محمد الأخضر السائحي رائد أدب الطفل في الجزائر

بقلم : إبراهيم مشارة

محمد الأخضر السائحي شاعر جزائري من فحول شعراء الجزائر ومن الذين اصطنعوا الشعر رسالة من أجل التحرر أولا ثم البناء الوطني ثانيا فهو شاعر ملتزم، وللجنوب الجزائري فضل في إنجاب نخبة من الشعراء والكتاب ورجال الدين والعلم الذين جمعوا بين الوطنية الخالصة والأخلاق القويمة والإخلاص في أداء رسالاتهم…

فالسائحي الذي رأى النور في أكتوبر من عام 1918 في نهاية الحرب العظمى في قرية العالية بولاية ورقلة انتسب إلى الكتاب كعادة أولاد البلد فلم يكن غير الكتاب المنفذ الوحيد للتعلم فالسياسة الاستعمارية تجرم التعليم بالعربية والكتابة بها فحفظ القرآن الكريم وسيكون للقرآن دور في صقل مواهبه وتقويم لسانه وفي تعميق القيم الأخلاقية والإنسانية في ذات الشاعر ثم التحق بمعهد القرارة بولاية غرداية فتعلم على يد الشيخ إبراهيم بيوض رجل الدين الشهير في إقليم ميزاب وأخيرا حط الرحال بالزيتونة عام 1935 وقد كانت مقصد الجزائريين وقد كان للزيتونة صدى كبير فهي جامعة دينية وعلمية ولغوية كبيرة تضطلع بمهام التعليم العالي شأنها شأن جامعة القرويين بفاس بالمغرب والأزهر بمصر وتمنح للملتحق بها بعد تكوين لسنوات شهادة العالمية وقد تعرف هناك الشاعر بإخوانه من أبناء الوطن الذين حزبهم أمر الوطن ومطامح التنوير والتحرير وهو ما دفع بهم إلى تأسيس جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين وقد وضع الشاعر لها نشيدا :

سندرأ عنك بالسيف العذاب

ونرفع للـــــــــعلم فيك العلم

فمـــن للجزائر غير الشباب

يجــــــــاهد بالسف أو بالقلم

غدا يتحقق ذلك الأمـــــــــل

لديك وليـــــــــس الغد ببعيد

وبعد إنهاء مسار التعلم عاد إلى الوطن عام 1939 مع اندلاع الحرب العظمى الثانية وسجن لأسابيع من قبل المستعمر وظل متخفيا معلما وناشطا في فوج الكشافة الإسلامية ومنشئا لجمعية الأمل للفن والتمثيل وقد كان الهدف من ذلك بعث الروح الوطنية والدفاع عن مقومات الشخصية الجزائرية من لغة ودين وتراث ثم انضوى في نشاط جمعية العلماء1952 مدرسا وقد اضطلعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمهام تعليم العربية والدين وبث الروح الوطنية والذود عن الشخصية الوطنية المستقلة تماما عن المسخ الذي أرادت فرنسا إيهام الغافلين به على أنه حقيقتهم حتى إذا نال البلد حريته بعد جهاد طويل نرى الشاعر يواصل مساره المهني مدرسا للعربية في المرحلة الثانوية وناشطا في الإذاعة الوطنية حيث ارتقى بالأثير عبر برامجه الجامعة بين التسلية والمتعة والثقافة والتربية وأشهر ما كان يقدم من برامج إذاعية :برنامج « "ألوان" و"نماذج" منقبا في التراث مازجا إياه بروح العصر والتحديث بما يراه يخدم القضية ويربي المرء على الفضيلة والوطنية وظل ذلك دأبه حتى وافاه الأجل في 11 جويلية من عام 2005 تاركا من الدواوين همسات وصرخات1967 وجمر ورماد 1980 أناشيد النصر، ألوان بلا تلوين1983 إسلاميات وقد انتزع في حياته مكانة أدبية مرموقة على الساحة العربية فهو من الأعضاء المؤسسين لاتحاد الكتاب الجزائريين1964 ومن أعضاء اتحاد الكتاب العرب في دمشق منذ 1981وتم تتويجه بالميدالية الذهبية في مهرجان الشعر بتونس عام 1973.وقد مثل بلده أحسن تمثيل في كثير من الملتقيات الأدبية والمهرجانات الشعرية في ربوع الوطن العربي وهذه شهادة على المكانة التي أحرزها وطنيا وعربيا.

