تفسير ابن باديس من خلال مجالس التذكير
بقلم: محمد بن رزق الطرهوني-
مؤلف هذا التفسير هو عبد الحميد بن باديس الصنهاجي الجزائري ت 1359 هـ وهو من أهل المنطقة ولد بقسنطينة وتوفي بها. (1)
التعريف بالتفسير
وتفسير ابن باديس طبع باسم "تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير " جمع وترتيب وإعداد وتعليق محمد الصالح رمضان أستاذ بوزارة التربية الجزائرية، وتوفيق محمد شاهين بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر - ط 2 دار الفكر سنة1391 هـ. والكتاب عبارة عن مجالس قرآنية كان ابن باديس يفتتح بها مجلة الشهاب التي كان يتولى إصدارها، وقد جمعها المذكوران في هذا الكتاب بعد أن قام بجمع بعضها أحمد بوشمال. (2)
المنهج العام للتفسير
وتفسير ابن باديس في الجملة تفسير أدبي اجتماعي يناسب وضعه كدروس تلقى على العامة وغيرهم.
والكتاب له مقدمة في التذكير وحاجة الخلق إليه وفي أفضل الأذكار وأنواع الذكر وتلاوة القرآن. (3)
ثم خطبة افتتاح لدروس التفسير ذكر فيها طريقته في التفسير فقال: هي تفسير الألفاظ بأرجح معانيها اللغوية وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية وربط الآيات بوجوه المناسبات معتمدين في ذلك على صحيح المنقول وسديد المعقول مما جلاه أئمة السلف المتقدمون أو غاص عليه علماء الخلف المتأخرون رحمة الله عليهم أجمعين وعمدتنا فيما نرجح إليه من كتب الأئمة:
1 - تفسير ابن جرير الطبري الذي يمتاز بالتعاليق السلفية وبأسلوب الترسل البليغ في بيان معنى الآيات القرآنية وبترجماته لأول الأقوال عنده بالصواب.
2 - وتفسير الكشاف الذي يمتاز بذوقه البياني في الأسلوب القرآني وتطبيقه فنون البلاغة على آيات الكتاب، والتنظير لها بكلام العرب واستعمالها في أفانين الكلام.
3 - وتفسير أبي حيان الأندلسي الذي يمتاز بتحقيقاته النحوية واللغوية وتوجيه القراءات.
4 - وتفسير الرازي الذي يمتاز ببحوثه في العلوم الكونية مما يتعلق بالجماد والنبات والحيوان والإنسان وفي العلوم الكلامية ومقالات الفرق والمناظرة والحجاج في ذلك. (4)
ومجالس ابن باديس تشمل أقساما ستة سورة الإسراء وسورة الفرقان وسورة النمل وسورة يس والمعوذتين ثم آيات متفرقة من سور يوسف والنحل والمائدة والنور ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والذاريات والقسم السابع يعتبر تفسيرا موضوعيا عن العرب في القرآن.
وهو يذكر آية أو عدة آيات ثم يتكلم عن مناسبتها ثم يتكلم عن معاني المفردات ثم يشرحها مستخرجا منها الآداب والإعجاز والنكات اللغوية وغير ذلك.
وقد تكلم البشير الإبراهيمي عن خصائص تفسير ابن باديس في كلمة سماها "خصائص التفسير الباديسي" انظرها كاملة(5). وهو فيها يعتبر ظهور محمد عبده معجزة ويصفه بأنه إمام المفسرين وأنه قد خلفه ترجمان أفكاره محمد رشيد رضا ثم يجعل إمامة التفسير بعده في العالم الإسلامي كله إلى ابن باديس. (6)
المنهج التفصيلي للمؤلف
أولا:
يلاحظ أن المؤلف لا يتعرض لأسماء السور ولا عد الآية ولا للمكي والمدني ونحو ذلك لأنه ليس تفسيرا شاملا كما ذكرنا.
