عبد الحميد ابن باديس رائد نهضة فكرية.. قاوم المستعمر بالعلم
بقلم: قادة صافي-
لا تمر سنة دون أن تحتفي الجزائر في تاريخ السادس عشر أفريل بيوم العلم، وإبراز مآثر شخصية فذة أسهمت بإصلاحاتها الفكرية في تكوين الشخصية الجزائرية، وتأسيس لبنة مدرسة جزائرية عريقة تفتخر بانتمائها العربي الإسلامي، ففي زمن كانت تطمس فيه الهوية الجزائرية من طرف المستدمر الفرنسي الذي سعى لنشر الجهل بين عامة الناس وحرمان الجزائريين حقهم في التعليم، كان عبد الحميد ابن باديس ينشر أفكاره ويقف في الخطوط الأولى دفاعا عن الامتداد الجزائري والذي تمثله العروبة والإسلام.
بهذا التاريخ الذي تحتفل فيه الجزائر بيوم العلم السادس من أفريل رحل عبد الحميد ابن باديس رائد النهضة الفكرية في الجزائر الإمام المصلح الذي ولد بمدينة قسنطينة يوم 11 ربيع الثاني 1307 الموافق لـ 04 ديسمبر من عام 1889، في أسرة متدينة، فأبوه كان حافظا للقرآن ومن أعيان المدينة، كما أنه اشتغل قاضيا وعضوا في المجلس الجزائري الأعلى.
في جامع “سيدي محمد النجار” بقسنطينة تلقى العلامة عبد الحميد ابن باديس تعاليم الدين واللغة، وذلك بدءا من عام 1903، على يد الشيخ حمدان الونيسي أحد علماء الجزائر آنذاك، وكان للشيخ محمد بن المداسي أشهر المقرئين بقسنطينة الفضل في تحفيظ عبد الحميد ابن باديس القرآن الكريم وعمره لم يتجاوز 13 عاما.
رحلة عبد الحميد بن باديس مع العلم لم تتوقف في محطة مدينة العلم والعلماء قسنطينة بل انتقل إلى جامع الزيتونة لينهل العلم على يد صفوة من العلماء مثل محمد النخلي القيراوني ومحمد الطاهر بن عاشور ومحمد الخضر بن حسين، وظل المفكر ورائد النهضة الفكرية في الجزائر يتابع دراسته في تونس حتى نال شهادة التطويع العالمية حتى عام 1911 ليحط الرحال من جديد بقسنطينة.
النّشاط الإصلاحي للعلامة ابن باديس
بدأت مسيرة عبد الحميد ابن باديس مع العلم بعد عودته لقسنطينة، حيث باشر إلقاء سلسلة من الدّروس بالجامع الكبير بقسنطينة حول كتاب “الشفا” للقاضي عياض، لكن ما فتئت رغبة عبد الحميد ابن باديس الجموحة في نشر العلم تصطدم بالإدارة الفرنسية التي أوقفته من مواصلة إلقاء الدروس.
قرار المستعمر الفرنسي لم يثن الشيخ العلامة من مواصلة مسيرته التوعوية والفكرية، ففي عام 1913 بالمدينة المنورة التقى بشيخ البشير الإبراهيمي رفيق دربه فيما بعد ليقررا بعث مشروع جمعية تعنى بالدين واللغة والتي أطلق على تسميتها جمعية العلماء المسلمين.
رغم إلحاح بعض المشايخ في المدينة المنورة على عبد الحميد ابن باديس بالبقاء فيها إلا أنه قرر العودة للجزائر من أجل خدمة الدين واللغة، وبدأ مساره الإصلاحي حيث أولى اهتماما للتربية والتعليم، وتوج ذلك بتأسيس مكتب للتعليم الابتدائي العربي عام 1926، انبثقت عنه مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وهي الجمعية التي أصبح لها 170 فرع في مختلف مناطق الجزائر.
وفي سنة 1931 أنشأ رفقة 72 عالما من شتى الاتجاهات الدينية جمعية العلماء المسلمين وانتخب رئيسا لها وحملت شعار “الإسلام ديننا العربية لغتنا، الجزائر وطننا”.
