التعليم المسجدي في مشروع ابن باديس الإصلاحي
بقلم: د. مرزوق العمري-
اتجهت حركات الإصلاح الحديثة إلى الاعتماد على التعليم كفضاء إصلاحي أساسي؛ باعتبار بذرة التعليم تثمر في سائر الفضاءات الأخرى، وباعتباره أيضا الأداة التي تتصل بالإنسان فتستوعبه فهما وسلوكا؛ فهو من جهة عملية تقوية القوى العقلية والطبيعية للإنسان، ومن جهة أخرى تهذيب لسلوكه على نحو يبرز أثر المعلومات التي حصّلها الشخص المتعلم.
من هنا كان التعليم عاملا نهضويا مهما؛ إذ لو كانت أمة ما متعلّمة يفترض فيها أنها على قدر معتبر من الوعي والتطور، وتصبح بالتالي في غنى عمن يعمل على نهضتها إذ يكون الأمر من قبيل تحصيل الحاصل، بل تصبح تبحث عن كيفية الحفاظ على مستواها الذي وصلت إليه وإنجازاتها التي حققتها.
وقد اختار شيخ النهضة الدينية في الجزائر، ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الإمام عبد الحميد بن بادييس مهنة التعليم وسيلة مفضلة للنهوض بالمجتمع الجزائري الذي كان يعيش مستوى تعليميا جد متدهور، خاصة التعليم العربي المعوّل عليه في الحفاظ على هوية الأمة وربطها بماضيها الحضاري؛ هذا الوضع الذي كرسته قوانين استعمارية مثل قانون 24/12/1904م الذي يمنع كل جزائري من فتح مدرسة إلا برخصة من الإدارة الاستعمارية وتشترط فيه شروط منها:
أن لا يزيد على تحفيظ القرآن الكريم، مع عدم التعرض لآيات الجهاد والتضحية والحرية والظلم وكل ما ينافي رغبة الاستعمار، وكذلك عدم دراسة تاريخ الجزائر والدول العربية وكذا الأدب العربي، وأن لا يزاحم التعليم الرسمي الذي تشرف عليه الإدارة الاستعمارية(1).
وقد أدرك ابن باديس خطورة هذا الوضع فنذر وقته للتعليم، لذا نجده يقول: “إني قصرت وقتي على التعليم فلا شغل لي سواه”(2)، وقد ترجم هذه القناعة إلى عمل ميداني؛ فرابط في مجال التعليم سبعا وعشرين سنة معتبرا إياه من أعظم مقاصد جمعية العلماء، ومن أهم وجوه الدعوة إلى الله، ورد في مجالس التذكير: “فمن وجوه الدعوة إلى الله دروس العلوم كلها مما يفقه في دين الله ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته ويدل على رحمته وأنواع نعمته”(3). وبما أن هذا النوع من التعليم إسلامي الروح، ومادته هي العلوم الشرعية فقد كان المسجد هو المحضن الطبيعي له، لذلك عرف بالتعليم المسجدي.
وهو تعليم يلتزم فيه بتدريس كتب معينة في العلوم الدينية مثل: الفقه، والتوحيد، والحديث، والسيرة النبوية…وغيرها، ويشرف عليه مشايخ مقتدرون. ويذكر الشيخ البشير الإبراهيمي، أن سبب تسميته مسجديا؛ لأنه منذ فجر الإسلام وهو يلقى في المساجد حتى الآن وقد نهضت به بشكل بارز ثلاثة مساجد تاريخية هي: الزيتونة والأزهر والقرويين.(4) ونتيجة الوضع الذي كانت تمر به الجزائر في تلك الفترة رأى ابن باديس ضرورة هذا التعليم، وذلك من عدة جوانب:
1 – من حيث كونه أداة تمكن المسلم الجزائري من الحفاظ على هويته، ومن الاطلاع على مبادئ دينه وأحكام شريعة الإسلام.
2 – من حيث كونه غاية أيضا؛ فهذا التعليم ينظر إليه على أنه أداء للواجب أمام الله عز وجل، ومن واجبات المسلم أن يعرف ما علم من دينه بالضرورة.
3- من حيث كونه فضاء إصلاحيا، فلما أغلقت فضاءات أخرى، كان الإطار المسجدي مفتوحا نسبيا ويمكن أن يؤدي هذه الرسالة، ومن ثم يكون الإسهام المسجدي في عملية الإصلاح وتتحدد بذلك مرجعيته. وقد قضى ابن باديس في مشروعه التعليمي هذا ربع قرن أو يزيد، قدم من خلاله معظم العلوم الإسلامية لتلاميذه في الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة، من تفسير وعقيدة وأخلاق وغيرها، وإن كانت هذه العلوم قدمت مشافهة لكن الله كتب لمعظمها أن يحفظ؛ وذلك بفضل نباهة بعض تلاميذه الذين انتبهوا إلى نسخ وتدوين هذه الدروس التي كانت تقدم لهم من طرف ابن باديس لطبعها فيما بعد، فحفظوا بذلك جهد الشيخ وحفظوا للجزائر أيضا مرحلة من مراحل تاريخها العلمي والديني، فقد جمعت دروسه في العقيدة التي كان يمليها على طلبته وطبعت في كتاب بعنوان: “العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية”، وطبعت دروسه في تفسير القرآن الكريم في كتاب بعنوان: “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير”. وهكذا دروسه في سائر العلوم الشرعية.
وانطلاقة ابن باديس التعليمية هذه تميزت ببعد نظره إذ لم يكن همه تقديم دروس بسيطة في مختلف العلوم الإسلامية لأبناء الجزائر في تلك المرحلة، أو سد الفراغ في هذا المجال ريثما تتولى الدولة ذلك بعد أن تحصل الجزائر على استقلالها، بل كان يملك فلسفة تربوية متكاملة، ومشروعا تعليميا طموحا بعيدا في أهدافه غنيا في محتواه؛ ويتجلى ذلك من خلال إعداده برامج تعليمية نظامية، نجد فيها المواد المدروسة ومضامين كل مادة، والمدة الزمنية الضرورية لذلك، وطريقة إجراء الامتحانات واختياره للمعلمين الذين يقومون بهذه الوظيفة، وتوزيع هذا العمل على مختلف مناحي البلاد بإنشاء مدارس مثل مدرسة الحديث في مدينة تلمسان بأقصى الغرب الجزائري، ومدرسة تهذيب البنين والبنات في مدينة تبسة بأقصى الشرق الجزائري …وغيرهما، وكلها شواهد على سعة الأفق الباديسي في هذا المجال.