أما المناسبات فهو يهتم بها ومن ذلك قوله: ولما ذكر تعالى آيته ونعمته بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على ذلك على هذا الكون الأعظم فقال تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين}. (7)
وانظر أيضا المناسبة في الربط بين الإحسان للوالدين وإفراد الله بالعبادة. (8)
ثانيا: موقفه من العقيدة
لقد أولى ابن باديس القضايا الاعتقادية اهتماما بينا فعلى الرغم من قلة المادة التفسيرية التي وقفنا عليها نجد أنه تطرق إلى مسائل متعددة من مسائل العقيدة فقد تكلم عن التوحيد وأنه أساس الدين كله (9) تحت قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا} (10)
وتكلم عن أقسام التوحيد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والتوحيد العلمي والتوحيد العملي (11)
وعن أقسام الكفر (12)
وتكلم عن الأحكام الشرعية والأحكام القدرية تحت قوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ... ..} (13) ثم قال: فما حكم من أحكامه القدرية إلا وله سببه
وعلته لا لوجوب أو إيجاب عليه بل بمحض مشيئته ومقتضى عدله وحكمته (14).
وتطرق للرياء الذي هو شرك أصغر عند قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} (15)
فقال: إن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الإخلاص فيه لله.
وتكلم عن العامل الذي لا يريد الآخرة أصلا وإنما
أراد الرياء أو منفعة دنيوية وفصل في ذلك تفصيلا جيدا.(16)
وتحت قوله تعالى {إلا من تاب وآمن ..} (17) تساءل هل يخرج غير التائب من النار؟ فقرر العقيدة السلفية من عدم خلود أهل الكبائر كالقاتل والزاني في النار (18).
ومع كونه امتدادا لمدرسة محمد عبده إلا أنه يرى جواز السحر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرى أنه من التأثير البدني فقط خلافا لمحمد عبده وذلك في تفسيره لقوله تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد} (19)(20)
كما تحدث عن منزلة الدعاء (21)
وفي الغيبيات يقول تحت قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (22): ... أحوال ما بعد الموت فلا نقول فيها إلا ما كان لنا به علم بما جاء في القرآن العظيم أو ثبت في الحديث الصحيح (23).
وأما موقفه من البدع:
فقد تطرق من ذلك إلى الإنكار على المبتدعة من المشركين الأوائل الذين اخترعوا الرقص والزمر والطواف حول القبور والذبح عندها ونداء أصحابها ... .الخ وذكر فساد ذلك، وحث المسلمين على أن يقتصروا في العبادة على ماثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (24)
ومن ردوده على الصوفية قوله:
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد أن يعبد الله تعالى لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم. الخ يعني قوله {والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم} (25) وقد تنازع في ذلك مع أحد هؤلاء ردا وجوابا (26).
وهو يرفض تفاسير الصوفية التي ليس لها معاني صحيحة في نفسها، ولم تؤخذ من التركيب القرآني أخذا عربيا صحيحا، وليس لها ما يشهد من أدلة الشرع؛ فيقول: ... أما مالم تتوفر فيه الشروط المذكورة - وخصوصا الأول والثاني -
فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي من المتقدمين والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين. (27)
ثالثا: موقفه من تفسير القرآن بالقرآن
قال في قوله: {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب} (28) ونظيرها أيضا آية {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ...} (29)
وقال في قوله: {وننزل من القرآن ما هو شفاء} (30) وصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء في مواضع من كتابه منها هذه ومنها قوله تعالى {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} (31) ومنها قوله: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ...} (32)
رابعا: موقفه من تفسير القرآن بالسنة
ويتميز تفسير ابن باديس بانتقائه للأحاديث في الجملة فغالب أحاديثه صحيحة أو حسنة وهو يعزو الأحاديث لمخرجيها في معظم المواضع (33). وهذه ظاهرة عزيزة لا تكاد توجد في أي من التفاسير، فهي حسنة من حسنات ابن باديس رحمه الله.