شعره يمثل المرحلة الكلاسيكية الرصينة من الشعر الجزائري مع مسحة رومنطيقية أحيانا تحتفي بالتجربة الذاتية وبالرؤية الفردية للعالم وتبتعد عن المباشرة التي تمارسها أحيانا تحت ثقل التبليغ للرسالة الوطنية أو الدينية أو الأخلاقية ولغته جزلة سلسة لا تكلف فيها ولا ابتذال تنساب رقة وعذوبة كهذا المقطع الذي يصور فيه الشاعر وجدان الفنان والشاعر والمفكر:

ذاهـــــــــــــل كالحالم في الأفق البعيد

وادع النظرة كالبسمــــــة كالطفل العنيد

في محياه ســــــــهوم أو ظلال أو رعود

وعلـــــــى عينيه نجوى وابتهال وسجود

سكن الكون وأغفى كل شيء في الوجود

وهــــو سهـــران وحيد يرقب النجم الوحيد

فلا ريب أن هذا المقطع يحتفي بالتجربة الشخصية وبالرؤية الفردية للعالم إنها تجربة الشاعر الباحث عن المعنى وعن ذاته في خضم الكون العجيب بلغة سلسة تتوسل مفردات الطبيعة حتى لا تقع في فخ المباشرة وهي معاني طاف حولها شعراء الرومنطيقية العرب الذين كان السائحي يقرأ لهم فهذا العقاد يتحدث عن الشاعر:

يجني المودة مما لا حياة بــــه

إذا جــــــفاه من الأحيـــاء خوان

ويحسب النجم ألحاظا تسامره

والــــودق يبكيه دمع منه هتان

لولا القريض لكانت وهي فاتنة

خرســـاء ليس لها بالقول تبيان

مــــــادام في الكون ركن يرى

ففي صـــــحائفه للشعر ديوان

وهذا التيجاني بشير يوسف شاعر السودان يرسم بريشته البديعة نفس اللوحة للشاعر الحالم المتامل:

أطــــــــل من جبل الأحقاب محتملا

ســــــفر الحياة على مكدود سيماه

عــــــاري المناكب في أعطافه خلق

مــــــــن العطـــــاف قضى إلا بقاياه

مشى على الجـانب المرهوب جانبه

يكاد يلمـــــس مهوى الأرض مرقـــاه

لم تغب القضية الوطنية عن الشاعر إبان الاحتلال وهو كشأنه من الشعراء الذين جعلوا الشعر رسالة من أجل التحرر وفضح جرائم الاستعمار وعناوين دواوينه لتوحي بذلك حقا: جمر ورماد ،همسات وصرخات، أناشيد النصر وقد كانت القضية الوطنية امتحانا للشعراء الملتزمين الذين جعلوا الشعر في خدمة الحرية:

لمتى أنت هاهنا غمغمتها

في حياء ورددتها في ذعــر

أترك الدار لا تعد غير حـــــر

سوف نحيـــــــــا من جديد

انطلق فالسفوح تزخر بالعز

سنحيــــا فيها بعيش رغيد

فالمرأة كما تمثلها الشعراء الجزائريون صنو الرجل وشريكه في الكفاح بل هي التي تحرض وتؤلب من أجل التضحية والحرية كما تؤمئ به هذه الأبيات.

