الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
بقلم: بسام العسلي-
لم يكن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مجهولا يوم بدأ حياة الجهاد فوق أرض الجزائر، لقد كان ماضيه الحافل بجلائل الأعمال يتقدم عليه ويسبقه، لقد عرفته عواصم العالم العربي - الإسلامي من قبل، في تونس ومصر وبلاد الشام، مجاهدا بالكلمة الصادقة والعلم الصحيح والإيمان العميق قبل كل شيء.
ففي سنة 1908، كان طلاب العلم في دمشق، ينهلون من علمه الغزير في (مكتب عنبر) و (المدرسة السلطانية).وكان (متكب عنبر) في تلك الفترة، موئل العلم ومنهل المعرفة ومنارة الهدى لكل الشباب الذين ينتظرهم مستقبل البلاد. وكان أساتذة هذا المعهد خيار من عرفهم العالم العربي الإسلامي، منهم الشيخ عبد القادر المبارك، ومنهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي قال عنه أحد تلاميذه: (أعجبنا في الشيخ سعة علمه، وقوة ذاكرته، واستقامة منهجه، حتى ولد في نفوسنا حب اللغة العربية وآدابها).
ومن دمشق، ينتقل الشيخ الإبراهيمي إلى الحجاز، حتى إذا ما انتهت الحرب العالمية الأولى، عاد إلى موطنه الأصلي - الجزائر - ليتابع فيها جهده المخلص، وجهاده الصادق، مواكبا في مسيرته وعلى خط مواز جهد - ابن باديس - وجهاده. حتى إذا ما أقبلت سنة 1931، كان لقاء الخطوط المتوازية في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). وكان الشيخ الإبراهيمي باستمرار الصخرة الصلدة في مجابهة المخططات الاستعمارية الإفرنسية الرامية (لتدمير إسلام الجزائر وعروبتها) وحرمانها من أصالتها الذاتية. وعرضه هذا الأمر لإزعاجات السلطات الإفرنسية واضطهادها له، والتي لم يكن أقلها الاعتقال والسجن.
توفي ابن باديس. وكانت جمعية العلماء قد أصبحت تحت أحكام الحرب القاسية هامدة. وقد قررت التزام الصمت التام تجاه أحداث هذه الحرب، واستمر رجالها في ممارسة واجباتهم والاضطلاع بمسؤولياتهم في المدارس والمساجد.
وكان (الإبراهيمي العظيم) قد أخذته السلطة الإفرنسية عند بداية الحرب من تلمسان، وألقت به منفيا طريدا في (أفلو) الصحراوية النائية، ليذوق فيها العذاب الأليم. واجتمع العلماء بقسنطينة بعد أن غاب عنهم رائدهم ابن باديس واتفق الجميع على أن يكون نائب الرئيس البشير الإبراهيمي - رئيسا للجمعية. وأن يباشر عمله بمجرد إطلاق سراحه، ويكون له مركز الرئاسة على الفور. ولم تمض فترة طويلة حتى تم الإفراج عن الشيخ الإبراهيمي، فباشر عمله في رئاسة العلماء: فكان الرئيس، وكان المعلم، وكان الصحفي، وكان الكاتب، وكان الخطيب، وكان بإيجاز العقل المدبر والذراع المنفذ حتى قال عنه أحد علماء الجمعية (ما رأت جمعية من الجمعيات رئيسا كالبشير الإبراهيمي).
عندما تولى (الشيخ الإبراهيمي) رئاسة الجمعية، كانت الأسس قد ترسخت، والمبادىء قد ثبتت، فوجه الشيخ الإبراهيمي جهد الجمعية نحو التعليم العربي الحر، واندفع بجرأة غريبة وسط حماسة شعبية رائعة لتأسيس مدارس البنين والبنات، والحكومة مشدوهة لا تدري ماذا تفعل: أتقاوم المدارس مقاومة عامة وتوصد أبوابها، وعندئذ تجد نفسها لا محالة أمام ثورة عامة في ظروف غير مناسبة لها نتيجة ظروف الحرب ذاتها؟ أم تتساهل في أمر هذه المدارس مع إدراكها لخطورة هذا العمل وتأثيره العميق على مخططاتها الاستعمارية؟ وكان أن اتبعت سياسة مزيجة بين اللين والشدة، فكانت تتساهل في بعض الجهات، لتضطهد المدرسين ورجال التعليم في جهات أخرى. كل ذلك، ومركب التعليم يمضي قدما تدفعه ريح شعبية قوية. واستطاعت الجمعية بفضل دعم المسلمين الجزائريين لها من تأسيس (170) مدرسة عربية حرة تعلم الدين الصحيح والتاريخ الإسلامي والعلوم العصرية. وبلغ عدد تلاميذها كل سنة، ما يزيد على الخمسين ألفا بين ذكور وإناث، وكونت الجمعية لهم طبقة صالحة من المدرسين، أغلبهم من خريجي (جامعة الزيتونة) بتونس، وجاوز عددهم في مرحلة ما قبل الثورة (900) معلم. ويتقاضون جميعا، نفس المرتبات من الهيئات المحلية للمدارس.