وربما ذكر الحديث بدون عزو أو ذكر لدرجة صحته كقوله:
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" (34) (35)
وتحت قوله {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} (36)
ذكر عدة أحاديث مستطردا:
منها قوله: جاء حديث أبي هريرة في الصحيح قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل ... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ... ورجل وسع الله عليه ... ." الخ (37).
وقال: حديث أبي هريرة في الصحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تبارك وتعالى " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (38).
وقال: وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا - أي الرجل يبتغي الجهاد وهو يريد من عرض الدنيا - فقال: "لا أجر له"، وقال: رواه أبو داود وابن حبان. (39)
وكذا قوله: ومن أدلة هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عند مسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (40).
وبتعرض لأسباب النزول ومن ذلك قوله: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ... .} (41) قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: هي في نفر من الإنس كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم (42).
خامسا: موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف
نظرا لاستعمال ابن باديس الأسلوب الأدبي الذي يخاطب مستوى العامة نلاحظ عدم اهتمامه بنسبة الأقوال للمفسرين جملة وبالتالي لم يظهر اهتمامه بالتنصيص على المفسرين من السلف إلا لماما.
قال تحت قوله: {واجعلنا للمتقين إماما} (43):
قال مجاهد التابعي الجليل الثقة الثبت المفسر الكبير: أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا. ذكره البخاري ورواه ابن جرير بسند صحيح. (44)
سادسا: موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات
وربما تطرق ابن باديس لبعض حوادث السبرة والتاريخ ومن ذلك:
قال في قوله: {إما يبلغن عندك الكبر} (45): يعني الوالدين، وكان والداه - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما الرحمة قد توفيا فلم يدخلا في الخطاب قطعا (46).
وقال في قوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} (47): والمخاطب بهذا الخطاب إما مفرد غير معين فيشمل جمع المكلفين غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير وفدك وخيبر (48).
وقد ذكر بعضا من أهل الجاهلية أحيوا الموءودة تحت قوله تعالى {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} (49) كزيد بن عمرو بن نفيل وصعصعة بن ناجية (50).
سابعا: موقفه من الإسرائيليات
وعلى الرغم من محدودية القطع التفسيرية التي نوقع عليها الدراسة، فقد ظهر موقف ابن باديس من الإسرائيليات في قوله:
تحذير: رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة، ومعظمها من الإسرائيليات الباطلة التي امتلأت بها كتب التفسير، مما تلقي من غير تثبت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه، وروى شيئا من ذلك الحاكم في مستدركه وصرح الذهبي ببطلانه، ومن هذه المبالغات الباطلة أنه ملك الأرض كلها مشارقها ومغاربها، فهذه مملكة عظيمة "سبأ" كانت مستقلة عنه ومجهولة لديه على قرب مابين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام.(51)
ثامنا: موقفه من اللغة
يهتم المؤلف بشرح المفردات كوسيلة مباشرة لتوضيح المعنى لمن يلقي عليهم دروسه، ومن ذلك قوله في قوله تعالى {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل} (52):
{جعلنا الليل}: ... وجعل الشيء هو وضعه على حاله أو كيفية خاصة (53).
{آيتين}: الآية: العلامة الدالة (54).
{فمحونا}: المحو هو الإزالة (55).
وفي قوله {محظورا (56) }قال: والحظر: المنع والمحظور الممنوع (57).
ومن استدلاله بالشعر أحيانا قوله:
والأوابون في قوله تعالى {فإنه كان للأوابين غفورا} (58) هم الكثير و الرجوع إلى الله تعالى والأوبة في كلام العرب هي الرجوع قال عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب (59)
وربما ذكر بيت شعر لا على سبيل التوضيح اللغوي:
ومن ذلك ما نقله عن البوصيري:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم (60)
وربما تعرض للإعراب أحيانا (61).
ومن مواضع تعرضه للنكات البلاغية:
{كلا نمد هؤلاء} (62) قال: قدم المفعول وهو {كلا} ردا على من يعتقد أن الله يمد بعضا دون بعض وفيه إيجاز بالحذف والأصل كلا الفريقين يعني فريق مريدي العاجلة ومريدي الآخرة (63).
