دار الحديث بتلمسان.. صرح علمي وإسلامي كما أرادها ابن باديس ورفاقه

بقلم: د. علي الصلابي-

كان افتتاح مدرسة «دار الحديث» في الحقبة الاستعمارية عزيمة إثبات الشخصية العربية المسلمة للشعب بأكمله في الجزائر، حيث يعدُّ بناء هذه الدار بمثابة تحدٍّ من قبل سكان تلمسان ورجال العلماء للإدارة الفرنسية، وإثباتاً لفرنسا أن الأمة الجزائرية قادرة على النهوض وتعليم أبنائها وبناء حضارتها ومستقبلها بنفسها دون وصاية من أي مكان.

وحين فقدت تلمسان – في ذلك الوقت – القسم الأكبر من سكانها الذين أصبحوا يشكلون أقلية ضمن مجموعة من الأجانب الذين اشتغلوا بثروات ضواحيها، من مساكن وبساتين وحقول، هذا ما استنفر رجال الحركة الإصلاحية السلفية، وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي، خاصة أن الاستعمار الفرنسي سلط بكل ما يملك من محو الهوية والقضاء على الشخصية وآثار كيانها.

دعوة إلى كل الجزائريين:

وجَّه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى الحاضرين في المؤتمر السنوي العام بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد عام 1356هـ الموفق 1937م بنادي الترقي في العاصمة ؛ الدعوة التالية: أيها الأخوة الكرام لقد حمَّلني إخوانكم التلمسانيون أمانة يجب أن أبلغها إليكم، وهي أنهم يسلِّمون عليكم ويعاهدونكم على التفاني في خدمة الجمعية ونشر مبادئها، ويبشرونكم أنهم شيَّدوا للإسلام والعروبة معهداً لم يكن له نظير في تاريخ الجزائر الحديث، كما أنهم يتشوَّقون ويتشرَّفون أن يكون فتح هذا المعهد أوَّل مرَّة بيد علاَّمة الجزائر وزعيم نهضتها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهذا المعهد هو دار الحديث المسمَّاة على «دار الحديث الأشرفية» التي أسست منذ قرون في دمشق، تلك المدرسة التاريخية التي تخرج منها أئمة في العلوم وفحول في الأدب، والتي كان من مدرِّسيها الإمام الحافظ محيي الدين النووي، والإمام النظار تقي الدين السبكي.

دعوة إلى أهالي مدينة تلمسان:

كما وجّه دعوة إلى أهالي مدينة تلمسان هذا نصَّها: “إن أكبر دعامة تقوم عليها النهضة العربية الإسلامية بالقطر الجزائري هي تشييد المدارس الحرَّة بمال الأمة لأنها فضلاً عن الواجب الذي تقوم به للدِّين واللغة ؛ تحيي في الأمة روح البذل في سبيل العلم وتقوِّي فيها خلق التعاون على الخير. وقد قامت تلمسان عاصمتكم التاريخية بقسطها من هذا الواجب كلِّه، فجاءت رمزاً لمجد تلمسان التاريخي وعنواناً على نهضة الجزائر الحديثة، ومفخرة للقطر الجزائري كله وحظاً للعربية والإسلام، وستحتفل تلمسان بافتتاحها يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر سبتمبر 1937م احتفالاً مشهوداً يكون عرساً عالمياً للقطر كله، وتتجلى فيها الأخوَّة الإسلامية بأكمل معانيها، والجمعية الدينية الإسلامية المشرفة على تشييدها تتشرَّف بدعوتكم للحضور في هذا المهرجان المبارك، وتسألكم بحق الأخوَّة الا تقصِّروا في واجب الحضور الذي هو تأييد للعلم وإعانة للإسلام والعربية”.

يوم الافتتاح الكبير:

كان يوم 27 سبتمبر 1937م يوماً مشهوداً في تاريخ الجزائر عامة وتلمسان خاصَّة، حيث توافد الناس من كامل القطر الجزائري لحضور افتتاح دار الحديث وكان عددهم ثلاثة الاف شخص منهم سبعمائة ضيف، والبقية من أهالي تلمسان.

وخرج يومها أهالي المدينة كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، مواطنين وبعض المستعمرين للقاء زعيم النهضة الإصلاحية ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ عبد الحميد بن باديس.

لقد كان الشيخ محمد مرزوق على رأس اللجنة الثقافية والاجتماعية، وتكفل بمراسيم حفل الافتتاح واستقبال الشخصيات والمدعوِّين، وقُدم يومها عمل ممتاز، والكل كان منظماً ولا شيء غاب عن لجنة الاستقبال.

وصل الشيخ عبد الحميد بن باديس على الساعة العاشرة والنصف إلى محطَّة القطار «باب سيدي بومدين» ـ المدرس ـ الشارع الوطني المعروف بشارع العقيد لطفي الان، حتى مدرسة دار الحديث، واصطفَّ على طول الطريق شبَّان ينتمون إلى الحركة الوطنية «من حزب الشعب» وكوَّنوا جدار سلسلة عن يمين الشارع ويساره، متماسكي الأيدي وعلى ذراع كل منهم منديل أخضر لتسهيل عملية المرور للشيوخ، فأعجب الوفد بهؤلاء الشباب ونظامهم، وكان الكل يردد «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر». وزغاريد النساء مدوية من الشرفات حتى الوصول إلى باب المدرسة. وقد رفضت اللجنة المنظمة مساعدة البوليس لتنظيم المسيرة، لكن هذا الأخير أحضر جنوداً سنغاليين احتياطاً وتركهم داخل ثانوية ابن خلدون حالياً.

