوهر الأشياء عن نظرنا، ونكتفي برؤية مظاهرها، إن هذا المسار لا يبدأ بالاستعمار، بل يبدأ بالقابلية للاستعمار التي تؤدي إليه».
و يرى مالك بن نبي ان الحل لتجاوز المشكلة التي وضعنا بها الاستشراق ومن بعده الاستعمار هو ان نكون مستقلين فكرياً حتى يتحقق بعد ذلك استقلالنا السياسي والاقتصادي.