في ذكرى وفاة الكاتب والمؤرخ سليمان الصيد
بقلم: الأخضر رحموني-
في مساء يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 2004 الموافق لـ 29 رجب 1425 هـ انتقل إلى الرفيق الأعلى بمستشفى مدينة قسنطينة الكاتب والمؤرخ الأستاذ المحامي سليمان الصيد بعد وعكة صحية مفاجئة، عن عمر ناهز 75 سنة قضاها في البحث عن كنوز تراثنا الثقافي المغمور، ودراسة المخطوطات والوثائق، والكتابة عن تاريخ الجزائر، والاهتمام بتراجم العلماء والأدباء.
وقد دفن بمقبرة قسنطينة في اليوم الموالي بعد صلاة الظهر وابنه صديقه المحامي بوزيد كحول.
وبرحيله خسرت الساحة الثقافية في الجزائر أحد أساتذة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ورجلا مخلصا خدم الثقافة العربية في الجزائر بقلمه وماله، مخلفا وراءه عدة مؤلفات مطبوعة وكتبا محققة، بالإضافة إلى مكتبة عامرة بأمهات الكتب النفيسة، ووثائق نادرة، ومخطوطات تنتظر الطبع. وكان الفقيد يسابق الزمن من أجل بناء وتهيئة مكتبة على الطراز العصري بمسقط رأسه مدينة طولقة حتى تكون صرحا ثقافيا شامخا، وفضاء علميا مفتوحا، يستفيد منه الباحثون والطلبة، واختار لها اسم – المكتبة الصيدية -، وقد اختارني باعتباري مهندسا معماريا، التكفل بإعداد ملف رخصة البناء والمصادقة عليه من طرف المصالح التقنية ببلدية طولقة مع متابعة الأشغال، لكن الأجل أخذه منا قبل تحقيق أمنيته، وقد علمت أن أفراد عائلته قد أهدوا محتوى المكتبة إلى جامعة العلوم الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة، حتى تكون صدقة جارية على روحه الطاهرة. وحتى يبقى اسمه منقوشا في ذاكرة الأجيال تستلهم منه العبر، في إيثار المعرفة على المتطلبات المادية للحياة وزخرفها. وفاء لجهوده العظيمة في المحافظة على التراث الثقافي وإخلاصه للوطن وحبه العميق للعلم والعلماء.
الأستاذ سليمان الصيد كما عرفته:
عرفت الأستاذ سليمان الصيد أولا من خلال كتبه المطبوعة، ومنها كتاب (صالح بن مهنا القسنطيني حياته وتراثه)، فعرفت فيه شخصية الباحث المولع بالتراث الجزائري عبر العصور، الذي يبذل ماله ووقته وصحته من أجل جمع واقتناء (ما أمكن جمعه من خزائن الجهلة الذين لا يعرفون له قيمة ومن زوايا الطرق ومن مكتبات تونس والمغرب وباريس) كما يقول. لأنه يؤمن إيمانا صادقا بأن جمع تراثنا مسألة وطنية تحتاج إلى جميع الجهود، فهو يرى أن الجزائر في ضمير التاريخ عبارة عن تراث وأمجاد وكفاح وبطولات.
ثم قرأت له على صفحات جريدة – النصر- خلال سنتي 1987-1986 وأنا طالب بجامعة قسنطينة، سلسلة من المقالات خصصها لإبراز حياة وأعمال مجموعة من الشخصيات العلمية على المستوى الوطني على غرار: محمد السعيد الزاهري ومولود بن محمد الزريبي ومحمد الصالح خبشاش وعلي بن عمارة البرجي وعبد الله بن المبروك عثماني وأبو القاسم محمد الحفناوي ومحمد بن مصطفى خوجة ومحمد بن خميس التلمساني وأبو العباس أحمد النقاوسي وأبو مدين شعيب التلمساني وأحمد رضا حوحو والهاشمي بن مبارك العقبي محمد العزوزي حوحو وأحمد بن محمد عبد الباقي وبكر بن حماد التاهرتي وعبد الرحمن الديسي وغيرهم من الأسماء…، مما يؤكد أنه صاحب فكر متفتح واهتمام بكل مناطق الوطن، فهو لا يؤمن بالإقليمية الضيقة التي حشرت بعض الأقلام أنفسها فيها، وكان أسلوبه في الكتابة يمتاز بطريقة أكاديمية تعتمد على الدقة والتحقيق، والتثبت من المعلومة في الوثائق والمخطوطات بالرجوع حتى إلى سجلات الحالة المدنية إذا تطلب الأمر ذلك، وكانت محاضراته ومؤلفاته يغلب عليها الطابع التاريخي للبيئة التي عاش فيها المترجم له وقد ولج هذا الحقل المعرفي بتشجيع من أستاذه الباحث التونسي عثمان الكعاك، خاصة حين نشر مقالته عن (بلاغة العرب في الجزائر) التي كشف فيها النقاب عن تراث جزائري أصيل ومتنوع، يعيش بين طيات الكتب مبعثرا في المكتبات العامة والخاصة.