ولعل الشاعر يفصح في هذا المقطع عن نظرة الشعراء إلى المرأة فالعلاقة قوامها الاحترام والحياء وهي نظرة الشعراء المتأثرين بالثقافة الدينية والتربية المقتبسة من هدي القران والسنة النبوية ومن تقاليد الشعب الجزائري وقد عبر عن ذلك الشاعر ابن رحمون:

أهوى الجمال وتسبيني مناظره

مـــــالم تدنسه كف الآثم الجاني

إني امرؤ صاغني الرحمن منذ صغري

أقدس الحسن في سري وإعلاني

لولا الجمال الذي بالوجد كهربني

مـاكنت أفشي في التغريد ألحاني

لكن لي همة لم ترض لي بهوى

يــحول لي ندما أو وخز وجدان

هـــــــذا هواه ميول الجسم تدفعه

وذا هواه شريف القصد روحاني

ففي هذا المقطع تصريح بالتعلق بالجمال ولعل المرأة مظهره الأول ولكن في إطار من التعفف والحياء لا الابتذال حتى لا يجر ذلك على الشاعر الويلات من ضميره أولا ومن المجتمع ثانيا وهي سيماء كل الشعراء الجزائريين في تلك الفترة باستثناء مبارك جلواح رائد الرومانسية الذي أحب الانطلاق والتحرر وشيئا من عدم المبالاة فجاء شعره كفتك نسيم الصبا وقت السحر يحدث في النفس نشوة وفي الوجدان رعشة وقد جرت عليه تلك الانطلاقة الويلات من أسرته أولا ومن المجتمع ثانيا.

على أنه يفصح عن الكلاسيكية الرصينة حيث التعلق بالتاريخ واستلهام بطولاته وأمجاده والجنوح إلى اللغة الفخمة ذات الألفاظ الممتلئة حماسة واستخدام الأبحر الطويلة الإيقاع التي تصلح لمثل هذه الغاية كما في قصيدته في ملتقى الفكر الإسلامي عام 1982 في تلمسان وقد كان ملتقى فكريا عالميا يعقد كل سنة في مدينة من مدن الجزائر يتسم بالتسامح أولا فيحضره علماء من مختلف الأديان وكل المذاهب والفرق الإسلامية تمزج البحث في الماضي مع حاجات العصر وقد كان يومها صورة مشرفة للجزائر الطامحة لولا أن عصفت به ريح لم تبق ولم تذر :

أرى الشعر ينأى إن دنوت ويهرب

يشـــــــــرق في أغراضه ويغرب

ولا يستبيـــه في تلمسان منظر

وإن كان يستبي الناظرين ويسلب

فمعـــــــذرة ياملتقى الفكر ما أنا

أغني ولــــكن في الحقيقة أندب

عجبت لأرض فوقـــــها قبر خـــالد

وألــــف عظيم تحتها ليس تنجب

مــــــــذاهبهم في الخلاف كثيرة

وليس لهم في وحدة الرأي مذهب

إذا لم نصنع جيلا جديدا على التقى

ونبنيه مــــن أعماقه سوف نخرب

وعـــودوا إلى الماضي البعيد فأنه

إلـــــى أبعد الغايات أدنى وأقرب

على أن الشاعر اهتم بالطفولة كثيرا وعهدنا قبل القرن المنصرم لا نأبه للأطفال ولا نقيم لهم وزنا فالفكر والأدب للأشياء الفخمة والعظيمة فالشعر للإنشاد في حضرة الأمراء والقصائد لا تكون عصماء إلا إذا قلدت أبا تمام أو حبيبا أو ابن هانئ فعالم الأطفال عالم صغير حري بمن يفكر فيه أن يستصغره الكتاب والناس مع أن الطفولة هي البئر الأولى بتعبير الراحل جبرا إبراهيم جبرا وهي مدرسة الرجولة فما الرجل إلا طفل كبير فتنشئته الأولى هي التي تتحكم في شخصيته وفي ميوله وذوقه إيجابا أو سلبا لذا اضطلع الراحل كامل كيلاني بالكتابة للأطفال وبالتحريض على الإبداع فيه لنسد نقصا كبيرا في مكتبتنا العربية وفي أمم الغرب الناهضة يحتل أدب الطفولة حيزا كبيرا من اهتمامهم وفي الجزائر كان السائحي رائد هذا الأدب في جانب الشعر بما ألف من مقطوعات شعرية وأناشيد وطنية ودينية وقصص للأطفال بلغة مستقيمة طيعة سلسة ضمنها القيم الوطنية والخلقية المقتبسة عن الدين الإسلامي والهوية الوطنية والغرض من ذلك سد النقص في هذا الجانب حتى تحتفي المطبوعات المدرسية بإنتاج وطني يجد فيه المربون غايتهم ولن تفتح كتابا مدرسيا في جميع المراحل التعليمية ولا تجد مقطوعة شعرية أو أنشودة دينية أو وطنية لهذا الشاعر الكبير الملتزم فله من الأفضال الكثير وقد أصدر ديوان وأغاني للأطفال 55 نصا شعريا وأناشيد عام 1983

