الباديسيّة الجديدة.. كيف نفهمها؟
بقلم: عبد الحميد عثماني-
يظل الإمام عبد الحميد ابن باديس، المصلح والمشروع والإرث الفكري والمنهجي والحضاري، هو رائد النهضة الحديثة في الجزائر بلا منازع، وتبقى جمعية العلماء المسلمين بدورها التاريخي الفاصل في معركة الوجود الوطني، إحدى الركائز الصلبة، بل والأساسيّة في مسار التحرر الشامل من ربقة الاحتلال الفرنسي الغاشم.
لقد أدرك الإمام ابن باديس في ثلاثينيات القرن العشرين، طلائع الحركة الوطنية الجزائرية المنشغلة بتنظيم النضال السياسي والنقابي، لتعبئة الجزائريين ضد الاستعمار، تمهيدا لثورة شعبية تعيد للوطن سيادته، غير أنّ الرجل كان بعيد النظر، ومستشرفًا للمستقبل من مواقع أعلى، فأختار أن يشقّ طريقا مختلفا عن الساسة، لإيمانه الراسخ أنّ تطهير القلب من كل أدران العبودية لغير الله، وتخليص العقل من القابلية للاستعمار، وتحرير الوعي من الجهالات المركّبة، وتعليم المرأة الموؤودة اجتماعيّا، هو الضمانة الوحيدة لإنْتاش بذْر صالح، وإنتاج غرس مُثمر، في أرض قاحلة، بفعل المخططات الاستيطانية المدمرة، ولكنه سيؤتي أُكُله ولو بعد حينٍ.
لذلك جعل الإمام ابن باديس من تثبيت الهوية الوطنية في مقوماتها الرئيسة ميدانَ المعركة الضارية مع السلطة الاستعمارية، والتي عملت ما في وُسعها، من أول عهدها بهذه الأرض الطاهرة، لسلخ الشعب الجزائري من روح الانتماء الأصيل، وقطع جذوره الضاربة في أعماق التاريخ.
راح الإمام ابن باديس يتحسّس آثار الأمة الجزائرية، ويتلمّس عظامها وركامها، وسط قبور تاه بينها فرحات عباس، من دون أن يعثر على شيء من بقاياها، فكانت كلمة “اقرأ” هي مفتاح السرّ، بعدما آثر بهندسة إصلاحية عبقرية تفادي المواجهة المباشرة مع سلطة باطشة، متوجهًا إلى ميدان شاغر، يعمُره بالعلم والإيمان، لصناعة جيل جديد يحمل على عاتقه تحرير الوطن وتعميره، إذ نفخ الروح في أوصال الأمة الميّتة بعد قرنٍ من الاستيطان الفرنسي، تاركا لأبنائها مسؤولية استكمال المشوار الطويل.
ذلك هو الإمام ابن باديس، رحمه الله، الذي يبخسُه حقَّه الثوري الجاهلون بالتاريخ، والمستلبون ثقافيا، والحاقدون على الإسلام، والملحدون بالعقيدة، مع أنهم يزعمون أن المرحلة التأسيسية للحضارة الغربية المعاصرة بدأت بعصر النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولكنهم يكابرون في الاعتراف بفضل ابن باديس في صياغة الإنسان الجزائري.
إنّ الجزائر اليوم أحوجُ ما تكون إلى استلهام مشروع ابن باديس الأصيل، وقد أحسن أبناؤها صُنعا، وأبانوا عن وعي حضاري، حين رفعوا عاليا صوره وشعاراته خلال مظاهرات حراك 22 فبراير المبارك، إدراكًا منهم أنّ الصراع لا يزال مفتوحا مع أذناب فرنسا، وحُلمها “الكولونيالي” القديم، وأنّ التقدُّم بين الأمم لن يكون سوى من خلال العبور على جسر “الذات الحضاريّة”، بعيدا عن المسالك غير الآمنة للإيديولوجيات الشرقية والغربية الزائلة، ولن يكون عن طريق “حداثة” مادية استهلاكية، تنزع عن الإنسان والعالم كل قيمة وقدُسيّة، ولكنها تُسوَّق في ظل العولمة الظالمة باسم “الحتمية التاريخيّة”.
على الجزائر أن تعضّ بالنواجذ على نهج الشيخ ابن باديس في توطين الهويّة التي تتقاذفها اليوم أمواجُ العلمانية الشاملة، لأنّ السقوط في براثنها العفنة يعني تلاشي الأمّة التي دفعت الأجيالُ ثمنا باهظا لإحيائها، وأن تجعل من الاهتمام بالتعليم الأولوية القصوى في بنائها الجديد، لصيانة المدرسة الجزائرية من مناورات التغريب والانسلاخ والفرْنسة، تحت شعارات برّاقة كاذبة مثل السراب.
لا يكفي أن نذود عن حياض المدرسة من هجمات الاختراق التغريبي، دون ترقية التعليم العام، لأنّ مقاربة الدمقرطة والمجانية قد تكون على حساب نوعية مخرجات التكوين، في غياب سياسة وطنية واعية برهانات المعرفة، إذ لا نريدها أن تكون مفهومًا أقرب عمليّا إلى التكفُّل بمحو الأمية لأفراد المجتمع، بل يُفترض أن تكون ضمانة دستورية لحقِّ المواطن الجزائري في التعلمّ، من دون الإخلال بحقوق الموهوبين والنوابغ في رعاية الدولة، وفق مناهج وإمكانات خاصّة تؤهلهم لها قدراتُهم المتميزة.
ومن تركيز الإمام ابن باديس على تعليم المرأة، لمكانتها المحورية في بناء المجتمع وفق حاجيات عصره، نستخلص اليوم ضرورة وضع آليات لمرافقة تلاميذنا الموهوبين خارج منظومة التعليم العام، خاصة في ظل التدهور المادي الكبير لوضعية القطاع، حتى لا تضيع تلك الكفاءات وسط الزحام التعليمي، لأنّ المعرفة لا تنتجها الإحصاءات الرقمية للمتمدرسين، بل مستوى تحصيلهم البيداغوجي الفعلي، ومدى أهليتهم لاقتحام عالم البحث العلمي في المستقبل.