وكانت للأستاذ سليمان الصيد اليد الطولى في مساعدة الناشر والشغوف مثله بالتراث الجزائري الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الاسلامي بلبنان، ومن تكفلوا بإعادة إصدار جرائد جمعية العلماء عن طريق تصوير الأعداد الناقصة منها، حيث كان يحتفظ بالنسخ الأصلية منها في أرشيفه الخاص.
وكان كلما حل بمدينة بسكرة للمرافعة في قضية بالمحكمة، أو إلقاء محاضرة إلا وطلبني لمرافقته عبر المكتبات، أو زيارة الصديق الأستاذ أحمد بن السائح بمسكنه، أو توديعه الى غاية محطة المسافرين أو محطة القطار. وكم من مرة زرته مع الأستاذ الطاهر طلحي مدير المركز الثقافي الإسلامي والصديق الكاتب أحمد بن السائح الى منزله بمدينة طولقة، وكان يحسن استقبالنا وضيافتنا.
وحين طلب مني الصديق الأستاذ رابح خدوسي موافاته بتراجم مجموعة من العلماء والأدباء من منطقة الزيبان لنشرها في كتابه القيم (موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين)، طلبت من الأستاذ سليمان الصيد كتابة نبذة عن حياته، فتفضل مشكورا بالاستجابة السريعة، وسجلتها عنه وهو يملي نص الترجمة عن طريق الهاتف، وقد نشرت الترجمة كاملة بالصفحة رقم 55 من الموسوعة الصادرة عن دار الحضارة سنة 2003، كما نشرت بها عشر تراجم أخرى كتبتها وأرسلتها عن طريق الفاكس إلى الأستاذ رابح خدوسي.
حياته في سطور:
ولد الأستاذ سليمان بن بلقاسم الصيد في شهر ديسمبر 1929 بمدينة طولقة من ولاية بسكرة. درس بمسقط رأسه على يد الشيخ نعيم بن أحمد النعيمي والشيخ خباب عبد القادر المدوكالي، ثم انتقل إلى تونس للدراسة بجامع الزيتونة المعمور، وقد تحصل على شهادة التطويع سنة 1948، وشهادة التحصيل في العلوم سنة 1951، كما درس في معهد البحوث الإسلامية العليا بالخلدونية بتونس، ومن أساتذته: الشيخ محمد الفاضل بن عاشور والشيخ محمد الصالح المهيدي والأستاذ عثمان الكعاك والشاعر الطاهر قصار.
ثم واصل دراسته بالمغرب حيث تخرج من جامعة الرباط سنة 1966 بشهادة الليسانس في الحقوق.
عمل كمدرس بعدة مدارس منها:
– مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة من سنة 1951 إلى سنة 1952.
– مدرسة التربية والتعليم ببسكرة من سنة 1952 إلى سنة 1953.
– مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة من سنة 1953 إلى سنة 1957، تاريخ غلق المدرسة من طرف الاستعمار الفرنسي والقبض على المعلمين.
بعد الاستقلال درس بثانوية عبد الحميد بن باديس بقسنطينة من سنة 1963 الى سنة 1967، ثم بمعهد الحقوق بجامعة قسنطينة من سنة 1967 إلى سنة 1974.
وفي الوقت نفسه كان يباشر مهنة المحاماة بمكتبه الواقع في نهج 19 ماي رقم 06 حاليا شوفالي سابقا بقسنطينة، وهو المسكن الذي أخذ منه صديقه الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو في 29 مارس 1956 عن طريق كراء من مالكيه الأصليين وبقي يمتهن المحاماة الى غاية وفاته.
نشر مقالات عديدة في شتى المواضيع في جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سلسلتها الثانية، ومجلة النصر بتيطوان بالمغرب ومجلة العروبة ومجلة الملتقى بقسنطينة، كما نشر بجريدة النصر اليومية بقسنطينة عدة حلقات تحت عنوان (من تاريخنا الثقافي).
كان من المشاركين في الملتقيات التي تعقد بمدينة بسكرة خاصة في المركز الثقافي الإسلامي، وفي ملتقيات الجمعية الخلدونية للدراسات والأبحاث التاريخية وملتقى الشيخ محمد خير الدين. كما كان دائم الحضور كمحاضر بمناسبة الاحتفال بيوم العلم المخلد لذكرى وفاة رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس في مدينة قسنطينة.
مؤلفاته المطبوعة:
1- تاريخ الجزائر القديم/ طبع بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة سنة 1953، وأعيد طبعه سنة 1966 بمطبعة البعث، وكان مقررا ضمن منهاج تلاميذ المدارس.