ويؤكد ذلك كله تنسيقه مع معاهد ومدارس خارج الجزائر لتنظيم بعثات تواصل تعليمها الذي كانت بدايته دروس مسجدية في مساجد الجزائر خاصة مع جامع الزيتونة. و ما يدل على ذلك أيضا منح شهادة معترف بها بعد إنهاء مرحلة التعليم المقررة. وقد تولى هذا الأمر خاصة معهد ابن باديس بعدما أسس سنة 1947م. وهذا الجهد كان ابن باديس يرمي من ورائه إلى تأسيس كلية إسلامية، ورد في أحد تقاريره عن سير الدروس المسجدية في مدينة قسنطينة أنها صارت تتوفر على عدد من المشايخ يبشر بإمكانية فتح معهد علمي يكون أساس كلية إسلامية في الجزائر.(5)
وقد لاقى ابن باديس في سبيل هذه الغاية ردة فعل استعمارية عنيفة عرقلته حينا، وبددت جهوده حينا آخر، لكنه لم ينثن له عزم بل استمر مجاهدا إلى أن أتى هذا التعليم ثمرته التي تمثلت في تكوين جيل ساهم في الحفاظ على الهوية الإسلامية للجزائر، وحفظ لها انتماءها الحضاري.
وعليه فهذه الدراسة تسلط الضوء على التجربة الباديسية في مجال التعليم المسجدي من خلال التركيز على الأبعاد التي روعيت في المشروع الباديسي وهي: الوظيفة الإصلاحية للتعليم المسجدي، وبيان الحكم الشرعي لهذا النمط من التعليم، وما الآفاق التي ارتسمها ابن باديس لهذا العمل التعليمي؟ وما هو رد فعل السلطة الاستعمارية؟
هذه الأبعاد متكاملة تشكل مضمون هذه الدراسة، كما يلي:
المبحث الأول: الوظيفة الإصلاحية للتعليم المسجدي في نظر ابن باديس
إذا كان المبتغى الإصلاحي هو تكوين الإنسان النافع لأمته، فإن هذا التكوين يقتضي نوعا من التعليم تمثل في المشروع الإصلاحي الباديسي في التعليم المسجدي، وقد اتخذ ابن باديس من المسجد فضاء للتعليم حتى يجعل منه كمؤسسة إسلامية مؤثرة في العمل الإصلاحي وموجهة له، ولم يكن ذلك بدعا منه بل هو تقليد إسلامي أصيل؛ إذ المساجد في الإسلام هي مراكز الإشعاع، ولهذا كان ابن باديس يقول: “فإذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم فإن العامة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظ وافر، وتتكون منها طبقة مثقفة الفكر صحيحة العقيدة، بصيرة بالدين، فتكمل هي في نفوسها ولا تهمل ـ وقد عرفت العلم وذاقت حلاوته ـ تعليم أبنائها وهكذا ينتشر العلم في الأمة ويكثر طلابه من أبنائها وتنفق سوقها فيه، أما إذا خلت المساجد من الدروس فإن الأمة تنفض عن العلم والدين وتنقطع علاقتها به وتبرد حرارة شوقها إليه فتجسوا نفسها وأبنائها، وتمشي والدين فيها غريب”(6).
من هنا يتبين لنا أن ابن باديس كان ينظر إلى الوظيفة الإصلاحية للتعليم المسجدي باعتباره أساس الإصلاح، مؤسسا نظرته هذه على المحاور المختلفة التي تقوم عليها العملية التعليمية من: عالم ومتعلم ومادة علمية.
فبالنسبة للمعلم أو العالم، كان ينظر إليه من خلال النتيجة التي يحدثها؛ فإن كانت النتيجة هي التعليم الصالح فذلك دليل صلاح العالم؛ لأن العالم هو قطب الرحا الذي تدور حوله العملية التعليمية، لذلك كان ابن باديس يرى أن صلاح المسلمين مرهون بصلاح علمائهم لأنهم هم الذين يأخذ الناس عنهم فقههم بالإسلام وعملهم به، وكان يقول: “إذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم”(7).
وقد قدم ابن باديس في هذا الميدان القدوة لغيره، فقناعته بأن التعليم هو أساس الإصلاح جعلته يتولى التدريس في الجامع الأخضر لوحده، ولما كثر عدد تلاميذه أصبح يستعين بألمعهم وكان الفضيل الورتلاني أحد هؤلاء، وكانت النتيجة التي أحدثتها تلك الدروس التي كان يقدمها تنم عن قدرة المعلم، وغيرته على العلم وحرصه على انتشاره، وقد وصف الشيخ البشير الإبراهيمي دروسه العلمية تلك بأنها: “تجتذب أفواجا من الشباب، ودروس الوعظ والإرشاد كانت تجتذب الجماهير إلى حظيرة الإصلاح وتحدث كل يوم ثغرة في صفوف الضلال”(8).
ولما كان الهدف هو الإصلاح ألحق الإمام بالمسجد فرعا لمحو الأمية، يعلم فيه الكبار بالقدر الذي يرفع الأمية عنهم. وفي شهر (ربيع الأول1354 هـ/جوان1935م) قرر توسيع هذا النشاط المسجدي إلى خارج المسجد وتمثل ذلك في تكوين وفود للوعظ والإرشاد موزعة على العمالات الكبرى للبلاد، وتشكلت تلك الوفود من رجال الجمعية الأوائل: ابن باديس، العربي التبسي، البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، محمد خير الدين(9).
