“جريدة البستان” للشيخ إبراهيم أبي اليقظان بصمة جزائرية رائدة في الأدب الساخر
بقلم: د. يحيى حاج امحمد / يوسف باعمارة-
شهدت أقطار شمال إفريقيا سطوة أعتا قوة استعمارية في العصر الحديث، متمثلة في الاستعمار الفرنسي، وكان نصيب الجزائر منها 130 سنة من الاحتلال، ذاق فيها ألوان التعذيب النفسي والجسدي وصنوف القهر والتجهيل والتجويع والتهميش... ما فاق كل تصور أو خيال.
وخاض أبناء الجزائر عبر التاريخ معارك طويلة بالدم والفكر والقلم في صدّ المستعمر ورد ّ كيده ودسّه، ويذود عن الحمى والدين واللسان العلماء والأدباء ورجال الصحافة المخلصين بكّل ما أوتوا من قوة عقل وفصاحة وبيان، فقيض الله للجزائر -بعد قرن من الاحتلال الغاشم- ثلة من الرجال الصالحين المصلحين أسهموا في توحيد الجهود، وشمروا عن سواعدهم إلنقاذ أمتهم من ويلات االستعمار والنصر دينا ودنيا.
وكان لظهور الحركة الإصالحية سنة 1925 الأمل الجديد للجزائر، إذ شرعت في بعث التعليم العربي الأصيل للبنين والبنات، بعدما حرمهم الاستعمار منه دهرا طويلا؛ وطورت المناهج التربوية بعد ذلك، وحاربت الفساد الأخلاقي ومظاهر التخلف الاجتماعي...إلخ، حتى تكللت جهود أولئك المخلصين -رغم مكر الاستعمار وكيده- بميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931؛ لتكون بعثا للأمة الجزائرية المسلمة، إذ شرع أقطابها الذين انتشروا في ربوع الجزائر دعاة علم واصلاح ومن أبرزهم: الإمام عبد الحميد بن باديس في قسنطينة )شرقا)، والشيخ البشير الإبراهيمي في تلمسان (غربا)، والشيخ إبراهيم بن عمر بُّيوض في وادي مزاب (شمال ّ الصحراء)، والشيخ الطيب العقبي في نادي الترقي (بالجزائر العاصمة) وغيرهم...، شرع هؤلاء على وجه الخصوص في إصلاح الأنفس من خلال دروس الوعظ والإرشاد، وكان تفسير القرآن الكريم رسالتهم إلى المجتمع؛ فاشتغلوا بتفسيره وبيان معانيه، وأخذوا يعرضون نظم مجتمعاتهم على مفاهيم القرآن الكريم وتعاليمه لعالج أمراضها وأسقامها من خلال فهم آياته ومعانيه وإسقاطها على الواقع المعاش.
وآزر تلك الجهود الخيرة ظهور الصحف العربية الجزائرية التي تعنى بنصرة الإصلاح والمصلحين في كل مكان؛ ومن هؤلاء الشيخ الصحفي إبراهيم بن عيسى أبو اليقظان؛ الذي رابط في الجزائر العاصمة صحفيا مبرّزا ينافح ويدافع عن الدين الإسلامي واللغة العربية ويجابه المستعمر فاضحا دسائسه وألاعيبه ومحاربة كثير من الآفات التي غرسها المستعمر في نفوس الشباب، فأفلحوا في اجتثاثها من الجذور؛ وكان مقر جريدة الشيخ أبي اليقظان بالعاصمة الجزائر ناديا أدبيا يلتقي فيه أنصاره يؤازرونه في معركته الطويلة مع المستعمر وأذنابه.
عناصر الموضوع:
مقدمة
الشيخ إبراهيم أبو اليقظان حياته وآثاره
الشيخ أبو اليقظان في جهاده الصحفي
جريدته "البستان" أقالمها وموضوعاتها
فنيات اإليحاء والكتابة الساخرة في جريدة "البستان"
الخلاصة والتوصيات
أّولا: الشيخ إبراهيم أبي اليقظان حياته وآثاره:
ولد الشيخ إبراهيم بن عيسى أبو اليقظان بالقرارة (جنوب الجزائر) وبها تعلم مبادئ العلوم العربية والشرعية، ولما بلغ من العمر 19 سنة شد الرحال إلى "بني يزجن" أين تتلمذ على يد قطب الأئمة الشيخ أطفَّيش(1)، فكان من أبرز تلامذته وأنجبهم؛ وحوالي سنة 1909 قصد بيت الله الحرام وعمره 21 سنة، وكان ينوي الإقامة بمصر للدراسة لدى عودته، ولكن فقره حال دون أمنيته، ولو أن هذه الرحلة فتحت أمام عينيه آفاقا واسعة حيث زار الحجاز والشام، وتركيا، وليبيا، وتونس.
في سنة 1912 التحق بجامع الزيتونة بتونس طالبا، ثم رئيسا لأول بعثة طلابية مزابية سنة 1925 وعمره 25 سنة وفي تلك الأثناء _أي خلال وجوده بتونس_ انخرط في معترك السياسة، وأصبح تلميذا وفيا للشيخ العزيز الثعالبي زعيم الحزب الدستوري التونسي، وعضوا في التشكيلة الفدائية السرية التي كانت تتطلع إلى تحرير شمال إفريقيا من ربقة الاستعمار الفرنسي، فصار عضوا نشيطا في اللجنة التنفيذية للحزب بواسطة الشيخ صالح بن يحيى(2)؛ كما كان يشارك في الصحافة المصرية بقلمه الوطني الحر.