2- الشخصية الجزائرية عبر العصور/ طبع بمطبعة البعث بقسنطينة سنة1971.
3- صالح بن مهنا القسنطيني حياته وتراثه/ طبع بمطبعة البعث سنة 1983.
4- نفح الأزهار عما في مدينة قسنطينة من الأخبار/ طبع بالمطبعة الجزائرية للمجلات بالجزائر سنة 1994.
5- رد شبهات حول موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من ثورة أول نوفمبر 1954/ طبع بدار هومة للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1995.
6 – تاريخ الشيخ علي بن عمر شيخ زاوية طولقة الرحمانية / طبع بدار هومة للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1998.
7- مدرسة الإخاء في بسكرة سنة 1931 ودورها في نشر الثقافة العربية والإسلامية في منطقة الزيبان وغيرها/ طبع سنة 2003 ببلدية بسكرة باعتناء وتقديم عبد الحميد دبابش وعبد الحليم صيد.
الكتب المحققة:
1- وسيلة الإسلام بالنبي عليه الصلاة والسلام للشيخ أبي العباس أحمد بن القنفذ القسنطيني/ طبع بدار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1984.
2 – النفحة المسكية في السفارة التركية للشيخ أبي الحسن علي بن محمد الجزولي التمجروتي / طبع في مطبعة علي بن سلامة بتونس سنة 1988. وكان يأمل في إعادة طبعه بدار هومة بالجزائر بعد تدارك الأخطاء المطبعية الواردة في طبعته الأولى.
3- غاية الأمل في فضل النية على العمل للشيخ أحمد بابا الصنهاجي التنبكتي المالكي / قدم للطبع – حسب ما أخبرني به هاتفيا ولا أدري هل تم طبعه أم ما يزال في الانتظار -.
مخطوطات تنتظر الطبع:
1- الشيخ عاشور الخنقي حياته وتراثه.
2- صالح باي قسنطينة حياته وأعماله.
3- الشيخ محمد خير الدين حياته وآثاره الذي نال به الجائزة الأولى في المسابقة الوطنية التي نظمتها جمعية الشيخ محمد خير الدين الخيرية سنة 1997.
4- تاريخ الجزائر في العصر الإسلامي – ذكره في آخر كتابه (تاريخ الجزائر القديم) ولكن المخطوط ضاع منه أثناء الفترة الاستعمارية كما أخبرني.
5- تحقيق كتاب (الزهرة النيرة عما جرى في الجزائر حين أغارت عليها جنود الكفرة) لابن رقية التلمساني.
6- من تاريخنا الثقافي: مجموعة تراجم لشخصيات علمية وأدبية على المستوى الوطني. وقد جمعها من مصدرها وقام بتصحيح الكتاب، وطلب مني البحث عن خاتمة أحد المقالات التي ضاعت منه لإضافتها للكتاب. غير أن الموت حال دون طبعه.
7- صفحات مضيئة من حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
8 – الشيخ عبد القادر الراشدي حياته وتراثه.
9 – أحداث 20 أوت 1955 ودورها في تعميق الثورة التحريرية الكبرى.
التكريمات:
– تم تكريمه من طرف مديرية الثقافة لولاية قسنطينة بمبادرة من مديرها الشاعر إدريس بوذيبة في شهر أكتوبر 1998 من خلال استضافته من طرف نادي الاثنين.
– تم تكريمه من طرف الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية خلال ملتقى (بسكرة عبر التاريخ) الثاني المنعقد يومي 27- 28 ديسمبر 2001 مع المؤرخ الدكتور يحيى بوعزيز، حيث القى محاضرة تحت عنوان (زوايا العلم والقرآن ودورها في تحصين الأجيال والمحافظة على الشخصية الوطنية).
الإشادة بأعماله:
قال عنه الشاعر الجزائري الكبير محمد العيد آل خليفة في تقريض كتابه (تاريخ الجزائر القديم) قصيدة تحت عنوان – أيها الكاتب المؤرخ شكرا – نشرت في الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1953، كما نشرها الدكتور محمد بن سمينة في كتابه (العيديات المجهولة) وهي تقع في عشرين بيتا منها:
يا بلادي أرى شبابك يبني * لك مستقبلا عتيد الدعام
قد حباك الفتى سليمان صيد * تحفة من نتائج الأقلام
أسفرت عن مدى تحريه في * البحث ومدى حجاه في الأفهام
ببيان كأنه الصبح نورا * ويراع كريشة الرسام
أيها الكاتب المؤرخ شكرا * أنت أهل للشكر والإكرام
قد أنلت الجزائر اليوم فخرا * فتبوأت بها رفيع المقام
وكأني بها أجابتك حالا * إنك ابني الأبر بالأرحام