أما المتعلم فلا شك أن التعليم الذي يتلقاه سيطبعه بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، وذلك من خلال تقليده لمعلمه، وقد أدرك ابن باديس المعلم مدى تأثر التلميذ بمعلمه فعمل على تقوية الإرادة في تلاميذه وكان: “يفيض عليهم من روحه القوية فيضا من القوة يعدهم بها للعمل في أمة مفتقرة إلى العاملين”(10).
كما كان يصنع فيهم الطموح الذي يمكنهم من الإقدام والاستزادة من العلم عن طريق كتابة ونشر ما ينتجه البعض منهم، وعن طريق الاستعانة ببعضهم في التدريس وفي الوعظ والإرشاد في مساجد ونوادي الجمعية خاصة في شهر رمضان. وفي الوقت ذاته اشترط شروطا في المتعلمين حتى يتاح لهم الالتحاق بدروسه، من هذه الشروط: حفظ القرآن كله أو ربعه على الأقل وأن لا يتجاوز سن الطالب 25 سنة وهي شروط كان يركز عليها ابن باديس. كما قسم المتعلمين إلى فئتين صغار وكبار بعدما كان التعليم المسجدي خاصا بالكبار. يقول ابن باديس: “كان التعليم المسجدي بقسنطينة قاصرا على الكبار ولم يكن للصغار إلا الكتاتيب القرآنية، فلما يسر الله لي الانتصاب للتعليم عام 1332هـ جعلت من جملة دروسي تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها في آخر الصبيحة وآخر العشية، فكان ذلك أول عهد الناس بتعليم الصغار”.(11)
أما المادة العلمية فقد كانت محل اهتمام أيضا من طرف ابن باديس، فكان يرى أن التعليم المراد ينبغي أن يكون مضمونه غنيا مكثفا مهما منظما، يمكّن المتعلم من أن يصبح عالما من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به في سلوكهم. وتكوين هذا النموذج من العلماء لن يتم إلا بإصلاح التعليم، وإصلاح التعليم في نظر ابن باديس لن يتم هو الآخر إلا بشروط هي:
1ـ ربطه بالتعليم النبوي.
أي ربطه بأصله ومعينه الأول وهو المشكاة النبوية في منهجه وفي موضوعه وفي غايته؛ في غايته لأن التعليم في حد ذاته يشكل غاية الرسالة الإسلامية لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إنما بعثت معلما”.(12) أما عن مضمون مادة التعليم النبوي فلا شك أنها أمور الدين المختلفة من عقيدة وشريعة وأخلاق، وقد أشار ابن باديس إلى ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم:” كان يعلم الناس دينهم من الإيمان والإسلام والإحسان”(13). وكان يعلمهم دينهم بالاحتكام إلى كتاب الله وذلك أمر لن يكون في نظر ابن باديس إلا بتلاوة هذا الكتاب لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(14).
وكان يعلمهم أحكام دينهم المختلفة مبينا إياها لهم من خلال سنته عليه الصلاة والسلام. أما كيفية هذا التلقي ومنهج هذا التعليم؛ فقد كان المسلمون يتعلمون منه هذه العقائد والعبادات والأخلاق من خلال تقليده عليه الصلاة والسلام في أقواله وأفعاله وجميع أحواله متمسكين في ذلك بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر الناس أن يأخذوا عنه مناسكهم.(15)
2 ـ الاقتداء بمنهج السلف
من جهة أخرى كان ابن باديس يرى من شروط إصلاح التعليم الاقتداء بمنهج السلف في تعليمهم الناس دين الله عز وجل، وهو يريد بذلك أن يجعل من هذا المنهج التعليمي في حركته امتدادا للتعليم الذي كان يقوم به رجال السلف وعلماء الأمة في القرون الأولى. هؤلاء السلف الذين كانوا يعتمدون في الدعوة إلى دين الله عز وجل على القرآن الكريم، وعلى ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المنهج الذي سلكه علماء الإسلام في القديم من أمثال مالك والشافعي وغيرهما. وقد ذكر ابن حزم منهجهم هذا حينما قال: “كان أهل هذه القرون الفاضلة – يعني القرون الثلاثة الأولى- يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في القرآن ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه عليه الصلاة والسلام عملوا به واعتقدوه”.(16)
وحينما تولى ابن باديس التعليم في المساجد أخذ بهذا المنهج وطبقه في دروسه التي كان يقدمها لتلاميذه، وقد وصف الشيخ البشير الإبراهيمي طريقته تلك وصفا يبرز اقتداءه بمنهج السلف الذي كان ابن باديس يراه شرطا من شروط إصلاح التعليم، يقول الإبراهيمي: “كانت دروسه تقدم بطريقة تذكر بكتاب الله تشرحه وتستجلي عبره، وبالصحيح من سنة رسول الله تبينها وتنشرها وبسيرته العلمية تجلوها وتدل الناس على مواضع التأسي منها، ثم سير الصحابة وهديهم، ثم سير حملة السنة النبوية وحملة الهدى المحمدي في أقوالهم وأعمالهم كذلك”(17).
لنجده يقرر مجموعة من الكتب للدراسة مثل: موطأ مالك في الحديث، الرسالة للإمام الشافعي في أصول الفقه، متن ابن عاشر في الفقه، القطر في اللغة بالإضافة إلى ديوان الحماسة لأبي تمام، ديوان المتنبي، أمالي القالي، مقدمة ابن خلدون، …وغيرها. كما كان يحث على تعلم الفرنسية كلغة ثانية ويعتبرها ضرورة، وهكذا فالمادة العلمية تمثلت في العلوم المختلفة من: تفسير، حديث، فقه، فرائض، عقائد، مواعظ، تجويد، أصول، منطق، نحو صرف، بلاغة، أدب، محفوظات، مطالعات، الإنشاء، حساب، جغرافيا وتاريخ. ويبدو من خلال اعتماد هذه المواد التأثر بالطريقة التقليدية المعتمدة في المساجد خاصة جامع الزيتونة.