في أكتوبر من سنة 1926 بادر إلى إنشاء أول جريدة عربية باسمه تحت عنوان (وادي ميزاب) أرادها لتكون لسان حال الفكر الإسلامي عموما والجزائري خصوصا؛ ولأن قلمه لا يهادن ولا ينافق، فإنه تجرع في سبيل سير صحافته الغصص، وتحَّمل المشاق المادية المرهقة، يكفي أن نعرف أن جريدته هذه كانت تحرر بالجزائر وتطبع بتونس، ثم تعود بالقطار لتوزع في الجزائر هكذا كل أسبوع طيلة عامين ونصف لم تتخلف فيها عن الظهور قط، وكان يعاونه في طبعها زمياله الشيخ محمد الثميني في تونس(3)، وتعموت الحاج عيسى بن يحيى(4) في الجزائر، كما كان كاتبا للزعيم عمر بن عيسى حاج امحمد(5) و كيل األمة المزابية في مسألة التجنيد الإجباري(6).
ثانيا: أبو اليقظان في جهاده الصحفي:
كانت جريدة (وادي ميزاب) بداية لجهاد مرير دام ثالث عشرة سنة، أصدر خاللها ثماني جرائد أسقطها االستعمار الواحدة تلو الأخرى، للهجتها الوطنية الصارخة، توجد نسخ منها بالمكتبة الو طنية الجزائرية بالحامة، وهي التالية:
1- (ميزاب وادي) 119 عددا، من 1926/10/01 إلى .1929/01/18
2- (ميزاب) عدد واحد .1930/01/25
3- (المغرب) 38 عددا 1930/05/29 إلى .1931/03/09
4- (النور) 78 عددا 1931/09/15 إلى .1933/05/02
5- (البستان) 10 أعداد من 1933/04/27 إلى .1933/07/13
6- (النبراس) 6 أعداد من 1933/07/21 إلى .1933/08/22
7- (الأمة) 170 عددا 1933/09/08 إلى .1938/06/06
8- (الفرقان) 6 أعداد من 1938/07/08 إلى .1938/08/03
ومن أبرز جهود أبي اليقظان في الميدان الثقافي الوطني، إنشاؤه المطبعة العربية سنة 1931م(7)؛ والتي تعد من أوائل وأهم المطابع العربية الوطنية بالجزائر العاصمة، إذ كانت تطبع بها أغلب المؤلفات العربية الوطنية، والصحف الإصلاحية، والمنشورات الثورية(8).
ثالثا: جريدة البستان أقالمها وموضوعاتها
1- جريدة "البستان" تعريفها وتاريخها:
أنشأ الشيخ أبو اليقظان جريدة "البستان" بعدما صادر الاستعمار الفرنسي جرائده الأربعة (وادي ميزاب، وميزاب، والمغرب، والنور)، لأنها تسعى إلى تنوير المجتمع الجزائري، وايقاظه من براثن الجهل والخرافات والبدع، والتبعية للاستعمار الفرنسي؛ فلجأ إلى التلميح بهذه الجريدة التي وسمها بـ"البستان" وكتبها كذلك باللغة الفرنسيةBOUSTEN (jardin) (9) موظفا السخرية والهزل بغية التأثير في الواقع االجتماعي؛ وهذه الطريقة تعتبر تورية ومواراة من ملاحقات الاستعمار الفرنسي؛ فضلا عن نزع الشك عن محتويات الموضوع لما يحمله عنوان الجريدة من مفهوم فلاحي لا يمت بصلة إلى السياسة وشؤونها، وقد كان تاريخ صدورها يوم الخميس 01 محرم 1352هـ الموافق لـ27 أفريل 1933م؛ في عشرة أعداد، وقد كتب الشيخ أبو اليقظان في أعلى الجريدة بأنها: "جريدة فكاهية انتقادية تصدر مرتين في الشهر مؤقتا" وكان ذلك في أعدادها الثالثة الأولى، وابتداء من العدد الرابع أصبحت" جريدة فكاهية انتقادية تصدر في كل يوم ثلاثاء"، ولم يضعها أبو يقظان باسمه؛ بل وضعها باسم زميله، وعنونها بالشكل التالي: (المكاتبات تعنون باسم مدير الجريدة وصاحب امتيازها تعموت عيسى بن يحيى)(10)، وهذا لأجل نفي الشك عنه، وابتعاد الاستعمار الفرنسي من ملاحقته ومتابعته ومصادرة جرائده.
2- منهج الشيخ أبي اليقظان في جريدته "البستان":
سنتحدث عن منهج الشيخ أبي اليقظان بشكل بارز انطلاقا من العدد الأول للجريدة؛ إذ كان العدد الأول من جريدة "البستان" مختلفا عن الأعداد الأخرى؛ من حيث قيام الشيخ أبي اليقظان بتوضيح أهداف الجريدة ومسلكها وغايتها؛ ثم يشرع في سرد الموضوعات، وقد تفَّردت الجريدة الأولى عن الأخراة بهذا الشكل؛ لسبب منطقي بارز وهو كونها جديدة – آنذاك- في الساحة الإعالمية والشعبية؛ فلابد من توضيح أسسها ومنطلقاتها وتبيين ذلك لجمهورها، ففي تقديم الجريدة يقول الشيخ أبو اليقظان: "باسم الله الرحمن الرحيم السلام
عليكم أيها القراء ورحمة الله، وبعد فها أنذا أعود إلى الميدان حاملا إليكم -إخواني- من بستاني هذا باقات من زهور الإنس والحبور، وأطباقا من درر المنظوم والمنثور، راجيا منكم أن تقابلوها ببشاشة الوجوه، وابتسام الثغور، وارتياح النفوس واتساع الصدور، وبسط الأكف ورنين الدور، وسن الله لكم جزيل الأجور"(11)، فنلاحظ أن الشيخ -هنا- يقر بالعودة بجريدة جديدة (..فها أنا أعود إلى الميدان) ملّمحا لقرائه بمصادرة الجريدة السابقة، والآن ستقرؤون جريدة جديدة، ويتخذ أبو اليقظان وسيلة جيدة لافتتاح كلامه مستندا إلى السجع؛ مستخدما حرف الراء في أواخر الكلمات، بما يشيعه هذا الحرف من انحراف وتكرار ونغم عذب موسيقي يأخذ بالألباب، ويسيطر على العقول والأصحاب، ويتجلى ذلك في الكلمات التالية: (الحبور، المنثور، الثغور، الصدور، الدور، الأجور)، ويبين أبو اليقظان أسباب وضعه لهذه الجريدة، وأهمية الدعابة والطرافة والظرافة في الطرح، التي تصنع لنفسه جمهورا فاضلا فيقول: "... وبناء على تعطش شطر كبير من الأمة إلى جريدة فكاهية لذيذة خفيفة الروح، نزيهة الأسلوب، نبيلة المقصد، وحيث أن طبقة كبيرة من العامة لم تستفد قليلا ولا كثيرا من جرائدنا العربية الجدية لعلوها عن مستواها الفكري... بناء على ما تقدم رأينا من الواجب أن ننشئ جريدة عربية نصف شهرية تفي بهذا الغرض الشريف، فأسسنا هذه الجريدة تحت اسم »البستان« إشعارا بما ستحمله إلى قرائها الكرام من كل ما يحمله البستان من أنواع الثمار والفواكه والبقول والزهور والرياحين بإذن الله"(12).
