في ذكرى الشيخ أحمد حماني: الفقيه المجتهد والعالم الثابت على الحق
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
مرت يوم الأحد 28 جوان 2020 الذكرى الثانية والعشرون لرحيل فقيه الجزائر ورئيس علمائها العلامة المجاهد الشيخ أحمد حماني، إذ التحق الشيخ بجوار ربه في 29 جوان 1998 بعد مرض عضال ألزمه الفراش لعدة شهور، كان العلامة الشيخ أحمد حماني أول من أفتى في العالم الإسلامي في العصر الحديث بجواز نقل الأعضاء البشرية لأغراض طبية. وهي الفتوى التي اعتمدها مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي. وقد مثل الشيخ الجزائر في العديد من المؤتمرات والملتقيات والندوات الدينية والفكرية في العديد من الدول الإسلامية والعواصم العالمية.
عاش الشيخ حماني زاهدا مترفعا عن متاع الدنيا، رغم أنه تقلّد ـ رحمه الله ـ عدة مناصب رفيعة في الدولة ، فبعد استرجاع الاستقلال الوطني شغل في1963منصب مفتش عام للتربية والتعليم في الشرق الجزائري، وكان من أوائل الأساتذة في الجامعة الجزائرية في بداية الستينيات مدرسا لمادة الأدب العربي لمدة عشر سنوات من 1962إلى 1972، وفي سنة 1972 استدعي لرئاسة المجلس الإسلامي الأعلى حتى سنة 1987، وفي سنة 1973 انتخب عضوا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ثم انتخب عضوا مؤسسا للمجلس الأعلى العالمي للمساجد، عاد في الثمانينيات إلى جامعة الجزائر لتدريس مادة الشريعة كما ترأس لجنة تصحيح المصاحف بوزارة الشؤون الدينية، وبعد إعادة بعث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى النشاط في سنة 1991 انتخب من طرف إخوانه العلماء رئيسا لها وتولى إدارة جريدة البصائر لسان حال الجمعية في سلسلتها الثالثة من 1992إلى ماي1993.
ولد الشيخ أحمد حماني في23 شوال 1330 هـ الموافق 6سبتمبر1915بدوار بني عيشة ببلدية العنصر، دائرة الميلية ولاية جيجل، وبمسقط رأسه تعلم القرآن و المبادئ الأولى في الفقه و أصول الدين، ومن أجل تمكينه من إكمال دراسته قبل أن تدركه الخدمة العسكرية، قام والده الشيخ محمد وهو من أعيان منطقة جيجل بتغيير تاريخ ميلاد ابنه أحمد من 1915إلى سنة 1920، وبعد بلوغ الخامسة عشر من عمره سافر إلى قسنطينة في سنة 1930 فأتم حفظ القرآن الكريم بكتاب سيدي أمحمد النجار ثم انخرط في سلك طلبة الإمام عبد الحميد ابن باديس ابتداء من أكتوبر 1931 إلى سبتمبر 1934 ، وأتقن في مدة 3 سنوات مواد الدراسة الابتدائية، كما حضر بهذه السنة لأول مرة اجتماعا عاما لجمعة العلماء و انخرط فيها كعضو عامل .واصل الشيخ حماني تعليمه العالي بجامعة الزيتونة بتونس، حتى حصل على الأهلية في 1936، ثم على شهادة التحصيل في 1940، وعلى شهادة العالمية في سنة 1943. انتخب أمينا عاما لجمعية الطلبة الجزائريين بتونس. سخر العلامة أحمد حماني حياته لخدمة الإسلام والعربية والجزائر، فكان من أنجب تلاميذ الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الجزائرية، وأوفاهم لتعاليمه ومنهج مدرسته الإصلاحية وروحه الوطنية الثائرة، وظل الشيخ حماني وفيا لمبادئ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تعلم في مدارسها وعلم في معاهدها وناضل في صفوفها وكتب في جرائدها «الشهاب» و «البصائر».
لم تنمح من ذاكرة الشيخ أحمد حماني بشاعات جرائم الاحتلال الفرنسي في حق الشعب الجزائري وذلك منذ حملة الجنرال السفاح سانت آرنو على منطقة جيجل في سنة 1851 حيث قامت القوات الفرنسية بحرق أكثر من100 قرية وقتل أكثر من 1500 شخص في الأيام الأولى من الحملة، ولكن سياسة الرعب والترويع التي انتهجها قادة الاحتلال لم تفت في إرادة المقاومة عند أجداد الشيخ حماني الذين تصدوا رغم الفارق المهول في العدد والعتاد مقارنة بقوات الجنرال سانت آرنو وألحقوا بعساكره خسائر كبيرة في معركة «الركابة» الشهيرة بمنطقة بني عيشة ببلدية العنصر، واستطاعوا القضاء على ما يزيد عن 50عسكريا وإصابة 200جريح!
اشتهر الشيخ أحمد حماني -رحمه الله- بشدة بغضه للمحتل الفرنسي إلى درجة أنه حاول في تونس تأسيس شبه جيش من الشباب الجزائري في سنة 1944 والتحالف مع القوات الألمانية لطرد فرنسا من الجزائر. وبعد عام من العمل السري تمكنت قوات الاحتلال الفرنسي من إلقاء القبض على الشيخ أحمد حماني، وقدم إلى المحاكمة التي وقعت في 20 مارس 1945 مع جمع من زملائه الطلبة ،وبعد تدخل جمعية العلماء و أهل قسنطينة و تقديمهم لرشوات ضخمة حكم على المقبوض عليهم بالبراءة أو بأحكام خفيفة، ونجوا من العذاب الشديد الذي كانوا سيتعرضون له لولا تدخل الجمعية وتعيين محتمين بارعين للدفاع عن الشيخ حماني وزملائه.