وأنشأت (جمعية العلماء) لجنة للتعليم، تحت إدارة نخبة من أفضل العلماء، أمثال المرحوم الحفناوي هالي ومحمد الصالح رمضان (واضع قصائد الشباب الهادفة والتي أصبحت فيما بعد أناشيد الثورة الجزائرية). فأوجدت هذه اللجنة البرامج التعليمية، ووضعت البرامج التربوية، وأخضعت كل مدارسها لمنهاج واحد.
وفي العام 1947، دشنت جمعية العلماء أول معهد للتعليم الثانوي في مدينة (قسنطينة)،أطلقت عليه اسم فقيد الجزائر (الشيخ عبد الحميد بن باديس). وشرع هذا المعهد، بفضل دعم الشعب له، بتطوير عمله حتى بلغ عدد طلابه سنة 1903 ألفا وخمسمائة طالب من جميع أنحاء الجزائر.
وأخذت جمعية العلماء في هذه السنة بإيقاد البعثات من خريجي المعهد إلى المشرق العربي - الإسلامي لإتمام الدراسة في المعاهد العليا. وخاصة في جامعة الزيتونة بتونس. كما ارتفع أثناء ذلك عدد المدارس الابتدائية حتى وصل إلى أكثر من (300) مدرسة في سنة 1953، وارتفع بذلك عدد الطلاب السنوي إلى أكثر من (70) ألف تلميذ. وكانت الجمعية قد أجرت في أواخر السنة الدراسية لسنة 1952 أول امتحان لنيل الشهادة الابتدائية العربية (باسم الشعب الجزائري) وبدون موافقة الإدارة الإفرنسية الاستعمارية.
وإلى جانب ذلك كله، كانت الجمعية تنشر كل أسبوع مجلتها الكبرى (البصائر) التي كانت منبرا رفيعا للفكر الإسلامي. ومنهلا للعلم الغزير والأدب الهادف. وكانت تعمل أيضا على إماطة اللثام عن تحولات السياسة الدولية، فتسهم في نشر الوعي السياسي، وبلغ عدد ما يطبع منها أسبوعيا (30) ألف مجلة، وقد استمرت في الصدور حتى أغلقتها الإدارة الاستعمارية الإفرنسية سنة 1956.
كانت مجلة (عيون البصائر) هي مرآة الجزائر المجاهدة طوال الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية، وانفجار ثورة التحرير (1954). وكانت (عيون البصائر) أيضا منبر رئيس جمعية العلماء (الشيخ الإبراهيمي) الذي أضاف إلى أعبائه في سنة 1948، أعباء جديدة هي رئاسته (للجنة إعانة فلسطين). ففي هذه السنة أقيم الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين العربية - الإسلامية. واهتز العالم العربي - الإسلامي لهذا الحدث الأليم. وكان تجاوب الجزائر أكبر من الكلمات، وأعظم من كل وصف. وقد يكون من المناسب استقراء بعض نشاطات (لجنة إعانة فلسطين) من خلال بعض برقياتها.
أرسلت (اللجنة) برقية إلى الأمين العام للجامعة العربية (عزام باشا) جاء فيها:
(يسعدنا إعلامكم أنه قد تألفت بالجزائر لجنة لإعانة فلسطين، مؤلفة من كل الهيئات والشخصيات التي تمثل الاتجاه الإسلامي الجزائري. إننا بلسان هذه اللجنة نؤكد لسعادتكم تضامن الشعب المسلم الجزائري مع كل الدول العربية المكافحة ضد الإمبريالية الصهيونية، ونأمل انتصار القضية العربية العادلة).
الشيخ البشير الإبراهيمي، فرحات عباس الشيخ بيوض، الشيخ العقبي.
ووجهت (اللجنة) برقية إلى الحكومة الإفرنسية جاء فيها:
(إن لجنة إعانة فلسطين، التي تمثل كل التشكيلات الدينية والسياسية بالجزائر، وتشمل الشخصيات الممثلة للاتجاهات الجزائرية، قد تأثرت بصفة مؤلمة من القرار الذي اتخذه المجلس الوطني الإفرنسي في إرسال التحية المخلصة لدولة إسرائيل المزعومة. إن هذا القرار يعتبر عملا عدائيا ضد العالم الإسلامي. واللجنة تحتج بشدة على هذه الحرية التي تتمنع بها وسائل الدعاية الصهيونية ومنظماتها. وجميعها يعمل لفائدة الإمبريالية وضد الديموقراطية. واللجنة تلفت نظر حكومتكم لما في اعترافها بدولة إسرائيل المزعومة من جرح لعواطف خمسة وعشرين مليونا من المسلمين، سكان المغرب العربي المتضامنين تضامنا فعالا مع إخوانهم أهل فلسطين، ومن إساءة عميقة للعلاقات بين فرنسا والإسلام).