وأما عن مسلكها الذي أراده الشيخ أبو اليقظان في جريدته "البستان" فنجده يريد منها أن "...تتوخى لباب الحكمة وقلب الفائدة في شفوف اللفظ وعذوبة الأسلوب ورقة التعبير مع نبل المقصد ونزاهة الضمير وحسن النية، ولا تتعرض للشخصيات ولا تتداخل في الحزبيات ولا تناصر إلا ما يراه الحق حقا، وهي مفتحة الأعمدة للأدباء. نلمس في هذا القول النزعة الإصلاحية للشيخ أبي اليقظان؛ إذ يرمي والظرفاء ما داموا على نهجها وما لا فلا"(13). من خلال جريدته إلى رفع المستوى الأدبي لغة وأسلوبا ومعنى وهدفا؛ إضافة إلى تقييدها بشرط ديني وهو عدم التعرض للأشخاص -مثلما نجد في صحافة اليوم باسم حرية التعبير والصحافة- فضلا عن ذلك كله؛ فإن صحافة الشيخ أبي اليقظان تتوخى الحقيقة، وتنشر الحق ولا ترضى بمثل ذلك بديلا؛ كما نجده يمنح الفرصة للأدباء بإدلاء دلوهم فيها مع التقيد بالشروط المذكورة سابقا؛ فإن لم يقع اللالتزام بها تم رفض مشاركاتهم وابداعهم حفاظا على القلوب وتطبيقا لمعالم الدين الحنيف الذي ينهى عن الغيبة والكذب والبهتان وتجريح الناس باسم الصحافة ونشر كل شيء؛ وكأننا هنا نجد الشيخ أبا اليقظان يسن قوانين الصحافة الجيدة، حتى تحافظ على قيمها ومكاسبها ولا تتردى لأسفل سافلين؛ وهذا هو المفهوم بالذات الذي علق عليه في غاية الجريدة بأنها "...إنعاش روح الفضيلة واخماد روح الرذيلة"(14).
3 -أقلامها:
اختلفت الأقلام في جريدة البستان باختلاف التوقيعات في نهاية كل مقال؛ فمما وجدناه من تلك الأقلام: أنا، تعموت، لقمان، صاحبكم، إبليس، فلاح البستان، بكير، حاضر...إلخ؛ فهي توحي في كثير من الأحيان إلى قلم الشيخ أبي اليقظان، ولكن بنوع من المراوغة والمواربة في غطاء ساخر؛ حتى لا يشعر به الفرنسيون،
ويلاحقوه مرة أخرى، ويصادروا هذه الجريدة مثلما صودرت الجرائد السابقة، وقد أشار إلى هذا المفهوم في مقال موسوم بـــ: (من الدنيا إلى الآخرة) "وبعد فقد وجدت هنا في رياض الجنة على الساعة 03 عشية 02 ماي فوجدت زملائي الشهداء )وادي مزاب، ميزاب، المغرب) في غيبة كانوا في حواصل طير خضر يسرعون في رياض الجنة ما أنت إلا كورقة من شجرها".(15) وقد سمى تلك الجرائد المصادرة بالشهداء؛ لأنه كان جريئا فيها بمبائده غير مهادن الاستعمار بأقواله؛ لكن هذه الطريقة لم تؤت أكلها، فعمد إلى الكالم بنبرة تهكمية ساخرة ملمحة بعيدة عن الجدية والتصريح، وتغيير التوقيعات في نهاية المقالات.
4 -موضوعاتها:
عالج أبو اليقظان في جريدته "البستان" موضوعات مختلفة مَّست عدة جوانب: دينية واجتماعية وسياسية وثقافية بأسلوب ساخر تهكمي، "وهو أسلوب لا ينبئ عن نفس مرحة، ولا يعِّبر عن قلب رضٍّي، بقدر ما هو تعبير عن الحزن والأسى أحيانا، وعن السخط والغضب أحيانا أخرى"(16).