3 ـ ربط الفروع بأصولها.
من أهم صور إصلاح التعليم في نظر ابن باديس إصلاح المنهج؛ وذلك لأنه انطلق في نظرته الإصلاحية من واقع التعليم في عصره، وهو واقع تضمن الكثير من المفارقات؛ إذ تقدم الفروع ويؤخذ بها دونما أخذ بالأصول، مما يؤدي إلى الكثير من الأخطاء المنهجية؛ لأن المعلومات الفرعية تؤخذ دون قدرة صاحبها على التبرير والتعليل، فتكون بذلك المعلومة مبتورة، وإذا كانت المادة العلمية على هذا النحو فلا يعول عليها في صناعة التصور الإسلامي الصحيح الذي هو الغاية منها.
ولهذا نجد ابن باديس يدعو إلى التعامل مع النصوص الشرعية مباشرة، وأن لا نقف عند أقوال العلماء معتقدين أنها هي الشرع. وقد ثبت عن الإمام مالك أنه قال: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم. واعتبر ابن باديس البعد عن الأصل والتشبت بقول الشيخ إحدى المشكلات التي تعرقل إصلاح التعليم المسجدي. وقد وقع فيها أبناء المغرب الإسلامي من قبل وحتى أهل الأندلس فقد ذكر ذلك ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله حينما قال بأن أبناء المغرب والأندلس لم يعد غرضهم من المناظرات العلمية معرفة وجه الصواب، لأنهم يتشبثون برواية معينة ولا يقبلون خلافها.
وابن باديس يريد من وراء هذا محاربة الجمود والتقليد، والدعوة إلى عدم حمل الرواية دون معرفة أصلها وما يوافقها وما يخالفها من الروايات الأخرى مبينا أن ذلك من المهالك وأن الفروع المقطوعة عن أصولها لا تسمى علما.
المبحث الثاني: البعد الشرعي للتعليم المسجدي عند ابن باديس
وحتى تتجلى الأهمية التي يكتسيها التعليم المسجدي بشكل أكبر نجد ابن باديس يبدي نظرته الشرعية لهذا النوع من التعليم في شكل فتوى تتضمن الحكم بوجوب القيام به بعد أن بين أصل مشروعيته والحاجة إليه وكيف ينبغي أن يكون هذا التعليم.
أما أصل مشروعيته فقد استمده ابن باديس من السنة خاصة السنة الفعلية، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبن بيته حتى بنى المسجد، وقد بناه ليؤدي فيه الصلاة ويجلس فيه لتعليم أصحابه، ولهذا يعتبر ابن باديس أن علاقة المسجد بالصلاة كعلاقته بالتعليم، وذلك لأن قوام الإسلام هو التعليم، فلا يعبد الله عز وجل عن جهل، ولذلك لم ينقطع النبي صلى الله عليه وسلم عن التعليم في مسجده حتى في مرضه الذي توفي فيه.
ومما يدل على مشروعيته أيضا إمضاء المسلمين لهذه السنة التي ثبتوا عليها وعملوا على بقائها في الأمة من خلال أحباسهم وأوقافهم؛ فقد كانوا يوقفون الأراضي لتشيّد عليها مساجد يعبد فيها الله عز وجل، ويتعلم فيها المسلمون أمور دينهم. من جهة أخرى يبرز ابن باديس وجه الحاجة إلى هذا النوع من التعليم لبيان ضرورته الحضارية وأهميته في حياة الأمة، وأهميته في الظرف الذي كانت تمر به الجزائر خاصة أيام الاستعمار وذلك من خلال:
1 – ارتباطه بالإسلام، فأصبحت الحاجة إليه من صميم الحاجة إلى الإسلام؛ لأنه لا يمكن تعلم عقائد الإسلام، وشريعة الإسلام وآداب الإسلام دون هذا التعليم الذي إطاره المسجد.
2 – تدهور وضع الأمة وبعدها عن دينها بسبب تخليها عن هذا النوع من التعليم الذي لا يمكن فصله عن الصلاة.
3 – الاستنان بسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا يستغنى عنها في كل الأحوال، وقد ثبت عنه أنه قد اعتنى بالتعليم المسجدي.
يقول ابن باديس: “الإسلام دين الله الذي يجمع بين السعادتين وإنما يسعدهما به من اعتقد عقائده وتأدب بآدابه وارتبط بأحكامه في الظاهر والباطن من أعماله، ولا بد لهذا كله من التعليم الديني الذي محله المساجد”(18)
وقد كان الدافع الذي انطلق منه ابن باديس للاهتمام بالتعليم المسجدي هو الوضعية التي آل إليها هذا التعليم والتي يذكر بأنها وضعية خلاف ما أسست لأجله المساجد، فالمسلمون في الجزائر حينما يوقفون أملاكهم لتشييد المساجد يقولون حبست للصلاة والتعليم، فهي إذن مهمة مسجدية جليلة، وقد كان المسلمون على وعي بهذه الوظيفة التعليمية للمسجد لذلك كانوا يسجلون أوقافهم بأنها للصلاة والتعليم. ولكن الأمة مرت بظرف تاريخي وسياسي أنساها هذا الاهتمام بالتعليم المسجدي، وصار المسلمون لا صلة لهم بعلوم دينهم، وقد أدى تعطيل هذه الوظيفة المسجدية إلى تفشي الأمية الدينية التي من دون شك استغلها الاستعمار في تمرير دسائسه.
ونتيجة هذه الوضعية التي آل إليها التعليم المسجدي، والتي أدرك ابن باديس آثارها السلبية على الأمة، راح يحث على ضرورة الاعتناء بالتعليم ووجوب القيام به، وأنه في ذلك الظرف صار الوجوب عينيا ولا يسقط على أحد إلا إذا قام به أهل التعليم، فيكون قيامهم به يكفي الباقين.(19) كما يرى ابن باديس أنه يجب على الحاكم أن يبعث في رعيته من يعلمها أمر دينها، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن قصر الحاكم فالأمر يعود إلى جماعة المسلمين إذ يتعين عليهم القيام بالتعليم المسجدي وتعليم أبناء الأمة، فإذا قصرت هذه الجماعة لحق الإثم كل فرد من أفراد المسلمين.