قوله {إنه كان للأوابين غفورا} (64): وقد أكد الكلام بإن لتقوية الرجاء في المغفرة وجيء بلفظ كان لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق ... الخ (65).
وقال {واخفض لهما جناح الذل} (66) فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه وحذف المشبه به وأشير إليه بلازمه وهو خفض الجناح لأن الطائر هو ذو الجناح ... فيكون في الكلام استعارة بالكناية (67).
كما تكلم عن سر توجيه الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله {لا تجعل مع الله إلها آخر} (68)
وتكلم عن سر تنكير إحسانا في قوله {وبالوالدين إحسانا} (69)
وتكلم عن إعجاز القرآن:
ومن ذلك كلامه عن الآيات من قوله: {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا} (70) إلى قوله {لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا} (71) فقال: فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها ... ثم بين ذلك مفصلا (72).
تاسعا: موقفه من القراءات
وربما تعرض ابن باديس للقراءات وهو نادر ومن ذلك قوله في آية {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} (73):
{ذلك} إشارة إلى جميع ما تقدم من المأمورات والمنهيات على قراءة { سيئُهُ} (74) فالمكروه هو سيء ما تقدم وهو القبائح المنهي عنها، أو إشارة إلى خصوص القبائح على قراءة {سيئَةً} (75) (76)
عاشرا: موقفه من الفقه والأصول
يتعرض للفقه لماما مثل قوله تحت آية {وبالوالدين إحسانا} (77):
وإنما تحل مخالفتهما - أي الوالدين - إذا منعاه من واجب عيني أو أمراه بمعصية.
ويقول: لأن القيام عليهما فرض عيني والجهاد كان عليه فرض كفاية ولو تعين عليه ولم يكونا عن كفاية قدم القيام عليهما وكفايتهما عليه (78).
وفي قوله {ولا تقربوا الزنا} (79) قال:
وقد حمى الشرع الشريف العباد من هذه الفاحشة بما فرض من الحجاب الشرعي وهو ستر الحرة ماعدا وجهها، وجمع ثيابها عند الخروج بالتجلبب وبما حرم من تطيب المرأة وقعقعة حليها عند الخروج وخلوتها بالأجنبي واختلاط النساء بالرجال.
وتحت قوله {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (80):
تساءل هل يسلَّم على الكافر؟ قال: نعم. كما قال إبراهيم لأبيه {سلام عليك} (81) وقد قال تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم} (82) ولم يستثن إلا قوله لأبيه لأستغفرن لك (83).
وقد فات ابن باديس النهي الوارد في السنة الصحيحة من قوله - صلى الله عليه وسلم:
"لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" (84).
وقد تعرض أيضا لحكم تارك الصلاة (85).
ومن مصادره في الفقهيات ابن العربي المالكي (86).
ويلاحظ أن ابن باديس ليس ناقلا فقط وإنما يناقش ويحلل ويرجح
ومن ذلك كلامه في التهجد تحت قوله {ومن الليل فتهجد به} (87) وهل كان مفروضا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده أم لا؟ (88).
ومن تفرداته واجتهاداته ما ذكره تحت قوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (89)
حيث ذكر قولا ثالثا في تفسيرها وقال: ولم أره لأحد، واللفظ يحتمله: أن ميل الشمس يبتدئ بالزوال وينتهي فيما يرى لنا بالبصر بمغيب الشفق غير أن ميلها في الزوال والغروب مشاهد بمشاهدة ذاتها، وميلها بعد الغروب مستدل عليه بما يشاهد من أخذ الشفق في المغيب إلى أن يغيب بتمامه، ولا شك أن ذلك نتيجة ميلها من وراء الأفق فالصلوات الأربع على هذا واجبة لدلوك الشمس (90).
وهو يتعرض للأصول أثناء التفسير ومن ذلك:
قوله: والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام. (91)
وقوله: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (92).