أ- الموضوعات الدينية:
نجد موضوعا موسوما بـ: "حوار مغلوق إلى سيدي مدير جريدة البستان"، أي منه وإليه، والذي كان جوابا لرسالة خاطب فيها الشيخ أبي اليقظان شهر محَّرم بقوله: "هل أنت الآن بمفاخرك العظيمة ونتائجك الجليلة للبشرية المعذبة واإلنسانية البائسة؟ أم أنت أنت بدقائقك وثوانيك فقط"(17)؛ فيجيبه الحاج محرَّم بقوله: "اسمحوا لي أن أعَّد لفضيلتكم بعض ما ساءني وغَّير خلاقي أثناء إقامتي بينهم: انتشار الفواحش بأنواعها، كثرة الربا، شرب الخمور، التساهل في الدين، الغدر، الغش، الخيانة، أكل أموال الناس بالباطل، ترك الصلاة، عدم عمارة المساجد، حلق اللحى والشارب مجاراة لتمدن أمريكا...، عدم الاشتراك في الجرائد، وتأخيره حتى يشيب الغراب، سرق الكتب من أربابها وعدم ردها إليهم، الانتظار لمن تواعده على الساعة المعلومة ولا يأتيك حتى يقضي أشغاله؛ وتشبع النوم في مكانك..."(18)، ويواصل الحاج محرم كلامه مبِّرار هذه السلوكات المشينة بقوله: "ها أنتم هؤلاء ترون وتعلمون علم اليقين أنه ما كفر (محرم) ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس ما تقدم من المعاصي ويعملونها بلا احتشام ولا خجل".(19)
في هذا النص يستعرض الشيخ أبو اليقظان المعاصي والآثام المستفحلة في الجزائر، على لسان شهر محرم الذي ذكره هنا من باب الرمزية؛ إذ لا يوجد اعتبار بالمناسبات الدينية التي تأتي كل سنة – ومنها شهر محرم- لتذكر المسلمين بمآثرها التاريخية العظيمة، لكن! هيهات لا اعتبار من وحي المناسبة، ولا تقدير لها كونها من أشهر الحرم العظيمة؛ فها هو محرم يتأسف على ما يقع من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتتعلق هذه المعاصي بالسلوكات والتصورات والقيم والأخلاق؛ ودلالة ذلك أن تدُّين الناس أصبح أعرج على جميع المستويات.
ب- الموضوعات الاجتماعية:
ومن الموضوعات الاجتماعية التي سكبها الشيخ أبي اليقظان في جريدته ظاهرة الموضة والعصرنة فقال في نص بعنوان: (ِسي لاَمود)(20) "الأب لابنه: مالي أرى على رأسك هذه القبعة الجديدة التي ما عهدناها عليك سابقا؟ الابن: أخي الكبير هو الذي اشتراها لي وأمرني بلباسها ومع هذا فإنني مسرور بها جدا، الأب لابنه الكبير: أأنت الذي فعلت هذا بولدي ابراهيم؟ أو هل أعجبتك هذه القبعة التي ما لبسها أبوك يوما ولا أجدادك من لدن آدم؟ الابن الكبير لأبيه أنا الشاري لها حقا ولا تلمني يا أبي إنني ما اشتريتها حتى رأيت شبان العاصمة كلهم اتخذوها بدلا من الشاشية اتباعا (للمودة) الأب -إنكم مغرورون والله- إن أصحاب هذه (المودة) التي أنتم مشغوفين بها ليكرهونكم أكثر من كراهية اليهود للموت، فما بالكم أنتم مغرومون بتقليدهم يا أولادي".(21)
نلاحظ في النص عدة جوانب اجتماعية منها: الحوار الأسري المثمر بين الأب وأولاده في السلوكات التربوية، إضافة إلى ذلك تقربه إلى أبنائه بصفة الوالد الحنون المربي المؤِّدب بقوله لهم (أولادي)، كما نلمس في هذا الحوار زرع الأخلاق الفاضلة باتباع السير الصالحة للآباء والأجداد الصالحين والمصلحين؛ وفي هذا الكالم تهذيب للنفوس على تواصل الأجيال وترابطها وتعاونها في بناء المجتمع وصلاحه؛ فهناك حوار للأجيال- لا صراع للأجيال كما نسمع اليوم- كما نجد دعوة الأب الصريحة لأبنائه في المحافظة على التراث المحلي للجزائر وصيانة الشاشية من الاندثار والزوال بدال من استيراد القبعة الغربية، ويحذِّر الأب أبناءه من التقليد الأعمى باسم الموضا؛ لأنها من دسائس اليهود والكفار المستدمرين الذين لا يرضيهم مظاهر الحضارة الإسلامية في لباس الإنسان الجزائري المسلم؛ فيساهمون في مسخهم وتجريدهم من هوياتهم باسم العصرنة والتجديد وذِّم القديم البالي.
ت- الموضوعات السياسية:
ومن الموضوعات السياسية التي طرحها الشيخ أبو اليقظان هي ضرورة الوعي السياسي بمكائد المستدمرين لتفريق الأمة والنيل منها، والحذر ممن يناصرهم ويعمل على شاكلتهم، يقول في نص بعنوان (خَلَّص واشتكي): "...وما زال أولائك النواب والأمة المسكينة منتظرين الإفراج؛ ولكن هيهات أن يظفروا بالمقصود مدبرهم يكيد لهم ويتمنى لهم كل ويل وثبور يسر لاستيائهم ويفرح لحزنهم ويرقص لبؤسهم وشقائهم، ومن جملة ما يكيد لهم أنه يعلم مثال أن باب الشكاية مفتوح قبل وقت أداء الضرائب المعلوم رسميا، فعوض أن ينصح لمرؤوسيه بجعل شكاية قبل فوات الوقت حتى تكون لها ثمرتها ينسيهم في ذلك ويماطلهم حتى إذا حان وقت الدفوع فحينئذ يأمرهم بالأداء ثم الشكاية إن أرادوا هازئا بهم وساخرا لأنه يعلم أن شكايتهم لا تجدي نفعا ما داموا يؤخرونها بعد الوقت المعلوم... فيا أيها السكان ويا أيتها الأّمة كونوا معتمدين على الله وعلى أنفسكم وكونوا على بينة من أمركم وقوموا بواجباتكم في وقتها ولا تغتروا بمن يقول لكم: خَلَّص واشتكي"(22).