ولم يغفل ابن باديس بعد بيان وجوب القيام بالتعليم المسجدي نوع هذا التعليم وكيف ينبغي أن يكون، مما يدل على أنه كان يملك رؤية لتنظيم هذا التعليم حتى يؤدى الواجب، ويحقق هذا التعليم جداوه في حياة الأمة وهذه الفائدة تتمثل في تعلم الدين والعمل به.
فالتعليم المسجدي المرجو هو التعليم الذي يحقق للمسلم سعادة الدنيا والآخرة. وهذا يكون بالاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي كان في مسجده يعلم الناس ما أنزل إليهم من القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي هو كتاب الإنسان من جميع الوجوه، فكل ما كان في خدمة الإنسان من علوم الشريعة أو علوم الطبيعة كان من التعليم المسجدي، لهذا كانت مساجد الإسلام عامرة دائما في عصورها لتقديم هذا النوع من التعليم.
وحتى لا يبقى الأمر على مستوى التذكير وبيان أهمية هذا التعليم، نجد ابن باديس حينما أتيح له تأسيس جمعية العلماء بعد أن التف حوله جمع من المدرسين وعامة الجزائريين راح يطبق ما كان ينادي به، ففي جريدة الصراط السوي العدد 04 أكتوبر1933م دعا أبناء الجزائر للالتحاق بالدروس العلمية التي كان يشرف عليها بمدينة قسنطينة مبينا المواد التي يتلقاها الطالب وهي: التفسير والقراءات، والحديث والفقه والعقائد والأخلاق الإسلامية واللغة والمنطق والحساب. ويشترط أن يكون الطالب حافظا لربع القرآن الكريم على الأقل، وحتى يكون لهذا التعليم إشعاعه وامتداده إلى خارج المساجد كان يحث طلبته على نشر ما تعلموا.
ثبت عنه في إحدى مناسبات اختتام الدروس العلمية بالجامع الأخضر بقسنطينة أنه أوصى طلبته قائلا: “اتقو الله، ارحموا عباد الله، اخدموا العلم بتعليمه ونشره، وتحملوا كل بلاء ومشقة في سبيله، وليهن عليكم كل عزيز، ولتهن عليكم أرواحكم من أجله “(20).
المبحث الثالث: رد فعل السلطة الاستعمارية
اعتناء ابن باديس بالتعليم المسجدي يعود إلى إدراكه للدور الذي يؤديه هذا التعليم في الحفاظ على هوية الأمة ومقوماتها. وقد شهد هذا التعليم قبيل بداية الاهتمام به من طرف ابن باديس ركودا وضعفا إلى أن كاد أثره يزول. ولذلك لم تكترث السلطة الاستعمارية سنة 1913م حينما شرع ابن باديس في العمل على إحياء هذا التعليم وبعثه من جديد ليؤدي الدور المنوط به، وقد وصف ذلك الشيخ محمد خير الدين حينما قال: “كانت الإدارة الجزائرية إلى ما قبل حرب 1914م تتظاهر بشيء من التساهل مع التعليم العربي الحر لأنه كان – إذاك – قاصرا لا يفتح ذهنا ولا يغذي عقلا ولا يربي ملكة لغوية”(21).
إذن فالإدارة الاستعمارية لم تكن متساهلة في حرية التعليم العربي الحر كما أصبح يسمى فيما بعد، وإنما كان لاعتقادها عدم جداوه؛ إذ أنه لا يتوفر على وسائل ولا يقوم عليه معلمون، فقد شرع فيه ابن باديس لوحده في الجامع الأخضر مع عدد قليل من التلاميذ، ولكن الاستمرار في أداء هذا التعليم والقيام به جعله يتطور يوما بعد يوم، خاصة لما أسست جمعية العلماء المسلمين التي صارت تشرف على هذا التعليم وعملت على تطويره إلى أن صار الصنف الموازي والمنافس للتعليم الرسمي الذي تشرف عليه السلطة الاستعمارية.
وهذا المستوى الذي وصل إليه من التنظيم والتطور، والإقبال الذي كان عليه باستمرار أقلق الإدارة الاستعمارية التي لم تعره اهتماما في بادئ الأمر، فقامت بقمعه؛ بأن لجأت في البداية إلى إصدار عدة قرارات إدارية هدفها واحد وهو قتل اللغة العربية بالتضييق على تعليمها، ومطاردة رجالها(22)، ومن هذه القرارات التي مثلت رد فعل السلطة الاستعمارية وموقفها من التعليم المسجدي قرار كاتب عمالة الجزائر القاضي بمنع الشيخ الطيب العقبي من إلقاء دروسه المسجدية العادية في الجزائر العاصمة وضواحيها بحجة حدوث تشويش في تلك المساجد التي تلقى فيها دروس الشيخ العقبي.
وقد ندد ابن باديس بهذا القرار، واعتبره تعد على الحقوق العامة للمسلمين في المساجد وأنكر حدوث ما اعتبر مظاهر شغب وتشويش، وطلب من حاكم عمالة الجزائر أن يكون منصفا في قراراته وأن لا يعتمد فيها على وشاية مجهولين(23).
ومن وجوه المضايقات أيضا التي تعرض لها ابن باديس في سبيل التعليم المسجدي أنه أمر سنة 1933م بوجوب الحصول على رخصة لأن القانون يمنع التعليم دون الحصول على رخصة، وهذا بعدما مرت على مسيرة التعليم المسجدي عشرون سنة، وهذا مما يدل على أن هذا التعليم بدأ يتطور، ويشكل محطة أنظار، لما كان يشهده من إقبال، ومن إحداث تأثير في المجتمع الجزائري.