وتكلم عن:
التقليد وحكمه (93).
والاجتهاد وخبر الآحاد والفتوى بالدليل (94).
وفي الحمل على الظاهر (95).
ومن كلامه: وما أحسن التفسير عندما تعضده الأحاديث الصحاح. (96)
ويقول: عندما يختلف عليك الرعاة الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى فانظر من يدعوك بالقرآن إلى القرآن ومثله ما صح من السنة
لأنها تفسيره وبيانه فاتبعه (97) ..
أما النسخ فهو يرى وقوعه ويرفض الغلو فيه، ومن ذلك قوله في قوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (98):
فهو أدب مشروع مؤكد وحكم دائم محكم، وهو في معاملات الأفراد كما ترى فلا ينافي ما شرع من الحرب عند وجود أسبابها وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات، وهي من الأمور العامة كما ترى، فبطل قول من زعم أن هذه الآية بالنسبة لغير المسلم منسوخة بآية السيف لأن هذه الآية حكمها في حال وآية السيف حكمها في حال أخرى فلا تنسخ إحداهما الأخرى وما أكثر ما قتلت أحكام بآية السيف هذه!! وهي عند التحقيق غير معارضة لمباينة حالها لحالها (99).
وقوله: ولحديث عائشة رضي الله عنها: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة (المزمل) قيام الليل فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيامه تطوعا بعد فرضه. رواه مسلم.(100)
حادي عشر: موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية
لقد تعرض ابن باديس لبعض الكونيات فنراه يقرر كروية الأرض في تفسيره لقوله تعالى {يكور الليل على النهار} (101) (102)
ويقول في قوله {وجعلنا الليل والنهار آيتين} (103) قال: بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص على نظام محكم وترتيب بديع بحسب الفصول الشتوية والصيفية وبسبب الأمكنة ومناطق الأرض المناطق الاستوائية والقطبية الشمالية والجنوبية وما بينهما حتى يكونا في القطبين ليلة ويوما في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين ويوم في ستة أشهر هو صيفهم (104).
وقد تكلم عن القمر عند علماء الفلك ثم عن المعجزة العلمية في محو القمر بمعنى أنه كان شديد الحمو والحرارة في الأزمان القديمة منذ ملايين
الستين ثم برد وزالت إضاءته على ما هو الآن (105).
وعند التحقيق فهذه نظرية لا علاقة لها بالآية وهذا إغراق في تطبيق تلك النظريات على الآيات في حين ثبوت خطئها في كثير من الأحيان، والمراد بالمحو ظلمة الليل كما فهمه أهل اللغة الذين نزل القرآن بمخاطبتهم أصلا ونحن لهم تبع.
كما تكلم عن استمداد القمر ضوءه من الشمس (106).
كما عقد ابن باديس فصلا في المدنية الحديثة (107).
ثاني عشر: موقفه من المواعظ والآداب
وقد اهتم المؤلف بجانب الاجتماعيات والآداب اهتماما كبيرا مع شيء من الوعظ والإرشاد:
فمن الآداب والاجتماعيات تكلم في سورة الإسراء مثلا على أصول الهداية وبر الوالدين وصلاح النفوس وإصلاحها والعلم والأخلاق والقول الحسن وغير ذلك.
ومن استفاضته في التوجيه والإرشاد تطرقه إلى بر الوالدين بعد موتهما (108).
وفي قوله تعالى {من كان يريد العاجلة} (109)
قال: ومن مقتضى هذا أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم.
ثم قسم ابن باديس العباد إلى أربعة أقسام: مؤمن آخذ بالأسباب فهو سعيد في الدنيا والآخرة، ودهري تارك لهما فهو شقي فيهما، ومؤمن تارك للأسباب شقي في الدنيا ناج بعد المؤاخذة على ترك الأسباب في الآخرة، ودهري آخذ بالأسباب فهو سعيد في الدنيا هالك في الآخرة.
ويقول: فلا يفتتن المسلمين بعد هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم ... الخ (110).