الملاحظ في هذا الكلام هو تنبيه الناس الغافلين عن مكايد الاستدمار الفرنسي ومن لفَّ لفَّه بتضييع حقوق الشعب الجزائري المغلوب على أمره، فهو يدفع الضرائب ولا يستفيد من الحقوق؛ فهو بين نارين؛ نار عدم دفع الضرائب واتنظار العقاب، ونار دفعها وانتظار التماطل والاستهزاء كثمٍن لهذا الفعل؛ فأبو اليقظان يحث المواطنين الجزائريين على الاعتماد بأنفسهم في حل قضاياهم ومشاكلهم العالقة، وعدم الانصياع للمستعمر الغاصب الذي سلب الحريات ويريد سلب الأمول والخيرات باسم الضرائب؛ كما يحذِّر أبو اليقظان كذلك من المنهزمين التابعين للاستعمار الذي يزرعهم بين الأوساط الشعبية الجزائرية بوجه مقَّنع مغلف ظاهر النصح والإرشاد بالقول: (خلَّص واشتكي) من مفهوم الالتزام بالقانون بغية اقتناص الحقوق وعدم تضييعها، وباطنه هو الرضوخ لمخططات الاستعمار الفرنسي؛ وعلى كل هذه القضية على سبيل المثال لا الحصر؛ حيث صاغها الشيخ أبو اليقظان في هذا القالب فتحا للعيون، وتوعية للقلوب، وتنبيها للعقول مَّما يحاك للإنسان الجزائري في دواليب السياسة والحكم.
ث- الموضوعات الثقافية:
من الموضوع الثقافية التي تطرق إليها أبي اليقظان في "البستان" جهل كثير من الناس وعدم استعدادهم لخوض غمار الحياة الثقافية واكتناز كنوزها؛ فيقول في ذلك مقترحا: "... جل الناس في حيرة وتيه بين مسالك الحياة الملتوية، ولإزاحة هذا الظالم أرى من المحتَّم على الذين أصيبوا بهذا التيه أن يتباروا في جعل الاشتراك مع شركة (لوبون) الكهربائية فتنشئ فروعا لهم ومراكز في بلادهم تمد منها الأسالك الكهربائية إلى رؤوسهم لإضاءتها بشموسها..."(23).
في هذا النص تهكم وسخرية بالجهلة الذين يرضون لأنفسهم بالمستوى المتدني من التيه والضلال في وقت وجبت فيه الثقافة وأصبح طلب العلم واجبا؛ فيرى أبو اليقظان لهؤالء أن يـمدوا رؤوسهم بأضواء كهربائية لتنير عقولهم بنور العلم والمعرفة؛ وفي هذا الكلام- إضافة إلى السخرية- حزن وألم ومرارة لواقع كثير من الجزائريين الذين رضخوا للجهل، وماتت ضمائرهم، وقد استغلتهم فرنسا كثيرا لتمرير رسائل اجتماعية؛ مستغلة ضعفهم الفكري َّوالثقافي لإشاعة الجهل بطرائق مختلفة، ومنها الدعوة إلى تقديس القبور والأضرحة والصالحين باسم الدين جهلا وظلما وعدوانا، وتلك الطائفة التي أفرد لها أبو اليقظان حديثا مطولا ؛ هي طائفة الطرقيين التي نشرت الجهل والخرافات في المجتمع الجزائري... وما أكثر الموضوعات والأفكار التي تطرق إليها الشيخ أبي اليقظان في "بستانه".
رابعا: فنيات الإيحاء والكتابة الساخرة في جريدة "البستان":
تنوعت الفنيات الإيحائية الساخرة في جريدة البستان، وقد تبلور ذلك من خلال اللغة والصور المشبهة، وطريقة عرض الفكرة؛ وكل ما من شأنه أن يوصل الفكرة مراوغة ساخرة في ظاهرها، وأليمة متحسرة في باطنها، ومن الخصائص الفنية لمقالات الشيخ أبي اليقظان في جريدة البستان ما يلي:
- استخدام الرموز على ألسنة الحيوانات للتبيلغ عن كثير من المعاني الموجودة عند الإنسان، ومن الحيوانات التي وظفها أبو اليقظان: (الحمار، الكلب، السنور)، ليدل على تفشي الجهل والأمية من جهة والذل والانكسار من جهة أخرى ساخرا ومتحسرا على هذا الوضع، وعناوين بعض المقالات ومضامينها تحمل هذه الدلالات كقوله (عقل حمار في رأس بنادم)، ومما قاله -أيضا- في مقال بعنوان (حمار شيوعي): "قدم أحد الوشاة إلى أحد مكاتب الكوميسارية بحمار أحمر اللون قصير القامة طويل الأذنين يسمى (كاديشون) قائلا لصاحب المكتب إني بعد البحث والتنقيب وجدت هذا الحمار شيوعيا...إذا كانت الجمادات شيوعية فالحمار من باب أولى وأحرى"(24)، يوحي هذا الكلام بتناقض الشيوعية في مبادئها التي ترى إلى الطبيعة أنها صدفة، وبالتالي أدمج الحمار في مذهبها الذي ينادي بالمساواة، ورمز إليه بالحمار الذي يمثل الكدح والعمل؛ إضافة إلى ذلك يمثل هذا النص نوعا من السخرية بالإنسان الشيوعي الذي وسمه بالحمار الأحمر الذي يمثل الشيوعية؛ وفي هذا الكلام إشارة إلى خطورة هذا الفكر اللاديني على المجتمع الجزائري المسلم.
- استخدام الحشرات كرمز موح للفساد، وقد تبلور هذا في (الجراد) الذي تكرر كثيرا في عدة مقالات؛ ومنها قولهُ في مقال بعنوان (مقلقاتي): "يقلقني أن يهجم الجراد الجائح على الناس وهم في أشد ما يكون من الضنك وضيق الأزمة الحالكة وعسر الوقت الكالح، كأنه أبله لا يعلم من الحالة هذا، يقلقني أن يتسرب الجراد حتى للحدائق والبساتين والمساجد ودكاكين الحلاقة فيأتي على الأخضر والأكحل والأحمر والأصفر ولا يترك إلا أرضا جرداء وذقونا قاحلة"(25) ؛ ومفهوم الجراد هنا هو الفساد الأخلاقي والاجتماعي الذي عم في كل المجالات وعلى مختلف الأصعدة؛ ففي المساجد نجد الفتاوى المضللة للطرقيين ومن لف لفَّهم من اتباع البدع والخرافات والخزعبلات التي تهتك بأصول الدين وأُسس العقيدة كما يهتك الجراد بالنبات في أوراقها وأغصانها؛ وان لم يجد عائقا فسيصل إلى جذوعها، وأما في دكاكين الحلاقة فيقصد به الفساد السلوكي على مستوى الأفراد في تقليدهم الأعمى للغرب الكافر حلق اللحية، واتخاذ ألوان من تسريحة الشعر مجاراة للموضا والعصرنة.