وقد تحمل ابن باديس مسؤوليته وجابه هذا القرار، فكتب مقالا في جريدة الصراط السوي في عددها رقم 7 الصادر في 30 أكتوبر 1933عنونه بـ: بعد عشرين سنة في التعليم نسأل هل عندنا رخصة؟! أبدى ابن باديس في مقاله هذا تعجبا من هذا القرار القاضي بوجوب الحصول على رخصة لأنه حصل على الإذن في بداية الأمر من كاتب عمالة قسنطينة بالتدريس. وقد كشف ذلك ما كان يعتقده الناس خطأ في عمل ابن باديس المتمثل في التعليم بالجامع الأخضر؛ إذ كانوا يعتقدونه موظفا عينته الحكومة الاستعمارية ويتقاضى راتبا كسائر الموظفين، فبين للناس بأنه لم يكن إلا متطوعا في سبيل خدمة الدين واللسان، وأنه لم يتقاض فلسا واحدا من الحكومة، وبذلك كشف حقيقة كان يجهلها الناس وهي أن الإدارة الاستعمارية لم تعتن أبدا بالتعليم الديني العربي.
ومن أخطر القرارات التي أصدرتها السلطة الاستعمارية التي شكلت موقفها الصريح من التعليم العربي قرار8 مارس 1938م الذي وصفه ابن باديس بالقرار المشؤوم، وهو قرار يقضي بسجن من يعلم اللغة العربية بلا رخصة. وقد انتقد ابن باديس ذلك القرار وطالب بإلغائه، وكتب في ذلك مقالا بعنوان: «يا الله من للإسلام والعربية في الجزائر؟» الذي بين فيه تناقض الإدارة الفرنسية التي حاربت بهذا القرار معلمي القرآن والإسلام، ولغة القرآن والإسلام، وهم الذين إذا طلبوا الرخص للقيام بهذا العمل يكون رد السلطة السكوت والاعتراض أو الرفض دون سبب أو مبرر، فإذا لم تمنح لهم هذه الرخص وأقدموا على العمل بلا رخصة كان جزاؤهم التغريم الثقيل والسجن الطويل حتى يحجموا عن فعل ذلك ليتسنى للسلطة الاستعمارية أن تفعل ما تريد من قضاء على الإسلام وعلى اللغة العربية.
و مسلك الاستعمار هذا مؤسس عن وعيه بتصميم الأمة على تعلم دينها ولغتها، وعزم الكثير من المعلمين المسلمين القيام بهذا الدور رغم التهديد والوعيد. ولأن السلطة تعلم أيضا: “أن لا بقاء للإسلام إلا بتعلم عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه وأن لا تعليم له إلا بتعليم لغته، فناصبوا تعليمها العداء وتعرضوا لمن يتعاطى تعليمها بالمكروه والبلاء”(24).
ورغم هذا الوعيد، وهذه المواقف العدائية لم يستسلم الشيخ ابن باديس لرغبة السلطة الاستعمارية، بل ازداد عزما على المضي في نشر التعليم الإسلامي، واللغة العربية، ومن ردوده على ذلك قوله: “سنمضي بعون الله في تعليم ديننا ولغتنا، رغم كل ما يصيبنا، ولن يصدنا عن ذلك شيء، فنكون قد شاركنا في قتلها بأيدينا، وأننا على يقين من أن العاقبة وإن طال البلاء لنا، وإن النصر سيكون حليفنا، لأننا قد عرفنا إيمانا وشاهدنا عيانا أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما ولو اجتمع الخصوم كلهم على محاربتهما”(25).
كما تحمل ابن باديس مسؤوليته أمام أمته فخرج مبلغا لأبناء شعبه التجاوزات التي يتعرضون لها شارحا لهم محتوى هذا القرار طالبا منهم أن يرفضوه بما أتيح لهم من وسائل الرفض قائلا: “إن الاستعمار قد مس الجزائر في صميمها بقرار 8 مارس المشئوم يمنعها من تعلم لغة دينها وعليه فإن كل جزائري لا يحتج على هذا القرار خائن لدينه ووطنه سواء كان عالما أو متعلما أو مفتيا أو سياسيا أو تاجرا أوعاملا”(26).
وقد كلفت هذه المواقف ابن باديس ومن كان معه في جمعية العلماء الكثير: يقول الشيخ محمد خير الدين: “وقد تعرض رجال الإصلاح في سبيل تحقيق هذه الدعوة للاضطهاد والتعذيب، والسجن والاعتقال والنفي ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون”(27). وفعلا فقد حوصر ابن باديس حصارا كبيرا، ونفى الإبراهيمي، واختطف العربي التبسي سنة 1957م، ولم يعثر له على أثر حتى اليوم، ولكن الله كتب لتلك الجهود أن لا تذهب سدى وأن لا تنقطع بموت ابن باديس أو بنفي الإبراهيمي، بل قيض الله لهذه المهمة الجليلة جيلا من تلاميذه ابن باديس تولى القيام بها والدفاع عنها في فترة الاستعمار، وفي عهد الاستقلال تحول ذلك التعليم الحر إلى تعليم رسمي تشرف عليه وزارة الشؤون الدينية في الجزائر المستقلة.
المبحث الرابع: الأفق الباديسي في مجال التعليم المسجدي
لقد كتب الله لجهود ابن باديس في ميدان التعليم المسجدي أن تثمر؛ لأنه لم يدخر جهدا في خدمته والدفاع عنه، فقد كان منذ السنوات الأولى بالجامع الأخضر يرسم أفقا بعيدا لهذا التعليم الذي تمثل في تفكيره بجعله نواة لكلية إسلامية في الجزائر على شاكلة الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب. يقول ابن باديس: “لا بد للجزائر من كلية دينية يتخرج منها رجال فقهاء بالدين يعلمون الأمة أمر دينها”(28).
ومن الطبيعي أن يكون تأسيس كلية يحتاج إلى مدرسين، وإلى برامج وكتب تكون مقررات للطلبة باستيعابها يمنح الطالب شهادته من تلك الكلية، وكان ابن باديس يأمل فيمن معه من مدرسين بالمساجد لما كانوا يملكون من كفاءة أن يشكلوا مجتمعين معهدا علميا يكون نواة كلية إسلامية في الجزائر، وقد كتب عن هذا الموضوع في جريدة الشهاب في شهر نوفمبر سنة1929م.