عباس فرحات، الشيخ بشير الإبراهيمي، الشيخ الطيب العقبي، الشيخ إبراهيم بيوض.
ووجهت اللجنة برقية إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة (تريفف لي) جاء فيها:
ا (إن لجنة إعانة فلسطين التي تشمل كل المنظمات والشخصيات الممثلة للشعب المسلم الجزائري تحتج على ما مس العالم الإسلامي من عدوان صريح قامت به الصهيونية، وهي تحاول إقامة دولة يهودية فوق أرض فلسطين. وتعتقد اللجنة أن هذه المحاولة تناقض ميثاق هيئة الأمم المتحدة. وتمثل تهديدا صريحا للسلام العالمي. وتؤكد اللجنة تضامن المسلمين الجزائريين مع الشعب الفلسطيني في حربه مع الصهيونية الإمبرالية الاستعمارية - احتراماتنا).
فرحات عباس، الشيخ الإبراهيمي، الطيب العقبي، الشيخ إبراهيم بيوض.
ولم تكتف اللجة بهذه التظاهرة الإعلامية، التي أكدت بروز الشخصية الجزائرية الإسلامية. فعملت على إرسال مجموعة من المجاهدين إلى فلسطين، كما جمعت أموالا طائلة بالنسبة لما كانت عليه حال الجزائريين المسلمين في تلك الفترة. فقد أرسلت مبلغ أربعة ملايين فرنك في البداية (للجهاد الفلسطيني). ثم أرسلت مبلغ ثلاثة ملايين فرنك، قام الشيخ أحمد توفيق المدني بتسليمها للسيد أحمد ثروت سفير مصر بباريس، وتم ذلك بحضور إسماعيل صبري باشا، خال الملك فاروق (1).
غير أن (الشيخ البشير الإبراهيمي) يتجاوز في نشاطاته دوره الرسمي، فينطلق من خلال (عيون البصائر) مستنفرا الهمم، محذرا من الخطر، ملهبا للحماسة، فيكتب في ذروة المأساة - سنة 1948 - ما يلي:
(يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم. إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وقد لدغتم من الجحر الإنكليزي مرات، فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خدع خلفكم، كما خدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم ودعاكم إلى موائده فلبيتم، وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما آنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلق بأسبابه. فيا ويحكم! أكل ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء، أو لأنهم أقواء وأنتم ضعفاء؟ كلا. إنهم أغنياء بكم، وبأمثالكم من الأمم المستخذية، وليسوا أغنياء عنكم. وأنتم الأقوياء بما يستمدونه من أرضكم وجيوبكم. فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم. إن لبدة الأسد هي بعض أسبابه إلى زرع الهيبة في القلوب. ولكن لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة. فلو أن أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمن وراءها الرهبة، لأمسى الأسد هرا، مجرود العنق، معروق الصدر، بادي الهزال والسلال.
إن الغنى عمل وتدبير، فلو عملتم لكنتم أغنياء. وإن بدء الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات، وإن القوة مشيئة لا جبر فيها. فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم.
وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد ...
ان العروبة لفي حاجة إلى ذلك الطراز العالي من بطولة العرب.
وإن الإسلام لفي حاجة إلى ذلك النوع السامي من الموت في سبيل الحق ليحيا الحق ..
أيها العرب ... أيها المسلمون ...
إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا - ونحن عصبة - إنا إذا لخاسرون) (2).
ويعود الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، لمعالجة القضية الفلسطينية في أزمتها - سنة 1948 أيضا، فيقول: (أيظن الظانون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة، تنسى فلسطين أو تضعها في غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها؟ لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى).
(ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبى حلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته هو الذي يباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم. وهيهات لما يروم).
ويعود ليخاطب العرب فيقول:
المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء.
(أيها العرب! قسمت فلسطين، فقامت قيامتكم، هدرت شقاشق الخطباء. وسالت أقلام الكتاب، وأرسلها الشعراء صيحات مثيرة، تحرك رواكد النفوس. وانعقدت المؤتمرات. وأقيمت المظاهرات. علم الصهيونيون أن الوعد لا يعدو كونه وعدا. وأن نصه الطري اللين ... أن انجلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين، فأعدوا لتحقيقه المال، وأعدوا الرجال، واتخذوا من الوقت سلاحا، فلم يضيعوا منه دقيقة، واستعانوا بنا علينا، فاكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوات كلها ظهيرا لهم علينا).