- استخدام صيغ الاستفهام المختلفة وطرائق السؤال المتنوعة من باب ما يسمى تجاهل العارف تهكما وسخرية، ومثل ذلك قول أبي اليقظان متسائلا: (أين عقولهم إذ ذاك؟) " أين يضع الأوروبيون عقولهم الكبيرة وأفكارهم الراجحة عند ذهابهم إلى متنزهاتهم وملاهيهم؟؟ أظن أنهم يضعونها في رفوف منازلهم أو في الحقب مع الأثاث...!"(26) نلمس في هذه الفقرة السخرية والتهكم الكبيرين من الأوروبيين؛ الذين يشاع عنهم الثقافة والفكر والعبقرية، ولكن في السلوك والواقع بعد المشرقين؛ فبئست المفارقة، وهذا المفهوم يتبلور في صيغة السؤال أين عقولهم؟ طبعا عقولهم في أجسادهم وليست منفصلة عنه منطقا وعقال، لكَّن الواقع هو عدم ظهور الـملكة العقلية التصورَّية في السلوك؛ فلا تنفع إذن عقولهم.
- توظيف اللغة الدارجة للنزول إلى مستوى العوام في تفكيرهم من جهة، ومن جهة أخرى تقريب الفكرة للقارئ حسب ما وردت في النص الأصلي لها حتى لا تفقد معانيها التي وضعت لها، يقول أبو اليقظان عن الطبقة العامية الجاهلة باختلاف أعمالها ووظائفها: "كَانْ تَحْسَبْ رُوحَكْ مُولاَ ذْراعْ ايَّا اضْربْ مْعَانَا الفَالَة والْبَالة والشَّبُون وهَزْ الدْلَوْ مَنْ البْئر بَرَكَاك مَنْ هَذَا التكَعْرير (خَمَّاسْ)(27) كَانَك زَهَّارْ بَن ازْهَرْ مْعَانَأ في بيت اسْخُونْ واضْربْ الطَّاسة والكَاسَة أو خَليك مَنْ الورقة والكرًّاسَة تريَّح على خير (حْمَامْجي)(28)، نلاحظ في النص اللغة العامية الدارجة على لسان (الخَمَّاس) أو الفَلاَّح الذي يدعوه للعمل في المجال الفلاحي وما يلزمه من خدمة الأرض وتعهدها بالسقاية والرعاية والكف عن التفكير في العلم والثقافة فهو تكعرير أي تضييع للوقت فيما يفيد، وعلى هذا المنوال أجاب صاحب الحمام ودعاه إلى التنظيف والغسيل والبعد عن مقلقات العقل من تفكير وتركيز وكتابة في الكراس بغية أن يرتاح من كل هذه الأتعاب؛ وكأنه يشير بهذا الكلام إلى قول الشاعر العَّباسي المتنبي إذ يقول:
ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ * وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ
والشاهد -هنا- أبا اليقظان نقل إلينا مستوى العامة في تفكيرهم بلغتهم العامية الدارجة تهكما وسخرية الجهل الذي يسبحون في غماره، مفضلينه على العلم الذي ينير عقولهم وبصائرهم.
- توظيف اللغة الفرنسية للتوضيح من جهة، وتقريب المصطلحات إلى الناس مثلما يستخدمونها؛ مثل: "ساعة في لافوار، الكونتوار، البوليتيك، مسيو، تيليفون، كونفيونص، لبريس ليبر"(29)، وقد كتبت هذه الكلمات بهذا الشكل العربي؛ ولكن معانيها فرنسية؛ وقد دل هذا الاستعمال كذلك على التبعية الغربية خاصة لفرنسا التي كانت جاثمة على صدور الجزائريين مدة طويلة، فجّل الناس لا يتواصلون إلا بالعامية المخلوطة بالفرنسية.
- استخدام الأمثال الشعبية للنزوع إلى المستوى العامي للناس والتأثير فيهم، وبث الوعي فيهم انطلاقا من مستواهم الفكري الضعيف، وحاولة ترقيته إلى مصاف التفكير العميق بغية التغيير في المجتمع والتأثير فيه، ومن النماذج الموجودة لتلك األمثال في الجريدة: (دقدق الباب تسمع الجواب، عيش تسمع، اللي احبهم الاثنين ايفوتوه، إذا حبك الهلال بكمالو واش عندك في النجوم إذا مالو، اللي يحسب وحدو يشيطلو....)، وقد حاول أبي اليقظان أن يقِّرب هذه الأمثال إلى عقول الناس بالشرح والتوضيح وضرب نماذج من الواقع، يقول في مثل ذلك: "اِذَا حَبَّكْ الهْلاَلْ بَكْمَالُو وَاشْ عَنْدَكْ فْي النُجُومْ اذَ مَالو"، هذه قاعدة معروفة إذا كان جل الناس يعترفون بفضل عالم أو زعيم أو يصرحون بخير كريم أو يغنون بقيمة جريدة أو يسكرون بحب جماعة إصلاحية، فلا عبرة بقصارى العقول؛ إذ لا يمكن أن يبقى الصالح بدون الطالح يعمل ولابد وأن يكون للعبد أعداء ألداء وإن لم يكونوا له فهو والعدم سواء، وذلك من باب:
وَاذَا أتتك مَذَمَّتي مِنْ نَـاقِص * فَهِي الشَّهَادَةُ لي بِأنّي كَامِلُ
ولن يوجد فاضل في الدنيا لم تلكه ألسنة الذم حتى الأنبياء والرس(30).
