يا نشء أنت رجاءنـا…
بقلم: أمال السائحي-
التربية اصطلاحاً: يختلف تعريف التربية اصطلاحاً باختلاف المنطلقات الفلسفية، التي تسلكها الجماعات الإنسانية في تدريب أجيالها، وإرساء قِيمِها ومعتقداتها، وباختلاف الآراء حول مفهوم العملية التربوية وطرقها ووسائلها» (الزهوري، بهاء الدين، المنهج التربوي الإسلامي للطفل، حمص، مطبعة اليمامة، 1423هـ/ 2002م).
ومن معاني التربية: الإصلاح والتهذيب، حيث تُبذل جهودٌ كبيرة ومستمرة لرعاية الطفل، وإصلاح أحواله، وعدم إهماله، بدءاً من الأسرة، مروراً بالمدرسة، ودور العلم، ووعظ العلماء، وقراءة الكتب، وسماع البرامج الهادفة… وهذا وغيره يساعد في إصلاح الطفل، وإثراء نفسه بالعلم المفيد، والنهج السديد، إذ يرتبط طلب العلم بمناهج التربية، مما يعطي الأطفال مع مرور الوقت خبرات ومهارات وتوجيهات، تساعدهم على تحقيق أهدافهم في الحياة، فللتربية دورها الرائد، وأثرها العميق في توجيه ميول الطفل، وربطه بالأخلاق الحميدة، والعلاقات الإنسانية الراقية، وكبح جماح الشهوات، ورفع القوى نحو الخير والصواب». (بديوي يوسف وقاروط، محمد محمد، تربية الأطفال في ضوء القرآن والسنة، دمشق، دار المكتبي، [ 1-2 ]، ط2، 1423هـ/ 2003م، 1، 14).
أما مفهوم المنهج؛ فالمنهج لغة (بفتح الميم): هو الطريق الواضح المستقيم. ويقال: انتهج الطريق: أي استبانه وسلكه. وقيل هو الخطة المرسومة. (الوجيز ص 636 ).
أما اصطلاحًا فالمنهج: هو مجموعة المعلومات والحقائق والمفاهيم والأفكار التي يعلمها المربي لتلاميذه، وقيل: هي كلمة إغريقية الأصل تعني الطريقة التي ينتهجها الفرد حتى يصل لهدف معين. ( علم المناهج ص17).
إن التربية والتعليم هي العمود الفقري لكل وطن، لأنها في جوهرها وحقيقتها هي: الأداة التي يعتمد عليها الوطن في إنجاز ما يتوخاه من أهداف وغايات، إذ عليها المعول في تكوين الرجال الذين يتولون بجهودهم الفكرية والبدنية تحقيق كل المشاريع التي ترمي إلى بلوغ تلك الأهداف والغايات، وهي التي تشحذ الهمم وتفجر العزائم التي تدفع الناس إلى طلب المعالي والتشوف إلى أوج الكمال، فكل تغيير وكل رقي وتطوير يحتاج منا بالضرورة إلى الاعتماد على النشء أو الجيل الجديد الذي يتم شحنه بالقيم والمعارف والدوافع التي تساعده على إنجاز ما يتشوف إليه المجتمع من أهداف مثلى وغايات كبرى في هذه الحياة.
فالتربية إذن هي بالمختصر المفيد عبارة عن: «خارطة الطريق» التي يضعها المجتمع ليستعين بها في شق طريقه إلى أهدافه وغاياته حتى لا يزيغ أو يضل.
وما جاء في هذه القصة الحية التي رواها لنا أحد تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس ما يوضح ذلك ويشهد له، يقول الشيخ محمد بن حسين الحداد الجزائري: ما خَرجَت على لسانِ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، إلاّ بعدما اقْتاتَتْ مِن قَلبِه اقْتِياتًا يَكشِفُ سِرَّ خُلودِ الرّجلِ وكلماتِه، حيث قال: «فضيلةُ الشّيخ لخْضْر جْبْروني -رحمه الله-، كان رجلاً مِن روّادِ مسجدِ حيّي بوسط عاصمة الجزائر، وهو أحد تلامذَةِ ابن باديس الّذين عاصرتُهم واكْتَحَلتْ عَيْني برؤيتِهم، سُئل يومًا مِن بعضِ إخواني طلبةِ العِلم، عنْ بعضِ ما شهِدَه مِنْ مواقفِ الإمام وبقيَ راسخا في ذاكرته؛ فأجابه بالحديثِ عمّا رآه بعينِه وسَمِعَه بأذُنِه قائلاً: جاءَ الإمامُ ابن باديس -رحمه الله – يومًا إلى الجامعِ الأَخضَرِ بقَسَنْطِينَة لإِلقاءِ درسِه المُعتاد في تفسيرِ القُرآنِ الكريم، حتّى إذا وصلَ عِند عَتَبَة بابِ الجامع؛ وقفَ هُنَيَّةً يَنظر إلى داخِلِه وقد غَصَّت مِساحِتُه بالطُلاّبِ والمتعلّمين يَنتظِرونَ الدَّرس، مُتزاحِمَةً رُكَبُهم، مُشرئِبَّةً أعْناقُهُم؛ ثمّ يُجاوِز الإمامُ العَتَبةَ قاصدًا كرسيَّ درسِه، فإذا به وهو يَمُرُّ إلى مَجْلِسِهِ وَسَطَ الجُموعِ المُتشوِّقَةِ إلى العِلم، يُرَدِّدُ بِصوتٍ مسْموع، مُتهلِّلَ الوَجهِ، مُغْرَوْرقَ العَيْن، قائلاً:
يَا نَشْءُ أنتَ رَجاؤُنا***وبك الصّباح قد اقترب..
وقد أصاب الشيخ والله وما أخطأ
فإن هذا الرجاء معقود حقا على التربية التي نكفلها للناشئة والمنهجية الصائبة التي نستعين بها في ترويض أجسامهم، وبناء عقولهم، وتقويم سلوكهم، بما يجعل الطفل يكتسب الإدراك السليم، والحافز الإيجابي، ويتطلع لما هو أسمى، ويسعى إلى بناء نفسه ووطنه على العدل والصدق، وتلك تربية لعمري لا يكفلها إلا منهاج واضح سليم، ومعلم تزكيه أفعاله لا أقواله، وهو يعلم أنه قدوة لتلميذه فالحسن عنده ما أتاه، والقبيح ما تحاشاه، فيحرص على التمسك بالفضائل، واجتناب القبائح والرذائل، هذا ما نتمناه لمنظومتنا التربوية حتى تنتج لنا نشأ لا يهاب الكفاح، ويصر على النجاح.