وإن لم يكتب لابن باديس تأسيس هذا المعهد أو الكلية التي كان يحلم بها؛ لأن الموت كان أسبق من حلمه هذا؛ إذ توفي في 16 أفريل 1940م؛ إلا أن ملامح تطور التعليم المسجدي وانتشاره بدأت تتجلى وهو على قيد الحياة؛ إذ بدأ يتطور إلى التعليم العربي الحر، وأسست له مدارس احتضنته. من هذه المدارس ما أسس في الثلاثينيات، مثل مدرسة الحديث بتلمسان ومدرسة تهذيب البنين والبنات بمدينة تبسة التي صارت بعد وفاة ابن باديس مركز التعليم المسجدي بعدما كان مركزه قسنطينة.
وبعد وفاة ابن باديس استمر من كان معه من رجال جمعية العلماء وفي مقدمتهم الشيخ البشير الإبراهيمي الذي صار رئيسا للجمعية. استمروا على نهج ابن باديس في الاعتناء بالتعليم المسجدي عاملين على تطويره وعلى الاستمرار في تأسيس المدارس الحرة. يقول الشيخ البشير الإبراهيمي: “أجمعت جمعية العلماء أمرها وصممت على إحياء تلك السنة التي سنها إمام النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله وهي التعليم المسجدي”(29).
وفعلا فقد استمرت جمعية العلماء بعد وفاة ابن باديس في خدمة هذا النوع من التعليم، وكان إقبال الطلبة عليه كبير، ودائما بسبب مضايقات السلطة الاستعمارية لرجال جمعية العلماء ، وبسبب عرقلتها لهذا التعليم الذي صارت مدينة قسنطينة أكبر محاضنه وصار يزاحم التعليم الرسمي الذي تشرف عليه الإدارة الاستعمارية، نتيجة ذلك قررت جمعية العلماء نقل مركز هذا التعليم خارج مدينة قسنطينة حيث نقل فعلا إلى مدينة تبسة وذلك سنة 1943م، وأسند الإشراف عليه إلى الشيخ العربي التبسي وهو ابن مدينة تبسة، وقد ذكر هذا في بيان لجمعية العلماء وقعه الشيخ البشير الإبراهيمي(30).
واستمر رجال جمعية العلماء في تطوير التعليم المسجدي إلى أن وفقوا إلى تحقيق حلم ابن باديس وهو فتح معهد سنة 1947م يحتضن عدد الطلبة المتزايد على التعليم المسجدي، ويتكفل هذا المعهد بإعطائهم شهادة تمكنهم من متابعة دراساتهم في المراحل الأخرى داخل الجزائر أو خارجها، وعرف بمعهد ابن باديس. وقد اقتضى فتح هذا المعهد جهدا إداريا وبيداغوجيا كبيرا، نفس حاجته إلى المال. فمن جهة احتاج إلى بناية تكون له مقرا، ومن جهة أخرى احتاج إلى وضع برنامج دراسي يتوزع على أربع سنوات، وتعيين أساتذة مؤطرين، وأيضا الارتباط بجامع الزيتونة(31).
أما عن المكان فقد تمكنت الجمعية من اقتناء دار جعلت منها مركزا لهذا المعهد، وجعلت بعض حجراتها مساكن للطلبة المعوزين، وأما عن الأساتذة فقد كان في صدارتهم الشيخ العربي التبسي الذي أسندت إليه الدروس العالية بالإضافة إلى تعيينه مديرا لهذا المعهد، كما عين بعض تلاميذة ابن باديس الأوائل الذي تتلمذوا عليه بالجامع الأخضر مدرسين في هذا المعهد أيضا.
من الأمور التي احتيج إليها في فتح هذا المعهد التنسيق مع جامع الزيتونة؛ وهذا حتى يتم توحيد برنامج التكوين من جهة، وحتى يتاح لطلبة معهد ابن باديس الالتحاق بجامع الزيتونة لإكمال دراستهم، وهذا ما ذكره الشيخ الإبراهيمي حينما قال:” ستتصل الجمعية بمشيخة الجامع الأعظم وتعمل معها على التناسق بين التعليمين، وعلى اعتبار الشهادة التي تخول للجزائريين الالتحاق بالتعليم الثانوي بجامع الزيتونة”(32). وقد كان شيخ جامع الزيتونة في ذلك الوقت هو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه.
وأهم جانب تم التنسيق فيه مع جامع الزيتونة هو الامتحانات فقد ارتأت إدارة معهد ابن باديس إشراك هيئة علمية زيتونية تشرف على سير الامتحان النهائي لطلبة معهد ابن باديس، الأمر الذي مكّن الكثير منهم من متابعة دراساتهم في جامع الزيتونة وحصلوا على شهاداتهم منه(33).
تجدر الإشارة إلى أن الطلبة الذين يقبلون في المعهد تشترط فيهم شروط معينة فلا يقبل أيا كان. من هذه الشروط:
أن يكون التلميذ يحسن القراءة والكتابة.
أن يكون حافظا للقرآن الكريم أو لربعه على الأقل.
أن لا يتجاوز سنه عشرين سنة.
بالإضافة إلى شروط أخرى تتعلق بالملف الإداري، ومنها ما يتعلق بالسلامة البدنية من الأمراض وغير ذلك(34).