استخدام أعمدة شعرية في أغلب الأعداد، ويعنونها بـ"زهرة من البستان"؛ ويحمل تلك الأبيات التي ينظُمها شحنة كبيرة من السخرية المغلفة بالتوعية والإرشاد، إيمانا منه بتأثير الشعر من زاوية إيقاعه وموسيقاه، ومن زاوية كلماته َ المعبرة عن المعاني والمفاهيم التَّوعية، وكانت تلك الأعمدة بلغة عربية فصيحة نشرا للعربية الأصيلة كمناوئة للاستعمار الفرنسي الذي عارضها وكاد أن يقضي عليها بالفرنسة، يقول أبو اليقظان في عموده ال ِّشعري "زهرة من البستان":
مَا لِهَذَا الظَّلاَمِ عَمَّ الأناما؟ * أأرَى يقظَة وَإلاَّ مَنَامَا
أصحيح ما قيل إن ضياء النو * ر بعد النهار صار ظلاما
لم أصدق حتى إذا لك أر النو * ر تحققت قولهم والمراما(31)
- توظيف المحسنات اللفظية بشكل عام، والسجع بشكل خاص ليجلب المستمعين إليه، وكانت هذه الخاصية موجودة بشكل لافت للعوام؛ حيث إن الجريدة موجهة إليهم لينهضوا من مستواهم الضحل إلى مستوى الرقي والتطور الفكري والحضاري، يقول أبو اليقظان مستنكرا على العوام سكوتهم على المناكر في مقال بعنوان (هل من غيور؟): "ابقى على خير يا دنيا أنت وناسك، حيث ارفعت الشرير وحفظت الناسك، ما تعرفيش النصيح من اللي يحب افلاسك، اهل الصلاح فيك مهضومين حقوقهم اتسلبت، يا قومي ارجعوا للصواب واقبلوا النصيحة، اشتغلوا بمصالحكم واتبعوا الطرق الوضيحة، بطلوا عنكم الفازعة راهي فضيحة"(32).
- استعمال الفراغ والحذف ليملأها القارئ ويعطيها المفهوم الذي يريد من جهة، ومن جهة أخرى فإن تلك النقاط تعتبر فراغا اجتماعيا لابد للمجتمع أن يستدركه، ويملأ تلك العثرات بالإنجازات والمبَّرات، وقد عَّمت ظاهرة الحذف في الجريدة بمختلف عناصرها؛ أحيانا في العنوان، وأحيانا أخرى في وسط المقال، أو في نهايته؛ ومن أمثلة ذلك؛ قول أبي اليقظان في عناوين بعض المقالات: "فيك البركة...! عوم بحرك يا...، صدقت والله...!" ومن أمثلة ذلك في المقال قوله: " لو كان هؤلاء من الذين يجيدون القراءة والكتابة كما يجب لاقترحنا عليهم أن يتخذوا العاصمة مركزا لإقامتهم حتى لا ندرج فصلا في البستان إلا إذا مر على يدي حضراتهم العالية...!" (33)
توظيف الأحوال الاجتماعية كعناوين ساخرة تعتبر عن مستوى أولائك الذين هم في مستوى ذلك العنوان لتغيير ما بأنفسهم؛ ومن النماذج لتلك العناوين نجد: (في المنام خلص واشتكي، عادت النساء رجالا، ما زال الحال...) ونلاحظ هذه العناوين ترمي إلى تصحيح أخلاق خاطئة في المجتمع منها: تقديس الموضا والتبعية الغربية لكل جديد، والتخطيط في الأحلام دون النزول إلى الميدان؛ أو ما نسميه اليوم بـ"أحلام اليقظة"، والتخُّنث والميوعة في سلوك الرجال والنساء، وعدم الانضباط في الوقت، وهلم جرا...؛ وكلها معوقات تثبط تقدم المجتمعات ورقيها وصالحها دنيا ودينا وأخرى.
- استخدام التعريض بين الجمل؛ بغية السخرية الممزوجة بالحسرة والأسى(34)، يقول أبي اليقظان: "ويوجد من تحمله عاطفته إلى حمل مكحلة وشد حزامه بمحرمة خضراء والدخول للميدان ويداعب الموت! إذا ليس هناك أزمة-لا- قل ليس عندنا شعور وإحساس -ولعل هذا مجرد إشاعة وكذب ضحكة سترى-"(35).
الجمل الاعتراضية في هذا النص هي: (لا) و(لعل هذا مجرد إشاعة وكذب ضحكة سترى) وفي هذا الاعتراض تهكم ظاهري وتحسر باطني من حالة الأمة الجزائرية التي تحبذ حفلات البارود والرقص على جلسات العلم والمعرفة؛ ورَّد أسباب هذه المشاكل إلى إنعدام الإحساس بالوجود وعدم شعوٍر بالواجب.
خاتمة:
في ختام هذه الورقة البحثية التي قطعنا فيها أشواطا ممتعة في بستان الشيخ أبي اليقظان؛ مرتشفين من مياهه العذبة، ومكتنزين من ثماره اليانعة، ومفيدين من درره النافعة؛ وقد كشفت لنا هذه الدراسة عن عدة نقاط نلخصها مجملة كالآتي:
- يحتفي الأدب الجزائري بمختلف تشكيلاته اللغوية على كم كبير من المادة الإعلامية الصحفية التي ارفقت النضال السياسي ضد الاستعمار الفرنسي؛ ومن تلك الدرر والجواهر جرائد الشيخ أبي اليقظان التي سعت إلى زرع الوعي ونشر الثقافة والعلم في وقت عزت فيه هذه الأخلاق
- تمثل جريدة "البستان" مخزونا جزائريا محليا متنوعا تنوع مقالاته، ومختلفا اختلاف موضوعاته التي حملت في طياتها النضال السياسي والاجتماعي والديني والثقافي والحضاري والتاريخي بلغة ساخرة فكاهية بغية إقناع الشعب الجزائري بأصوله، وتعريفه بهويته؛ حين مارس عليه الاستعمار الفرنسي كل أشكال المسخ والتغريب والفرنسة والإدماج.