بعد اندلاع ثورة نوفمبر1954انخرط الشيخ أحمد حماني في ملحمة الجهاد وألقي عليه القبض في 11 أوت 1957 بالعاصمة، ولبث27 يوما في العذاب و بعد محنة التنكيل وصنوف التعذيب على يد قوات المحتل ،و قدم أمام المحكمة العسكرية التي أصدرت ضده عقوبة الأشغال الشاقة، و نقل إلى السجن المركزي بتازولت “لمبيس”، حيث بقي هناك الى يوم 4 أبريل 1962.
سجن تازولت بباتنة أنشأ مع إخوانه المجاهدين حركة المجاهدين حركة تعليم منظم، و كون طلبة أتم بعضهم دراسته، و في عام 1960 تعرض إلى محاولة الاغتيال داخل السجن، و بسببه وقع الإضراب العام من جميع المساجين بسبب خطبة يوم عيد النحر، وتوج هذا الإضراب لحصول المساجين على حقوق المساجين السياسيين، و أصبحوا يتمتعون بحق سماع الإذاعات و قراءة الصحف، و هذا في 1961.و بعد افتكاك الانتصار على المحتل الفرنسي في 1962 عين الشيخ أحمد حماني عضوا في اللجنة المسؤولة عن التعليم في مدينة قسنطينة، و مديرا لمعهد ابن باديس الذي أسسه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
وخلال فتنة ومحنة العشرية السوداء ظل الشيخ أحمد حماني محافظا على موقفه الداعي إلى وأد الفتنة وحقن الدماء ونبذ العنف وتفضيل مسعى الصلح والمصالحة بين الجزائريين، لقد جلب له هذا الموقف الشجاع والمتبصر الكثير من المتاعب والعداوات والانتقادات في أوساط فرقاء الأزمة وأنصار المواجهة وتغليب منطق الصدام.
وحتى قبل هذا التاريخ، أي قبل الدخول في نفق الأزمة الدموية ، كان منتقدو الشيخ حماني يتهمونه بالخضوع لرغبات النظام والإفتاء حسب توجيهات السلطة السياسية وأحسن من رد على كل هذه الافتراءات والأباطيل فضيلة الشيخ الجليل الطاهر آيت علجت بقوله: « إن الشباب الذين ينقمون على الشيخ أحمد حماني ولاءه للسلطة أصبحوا بعد موته يقرؤون كتبه التي يجدون فيها كنوزا عظيمة يجادلون بها ويقدمونها لأنهم أدركوا أنه كان علامة وأنه كان وطنيا وطنية صحيحة.»
وقال الأستاذ محمد الصغير بلعلام الإطار السابق بوزارة الشؤون الدينية: «طلب منا عند تأسيس الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط إصدار فتوى لتشجيع الناس على وضع أموالهم في الصندوق، غير أن حماني رفض ولم يصدرها، وعقدنا اجتماعا درسنا الموضوع وقال بأن وضع الأموال في الصندوق يدخل ضمن الربا، كما رفض إصدار فتوى تبيح إنتاج «بيرا» بدون خمور سنة ,1973 تحت اسم «مالطا» ورغم الضغوط التي خضع لها أصر على تطبيق القاعدة الفقهية القائلة : ما أسكر كثيره فقليله حرام.»
في سنة 2010حدثني شقيقي الأكبر الشيخ محمد الشريف عبدوس ـ حفظه الله ـ، المقيم حاليا بولاية ورقلة والذي كان في سبعينيات القرن الماضي إماما متطوعا بمسجد «السلام» بمناخ فرنسا بأعالي باب الوادي أنه ذهب ذات يوم مع جماعة من أعضاء اللجنة الدينية لمسجد «السلام» إلى الشيخ أحمد سحنون ـ رحمه الله- بمسجد «النصر» بباب الوادي، وسألوه عن رأيه في بعض المشايخ المعروفين من أعضاء جمعية العلماء الذين تولوا مناصب هامة في وزارة الشؤون الدينية، فذكر لهم الشيخ أحمد حماني بكل خير وأثنى على علمه ودينه ، فتعجب أخي ومن معه من كلام الشيخ سحنون الذي كان يعتبر رمزا ومرجعية للأئمة الأحرار الرافضين للوظيفة في المناصب الحكومية، في الشيخ حماني الذي كانوا يعتبرونه آنذاك من موظفي النظام ، واستدرك أخي محمد الشريف قائلا: «لقد تعلمت منذ ذلك اليوم درسا في أخلاق العلماء وفي ضرورة عدم التسرع في الحكم على الرجال عن طريق الأقوال التي تشاع عنهم هنا وهناك»!
ترك الشيخ العلامة الفقيه المجتهد أحمد حماني تراثا غنيا من الفقه والفتاوى والدراسات والمقالات الفكرية والصحفية، كما خلف ذرية صالحة جيدة التعليم حسنة التربية. فرحم الله الشيخ أحمد حماني ورضي عنه.