وقد بقي المعهد يؤدي في دوره التعليمي هذا، فقام بإرسال بعثات علمية إلى الشرق خاصة سوريا، والعراق، والكويت، ومصر، وعادوا وهم يحملون شهادات عليا في اختصاصات مختلفة تبوؤوا بها مناصب في وطنهم واستمر المعهد في أداء هذا الدور إلى أن أغلق من طرف السلطة الاستعمارية سنة 1957م. وبعد الاستقلال أسس ما عرف بالتعليم الأصلي التابع لوزارة الشؤون الدينية وهو في الحقيقة امتداد للتعليم المسجدي الباديسي وإن كان تحت سلطة الدولة. وقد فتح الله على الجزائر بأن نالت استقلالها، وفتح عليها أيضا بأن وفقت إلى تأسيس جامعة للعلوم الإسلامية هي جامعة الأمير عبد القادر، والتي احتضنتها مدينة قسنطينة، مدينة ابن باديس التي كانت بها بداية الدروس المسجدية بالجامع الأخضر، وكان صاحبها يحلم أن تصبح كلية فأصبحت جامعة.
خاتمـة:
مما سبق، نستخلص أن ابن باديس قام بجهد عظيم في خدمة التعليم المسجدي. عمل على إحيائه فصارت معظم المساجد تؤدي هذه الوظيفة الأساسية من وظائفها بعدما أخمدها الاستعمار، كما عمل على تطويره، وذلك بتحسين نوعية الدروس التي تقدمها المساجد، وانتقاء الكتب التي تدرس بها، وكذا المعلمون القائمون على ذلك. وعمل أيضا على أن يصل إلى غايته الكبرى وهي حماية الذات من الذوبان في الآخر، وقد وفق في ذلك إلى حد بعيد.
وعموما من خلال هذا العرض يمكن أن نصل إلى تقرير مجموعة من النتائج منها:
1– إن تجربة ابن باديس في مجال التعليم المسجدي من التجارب الرائدة، وهي جديرة بالعناية والدراسة لتجلية أسسها وأساليبها حتى يمكننا أن نستفيد منها كإحدى التجارب الحديثة التي عمل صاحبها على أن تؤدي المساجد من خلالها وظيفتها الدينية والحضارية.
2- من الأهداف التي كان يسعى ابن باديس الوصول إليها، صناعة التصور الإسلامي الصحيح، وقد ساهمت جهوده في التعليم المسجدي في تأسيس هذا التصور رغم الانطلاقة البسيطة، ورغم العراقيل الاستعمارية.
3- إن جهود ابن باديس في خدمة التعليم المسجدي شكلت مرحلة من مراحل التاريخ العلمي والديني للجزائر، لا يمكن للمؤرخ الذي يكتب عن التاريخ الجزائري الحديث أن يغفلها. كيف ذلك وقد أسفرت تلك الجهود عن كتب مثل: مجالس التذكير وهو تفسير ابن باديس للقرآن الكريم ، كما كونت علماء ومؤرخين كبار من أمثال الفضيل الورتلاني صاحب كتاب “الجزائر الثائرة”، ومثل الشيخ أحمد حماني الذي صار مفتي الجمهورية ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في عهد الاستقلال.
4- أكدت التجربة الباديسية في مجال التعليم المسجدي، قوة المسجد ودوره كمؤسسة إسلامية في المجتمع؛ إذ تمكن ابن باديس من خلال التعليم المسجدي – كوظيفة مسجدية – من منافسة التعليم النظامي الذي كانت تشرف عليه السلطة الاستعمارية مع الفارق الكبير في الوسائل و التأطير والعناية.
5- من عوامل نجاعة التعليم المسجدي في مشروع ابن باديس صحة الفكرة و واقعيتها؛ إذ كان يبين للناس بأن هذا التعليم هو الأداة المثلى للحفاظ على هوية المسلم الجزائري، ولذلك احتضنته الأمة وعملت على نشره، وكذلك صحة المنهج؛ لأنه كان يحث أن يبقى هذا التعليم على صلة بالتعليم النبوي. وهكذا فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
المراجع:
1- المسيرة الرائدة للتعليم العربي الحر بالجزائر، فضلاء محمد الحسن، دار الأمة، الجزائر، ط1، 1999.ج1، ص17-18.
2- جريدة الشهاب، عبد الحميد بن باديس، نقلا عن مقدمة عبد الرحمان شيبان للجزء الرابع من آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، من مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، ط1،1985، ص10.
3- مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ابن باديس عبد الحميد، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، ط1، 1982.ج1/ ص61.
4- آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الإبراهيمي محمد البشير، جمع وتقديم الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997. ج2، ص170.
5- الآثار لابن باديس ، ج4/ ص51.
6- جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر ، زروقة عبد الرشيد ، دار الشهاب، بيروت، لبنان، ط1، 1999. ص167.
7- الآثار لابن باديس، ج4/ ص74.
8- جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر ، ص167.
9- مذكرات الشيخ محمد خير الدين، خير الدين، محمد، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر ، بلا تاريخ.ج1/ ص256.
10- آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ج2، ص171.
11- الآثار لابن باديس، ج4/ ص102.
12- سنن الدارمي، الدارمي، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ .ج1/ ص99-100.
13- الآثار لابن باديس، ج4، ص75.
14- النمل91-92.
15- صحيح مسلم، مسلم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت بلا تاريخ. ج4، ص79.
16- كتاب الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، المحقق: الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 6/142.
17- سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين للإبراهيمي، نقلا عن عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ص168.
18- الآثار لابن باديس ، ج4، ص95.
19- الآثار لابن باديس ، ج4، ص96.
20- نفسه ، ج4/ص99.
21- المذكرات لمحمد خير الدين، ج1/137.
22- نفسه.
23- الآثار لابن باديس ، ج4/ ص62-63.
24- الآثار لابن باديس ، ج4/ص126.
25- المرجع نفسه، ص128.
26- مقدمة الجزء الرابع من آثار ابن باديس، عبد الرحمان شيبان، ص13.
27- المذكرات لمحمد خير الدين، ج1، ص253.
28- الآثار لابن باديس ، ج4، ص97.
29- الآثار للإبراهيمي ، ج2، ص170.
30- المرجع نفسه، ج2، ص131.
31- المرجع نفسه، ص172.
32- المرجع نفسه، ج2/ ص172 .
33- المذكرات لمحمد خير الدين ، ج1/ ص206 .
34- المرجع نفسه، ص207.