وسار الموكب في نظام وخشوع وكان يضم حوالي 3000 شخص من بينهم 600 إلى 700 من الجزائر وقسنطينة ونواحي تلمسان، كما حضر حوالي ثلاثة من تونس وحوالي خمسة عشر من المغرب وثلاثة من الصحفيين العرب وصحفي من جريدة الأمة ومدير جريدة العدالة والثالث من الجزائر.

كان على باب المدرسة الشيخ محمد مرزوق يستقبل الضيوف، وكان الجمع غفيراً حول المدرسة وفي الأزقة المجاورة، والكل جرى على أحسن ما يرام دون تسجيل لأي حدث، بينما كانت مجموعة من فرقة الكشَّافة الإسلامية بتلمسان تقف عن يمين باب المدرسة ويساره يرحِّبون بالضِّيوف وهم ينشدون نشيد مرحباً أهلاً وسهلاً بكم.

وقد روى الشيخ محمد شيعلي أنَّ مصطفى هدَّام أخبره أنه سمع بعض المعلمين بالفرنسية يوم الافتتاح يقولون بأن جمعية العلماء هي عبارة عن قنبلة موقوتة ستظهر نتائجها بعد عشرين سنة.

وتلاحقت الوفود وتجمعت أمام مبنى المدرسة، ووقف الشيخ البشير الإبراهيمي بباب المدرسة يخاطب الرئيس ابن باديس ـ وهو يناوله المفتاح ـ بهذه الكلمات البليغة: أخي الأستاذ الرئيس: لو علمت في القطر الجزائري، بل في العالم الإسلامي رجلاً له يد على العلم مثل يدكم وفضل على الناشئة مثل فضلكم لاثرته دونكم فتح هذه المدرسة، ولكن لم أجد، فباسم تلمسان وباسم الجمعية الدينية بالخصوص أناولكم المفتاح لتفتحوها، فهل لهذه المدرسة أن تتشرف بذلك؟

وتناول الاستاذ الرئيس المفتاح وقال: بسم الله الرحمَّن الرحيم ثمَّ على اسم العروبة والعلم والفضيلة أفتح مدرسة دار الحديث، ربنا أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، ربنا أدخلنا مدخل صدق وأخرجنا مُخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً. جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، ثم فتح الباب ودخل، ودخل خلفه العلماء والضيوف وبقيت جموع غفيرة من أهالي تلمسان لم تسعهم البناية واثروا ضيوفهم عليهم.

بقيت هذه الجموع تصيح خارج المدرسة، ابن باديس ابن باديس، نريد أن نرى ونسمع ابن باديس، فأطل عليهم والإبراهيمي والعلماء من الشرفة في الطابق الأول وخاطبهم قائلاً: يا أبناء تلمسان يا أبناء الجزائر: إن العروبة من عهد تبع إلى اليوم تحييكم، وإن الإسلام من يوم محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم يحييكم وإن أجيال الجزائر من هذا اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتثني عليكم أمانة من تاريخنا المجيد فأديتموها فنعم الأمناء أنتم فجزاكم الله جزاء الأمناء والسلام عليكم ورحمة الله.

ثم عاد العلماء إلى المدرسة، وفي قاعة المحاضرات اعتلى ابن باديس وصحبه المنصَّة وتكلم الشيخ الإبراهيمي فقال: الفضل في هذه المدرسة لا يرجع لأحد غير جمعية العلماء، فكل فضل لهذا العاجز الضعيف هو قطرة من بحر فضل جمعية العلماء، ثم أخبر الشيخ الإبراهيمي الحاضرين بأن الرئيس ابن باديس سيفتتح الكلام في دار الحديث بدرس قيّم يلقيه عليهم الآن في الحديث النبوي الشريف.

وافتتح ابن باديس الدرس بحمد الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم روى حديثاً بالسند المتصل بالبخاري ومسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا أو «رعوا»، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم ومثل من لم يرفع لذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. متفق عليه من حديث أبي موسى الشعري.

وأفاض في شرحه بطريقته التي اختص بها وعرف بها، وآثناء كلامه عن قوله صلى الله عليه وسلم: فعلم وعلَّم، أخرج من جيبه خمسمائة فرنك إعانة رمزية منه للمدرسة، وبعد انتهائه من الدرس تبارى الناس في البذل والتبرع بما لديهم في سخاء وكرم نادرين، كما شارك النساء بعد ذلك بتقديم جواهرهنَّ وحليّهنَّ.

لقد كانت مدرسة الحديث في تلمسان تحفة معمارية جامعة بين الفن العربي البديع والشكل العصري الأنيق، وتبدو آية في الفخامة والجمال والسعة والكمال.


مراجــع البحث:

1- د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 2016م، ص (341 : 345).

2- د. عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره، الشركة الجزائرية للنشر، الجزائر، الطبعة الثالثة، 1417ه – 1997م، (1 / 306).

3- خالد مرزوق و المختار بن عامر، مسيرة الحركة الإصلاحية بتلمسان: 1907 – 1931 – 1956- آثار ومواقف، ص 196- 198- 201 – 203 – 204.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.