- تعتبر جريدة "البستان" أداة إعلامية معتمدة على التهكم والسخرية والفكاهة لهدف التحسر والتألم للواقع المعيشي الجزائري في فترة الثلاثينات؛ فهي -وإن أضحكت في شكلها السطحي؛ وسيلة للتغيير وزرع الوعي في شكلها العميق.
- تنَّوعت إجراءات السخرية في جريدة "البستان" من خلال توظيف الرموز الطبيعية والحيوانية، والنزول إلى اللغة العامية والتعريض، وجلب الانتباه من الجانب اللفظي اللغوي لأجل تمرير رسالة الإصلاح والوعي، واستئصال الجهل والفساد.
هوامش:
1- يعتبر قطب الأئمة الشيخ امحمد بن يوسف أطفَّيش من أشهر علماء إباضية المغرب الإسلامي في العصور الحديثة، وهو صاحب التآليف العديدة في مختلف الفنون النقلية والعقلية، وصاحب مدرسة خَّرجت فطاحل المصلحين والدعاة على مر عقود من الزمن، ولا يزال تراثه المكتوب مخطوطا في أغلبه نظرا لضخامته وجزالته.. ينظر: ملحق السير، إبراهيم أبو اليقظان، ج3 ص 153 وما بعدها، مخطوط.
2- صالح بن يحي آل الشيخ: (ت: 1948 م)، من رجال بني يسجن الثوريين والوطنيين البارزين، العضد الأيمن للشيخ عبد العزيز الثعالبي وأحد المساهمين في الحزب الحر الدستوري التونسي، وممن كان له السبب في نجاح مهمة الحزب خاصة في جمع التبرعات. ينظر: معجم أعلام الإباضية، مجموعة من الباحثين، نشر جمعية التراث القرارة - غرداية، المطبعة العربية غرداية - الجزائر، ط1، 1999.
3- محمد بن صالح بن يحي الثميني: (1897/1970م)، أحد أفذاذ بني يسجن ورجالها المخلصين، ومن الوطنيين البارزين، عضو اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري التونسي، ومبعوث الحكومة المؤقتة الجزائرية إلى أمريكا والمغرب. ينظر: نفسه، ج4 ص803 وما بعدها.
4- عيسى بن يحيى تعمو ت: (ت: 1983م)، من مدينة القرارة بميزاب، درس بمسقط رأسه، نظرا لحزمه وجّديته اختاره الشيخ إبراهيم أبي اليقظان سندا له في جهاده الصحفي، وقد أصدر أبي اليقظان جريدتي "المغرب" و"البستان" باسم مساعده تقية من كيد االستعمار الذي لاحق جرائده وأوقفها الواحدة تلو الأخرى. ينظر: نفسه، ج4 ص337.
5- عمر بن عيسى بن ابراهيم حاج امحمد: (1884/1973م)، أحد أفذاذ بلدة تجنينت (العطف) بميزاب، ورجالها المخلصين، ومن الوطنيين البارزين، اشتهر بدفاعه المستميت ضد التجنيد الإجباري للمزابيين في الجيوش الفرنسية، شارك بمقالات عدة في صحف أبي اليقظان، وأصدر بعض المؤلفات في الموضوع، أدخل السجن مرارا أثناء الثورة التحريرية كما جند أبنائه في الثورة. ينظر: نفسه، ج3 ص312.
6- ينظر: معجم أعلام الإباضية، ج2، ص52 وما بعدها.
7- ينظر: محمد صالح ناصر، المطبعة العربية معلم وطني 1931 -1962 ،)مكتبة الريام – الجزائر، ط1 ، 2008 ،كله.
8- ينظر: معجم أعلام الإباضية، ج2 ،ص52 وما بعدها.
9- ابراهيم أبو اليقظان، جريدة البستان، نسخ مصورة، مكتبة جمعية التراث – القرارة، الجزائر.
10- ينظر: أبو اليقظان، جريدة البستان، ع:01( 27/04/1933.)
11-نفسه.
12- نفسه.
13- نفسه.
14- نفسه.
15- ينظر: أبو اليقظان، جريدة البستان، ع:02( 11/05/1933.)
16- ينظر: محمد صالح ناصر، أبو اليقظان وجهاد الكلمة، )ش.و.ن.ت(، الجزائر، 1980 ،ص:80.
17- ينظر: ع:01.
18- ينظر: ع:02.
19- نفسه.
20- أي: الموضة، وبالفرنسية ) la mode.)
21- ينظر: أبو اليقظان، جريدة البستان، ع:04( 23/05/1933.)
22- نفسه.
23- نفسه.
24- ينظر: أبو اليقظان، جريدة البستان، ع:05( 30/05/1933.) 25
25- ينظر:أبو اليقظان، جريدة البستان، ع:06( 06/06/1933.)
26- ينظر:ع:02.
27- تشكيل النص من وضعنا، حيت ورد النص العامي في الجريدة غير مشكول، ولضبط المقروئية جيدا شَّكلناه.
28- ينظر:ع:04.
29- وردت هذه الكلمات باللغة الفرنسية معنى، ومكتوبة بلسان اللغة العربية مبنى؛ وتوضيحها مرتبة كما جاءت في المتن أعلاه: لافوار (la foire )، وهو: المعرض؛ الكونتوار (le contoire) وهو المتجر؛ البوليتيك le politique) وهي: السياسة؛ مسيو )monsieur ، أي: السيد، تيليفون )téléphone ،)أي: هاتف، كونفيونص )confiance ،)أي: ثقة، لبريس ليبر ) la presse libre)أي: الصحافة الحرة.
30- ينظر: أبو اليقظان، جريدة البستان، ع:08( 20/06/1933.)
31- نفسه.
32- ينظر:ع:04
33- ينظر:ع:06.
34- ينظر: محمد ناصر بوحجام، السخرية في الأدب الجزائري الحديث (1962-1925)، جمعية التراث، القرارة- غرداية، ط01 ،1425هـ/2004م.
35- ينظر:ع:01.