كهذا المقطع الذي يحتفي به بالنظافة مازحا بين تعاليم الدين (الوضوء) والنظافة التي يربى الأطفال على التقيد بها:

نــــــــــظافة الأبدان

فرض على الإنسان

لأنــــــــــــــــها تقيه

مــــــن كل ما يؤذيه

فــــــــالوجه واليدان

والـــرأس والرجلان

تــــــــغسل كل يوم

قبـــــــل وبعد النوم

والــــــــولد اللطيف

عـــلى المدى نظيف

وهذا النص الواضح لغة وهو موجه للأطفال يحتفي فيه بالأنوثة وبالاجتهاد المدرسي من أجل التفوق الدراسي:

يــحبني معلمي

يــــحبني لأنني

تلـــــميذة نجيبة

وطــــفلة مهذبة

فهـــذه كراستي

نــــظيفة مرتبة

حروفها مقروءة

رسومها محببة

وواجباتي دائما

في وقتها تهمني

وله نص جزل اللغة يحتفي فيه بعاطفة الأبوة ملتمسا قيم الدين والعاطفة الإنسانية ومكارم الأخلاق وهو نص( أبي) من الديوان المشار إليه آنفا:

أبي يـــــــــــا وقاك الله شر النوائب

لأننــــــي أحق الناس بالمدح يا أبي

تعهـــــــــــدتني طفلا ولازلت عاكفا

على العطف ترعني وترعى مطالبي

تعــــــــــاني هموما قاتلات ويبتني

خيــــــــــــــالك مجدا رفيع المرتاب

إذا مــــــا نابني حزن حزنت لأجله

وقارعت حتى ينجلي عن مصائبي

والمحصلة أن السائحي كان شاعرا كبيرا من رواد شعر المدرسة الكلاسيكية التي ضمت فحولا من شعراء الجزائر كمحمد العيد وأحمد سحنون ومبارك جلواح وقد كان شاعرا ملتزما بأتم معنى الكلمة جند شعره للدفاع عن الحرية ثم ساهم في البناء الوطني بعد الاستقلال مصداقا لقول الشاعر القديم:

فلولا خلال سنها الشعر ما درى

بناة المعالي كيف تبنى المــكارم

وارتقى بالأثير بما كان يقدمه من برامج أدبية في بلد حاول المستعمر تدمير هويته ومسخ شخصيته وقد ترك لفيفا من أذنابه عاثوا فيه فسادا، غير أن توجهه للكتابة للأطفال أهم ما يميزه ففي المكتبة الوطنية نقص كبير في أدب الأطفال ولعل هذه سيماء العالم العربي برمته لولا أن رأينا انتعاشا في الراهن بتكريس جملة من الجوائز للكتابة القصصية والشعرية للأطفال وهذه لفتة تنم عن انتباه إلى خطر الطفولة في المستقبل فإهمالها يعني إهمال مستقبل علميا وخلقيا وحضاريا وهذا ليس شأن من يرد مستقبلا عماده العلم والخلق والمدنية.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.