لم يقتصر المسار الدعوي للعلامة عبد الحميد ابن باديس عبر المساجد والمدارس التي أنشأها، بل راح يستغل الرجل الصحف في نشر أفكاره الإصلاحية، فقام بتأسيس صحيفة “المنتقد”، والتي تعتبر أول صحيفة جزائرية عربية والتي كانت بمثابة منارة سعى عبرها الشيخ العلامة لمحاربة التصوف والعقائد المنحرفة، لكن ما لبثت أن توقفت هذه الصحيفة عن الصدور بسبب توقيفها من الإدارة الفرنسية، غير أن عزيمة بن باديس لم تثن، فبعث مجلة “الشهاب” للوجود خلفا للمنتقد، حاملة نفس المبدأ وذات الغاية، حيث سعى من خلالها ومن خلال العمل الدعوي عبر المساجد للإصلاح الاجتماعي والديني، بالدعوة لمحاربة التخلف والقضاء على مظاهره وإزالة الجمود الفكري ومحاربة التقليد وذلك من خلال تعريف الأمة بدينها الحقيقي والدعوة إلى النهضة والحضارة في إطار إصلاح الدين والمجتمع.
نشاطات ابن باديس بعثت صحوة في الأوساط العلمية الجزائرية فكانت دافعا لهم من أجل نشر العلم والمعرفة، فتأسست جريدة “الشريعة المطهرة”، وبعدها صحيفة “الصراط السوي”، ولكن لم يستمر بريقهما فقد أطفأت السلطات الفرنسية نورهما سريعا خوفا من انتشار الوعي، لكن جمعية علماء المسلمين لم تلبث أن أسست جريدة البصائر عام 1935، والتي بقيت لسان حالها لفترة طويلة.
دور عبد الحميد ابن باديس في الثورة التحريرية
رغم ما تعرضت له جمعية العلماء المسلمين والعلامة عبد الحميد ابن باديس من محاولات التقليل من دعم العلامة ومساندته للثورة إلا أن ما قامت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالتصدي للسياسات التخريبية الغاشمة كان لها دورا بارزا في الثورة التحريرية وإشعال جذوتها، وكانت بمثابة شرارة أولى لتحقيق استقلال فكري عن المستعمر، ومن ثمة تحقيق استقلال تام، وقد عرفت الثورة التحريرية التحاق العديد من طلابها وشيوخها بصفوف المجاهدين أفواجا، فكانوا وقودا للثورة التحريرية، كما كان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين دورا هاما في تهيئة أرضية خصبة للثورة التحريرية، فالعمل الدعوي والتربوي الذي قامت به يعتبر خطوة أولى نحو الاستقلال.
فكرة جهاد فرنسا وتحقيق الاستقلال لم تكن غائبة من ذهن علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقد نقل تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله كلمات صريحة واضحة في إعلانه الثورة على فرنسا، إذ ذكر الشيخ “علي مرحوم” رحمه الله حدثه بأنه كان جالسا مع الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله فسأله شخص فقال: ياشيخ يلاحظ الناس بأنك لا تدعو إلى الاستقلال وتحرير الجزائر فقال: نحن نبني الجدران والاستقلال هو سقف الجدران، وهل هناك من يبني سقفا بدون جدران.
وقد نقل الشيخ أحمد حماني رحمه الله شهادات لعلماء عاصروا الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله أكدوا فيه عزمه على إعلان الثورة المسلحة ضد فرنسا منهم الشيخ محمد الصالح رمضان والشيخ حمزة بوكوشة والشيخ محمد الصالح بن عتيق والشيخ محمد بال الصادق الجلولي والشيخ أحمد حماني نفسه سمع منه هذا الكلام.
مآثر العلامة عبد الحميد ابن باديس
رحل العلامة عبد الحميد بن باديس يوم الثلاثاء 16 أفريل من عام 1940 تاركا إرثا تاريخيا وفكرا إصلاحيا لايزال مستمرا إلى يومنا هذا ومدرسة جزائرية ثابتة رغم محاولات التغريب أسهم في بناء لبنتها الأولى، بل وترك ثلة من العلماء رفقاء دربه الذي واصلوا مسيرته، ومن بين ما تركه من أعمال منشورات جمعها تلاميذته ومقالات وخطب ومحاضرات وقصائد شعرية، كما ترك العلامة عبد الحميد بن باديس كتاب العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الذي طبعه تلميذه محمد الصالح رمضان سنة 1963، وكتاب “رجال السلف ونساؤه عام 1966 وكتاب مبادىء الأصول الذي حققه ونشره الدكتور عمار طالبي سنة 1988.