ويقبل عيد الأضحى، أول عيد بعد إقامة الكيان الصهيوني، فينفث الشيخ الإبراهيمي زفرة لاهبة، فيقول: (النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة، فماذا نصنع؟ إخواننا مشردون، فهل نحن من العطف والرحمة مجردون؟ تتقاصانا العادة أن نفرح في العيد وأن نبتهح، وأن نتبادل التهاني، وأن نطرح الهموم، وأن نتهادى البشائر. وتتقاضانا فلسطين أن نحزن لمحنتها، ونغتم، ونعنى بقضيتها ونهتم، ويتقاضانا إخواننا المشردون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، وأشلاؤهم للعوافي، أن لا ننعم حتى ينعموا، ولا نطعم حتى يطعموا ... ليت شعري، هل أتى عباد الفلس والطين، ما حل ببني أبيهم في فلسطين).
(أيها العرب! لا عيد حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتنجزوا لفلسطين المواعيد. ولا نحر حتى تقذفوا بصهيون في البحر. ولا أضحى حتى يظمأ صهيون في أرض فلسطين ويضحى).
(أيها العرب! حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء. وحرام أن تطعموا وإخوانكم جياع. وحرام أن تطمئن بكم المضاجع وإخوانكم يفترشون الغبراء).
...
تلك نمانج من مقولات كثيرة تخاطب العقل قدر استثارتها للعاطفة. ولعل أبرز ما يميز مواقف الشيخ الإبراهيمي في هذا المضمار:
1 - تحليله العميق للموقف الاستعماري، وهو قد سبق (ماوتسي تونغ) في تحليل ضعف الهيكل الاستعماري بأكثر من ربع قرن. وبينما يشبه (ماو) الاستعمار (بعملاق له قدمان من صلصال)؛ يعود الشيخ الإبراهيمي ليشبه (أسد الاستعمار البريطاني بهر، لم يكسب فروته المرعبة إلا من النهب الاستعماري).
2 - وفي مقولة (الشيخ الإبراهيمي) تركيز مستمر على الأصالة الذاتية (القوة في نفوسنا والضعف في نفوسنا). والمثير في الأمر أن الثورة الجزائرية قد انطلقت من هذه الأصالة ذاتها. وكان اعتمادها دائما على القدرة الذاتية لشعب الجزائر المجاهد.
3 - ويدعو الشيخ الإبراهيمي لمقاطعة الاستعمار وحرمانه من موارد النهب، حفاظا على قدرة العرب المسلمين في أوطانهم. وهي الدعوة التي لا زالت تتردد قوية إلى ما بعد نداء الشيخ الإبراهيمي بثلاث عقود، دون أن تجد لها أذانا صاغية.
4 - والشيخ الإبراهيمي، ينطلق بصيحته من منبره، بقلب الإنسان المسلم، وإرادة الرجل المؤمن (حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء) فالمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، إذا أصاب عضوا منه المرض تداعت بقية الأعضاء للسهر والحمى.
...
وتمضي السنوات متثاقلة لترهق كاهل الشيخ، وتنفجر ثورة الجزائر. ويعتقل الإفرنسيون أحمد طالب الإبراهيمي، في حين يكون الشيخ مريضا على فراشه، بمستشفى كراتشي. فيكتب الإبن أحمد طالب الإبراهيمي إلى أخيه: (لم يكاتبني والدي هذه الأيام الأخيرة. ومن المحتمل أن يتلقى نبأ إيقافي برصانته المعهودة). وبعد أربعة أعوام من السجن يعود أحمد طالب الإبراهيمي ليكتب إلى أخيه: (كاتبت اليوم والدنا أيضا، آه لو تعلم كم أبتهل إلى الله كي يعيش حتى يوم الاستقلال! فإذا ما كتبت له أن يشهد الجزائر وقد حررت أرضها، عندئذ يسوغ لي أن ألقي عليه مقطع (لورانزا تشيو) في مسرحيته الشهيرة: (تعال يا والدي النبيل! تعال وانظر إلى أحلام عمرك تتهادى ضاحية، لقد أينعت الحرية ... هيا وانظر نبتك المحبب ينبثق من الثرى). يومئذ أقول له ما قال شوقي لسعد زغلول:
لينم أبو الأشبال ملء جفونه ... ليس الشبول على العرين بنوم (3)
الهوامش:
(1) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 388 - 390.
(2) الجزائر والأصالة الثورية (الدكتور صالح خرفي) ص 28 - 30 و 41 - 43.
(3) رسائل من السجن - أحمد طالب الإبراهيمي - ص 15 و 125 - 126.