وفي قوله تعالى {فأولئك كان سعيهم مشكورا} (111) قال:
فهذا كان سعيه مشكورا بثلاثة شروط:
أن يقصد بعمله ثواب الآخرة ... ،
أن يعمل لهما عملها ... ،
أن يكون مؤمنا موقنا بثواب الله ... الخ
وتحدث عن المجتمع السعيد ومقوماته (112).
وله تقسيمات جيدة في أنواع الأمراض وفي التداوي بالقرآن (113).
ومن توجيهاته الوعظية:
قال: فهذه الكلمات القليلة الكثيرة {لتبتغوا فضلا من ربكم} (114) جمعت أصول السعادة في هذه الحياة، بالعمل مع الجد فيه والمحبة له والرجاء في ثمرته الذي به قوام العمران وبالرضا والتسليم للمولى الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير وبالكف للقلب واليد عن الناس الذي به الأمن والسلام (115).
وفي قوله {من كان يريد العاجلة} (116)
يقول: كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام، عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد، منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا عليها قصر همه وعلى حظوظها عقد ضميره ... لا يرجو سواها ثوابا ولا يخاف عقابا ... الخ (117).
ويقول: وإذا أخلصت في رجائك وخوفك هانت عليك نفسك فقمت في طاعته مجاهدا ... .. الخ (118).
ويقول في قوله تعالى {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ...} (119):
هذه نملة وفت وأدت نحوهم واجبها فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه؟ هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه، ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهما لقومه فيسكت أو يتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم! آه .. ما أحوجنا معشر المسلمين إلى أمثال هذه النملة! (120).
الهوامش:
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 74.
(2) انظر ص: 27.
(3) ص: 29 - 48.
(4) ص: 50 - 51.
(5) ص: 19.
(6) ص: 24 - 27.
(7) الإسراء: 12، ص: 57.
(8) ص: 94 وانظر أيضا ص: 108، 116، 136، 141.
(9) ص: 87.
(10) الإسراء: 22.
(11) ص: 90، 91.
(12) ص: 213.
(13) الإسراء: 58.
(14) ص: 193.
(15) الإسراء: 19
(16) ص: 70 - 75.
(17) الفرقان: 70.
(18) ص: 371 - 374.
(19) الفلق: 4.
(20) ص: 633، 634.
(21) ص: 93.
(22) الإسراء: 36.
(23) ص: 160.
(24) ص: 75 - 76.
(25) الفرقان: 65.
(26) ص: 329 - 353 فأطال في تقرير ذلك. وانظر ص: 357. وانظر من كلامه أيضا في العقيدة ص: 181 - 183.
(27) ص: 444.
(28) الشورى: 20.
(29) هود: 15، 16.
(30) الإسراء: 82.
(31) يونس: 57.
(32) فصلت: 44، ص: 225.
(33) انظر ص: 84، 92، 93، 96، 97، 98، 103، 106، 210، 211، 212.
(34) ص: 81 وانظر أيضا ص: 98.
(35) أخرجه مسلم - كتاب الصيد والذبائح - باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة 3/ 1548 عن شداد بن أوس.
(36) الإسراء: 19.
(37) ص: 72 والحديث أخرجه مطولا: مسلم - كتاب الإمارة - باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار 3/ 1513.
(38) ص: 73 والحديث أخرجه مسلم - كتاب الزهد والرقائق - باب تحريم الرياء 4/ 2289.
(39) الحديث بطوله في سنن أبي داود - كتاب الجهاد - باب فيمن يغزو ويلتمس الدنيا 3/ 14، صحيح ابن حبان 10/ 494.
(40) ص: 74 أخرجه مسلم - كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/ 697.
(41) الإسراء: 57.
(42) ص: 186 أخرجه البخاري - كتاب التفسير - سورة الإسراء باب {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه} 8/ 397.
(43) الفرقان: 74.
(44) ص: 395.
(45) الإسراء: 23.
(46) ص: 127 وهذا على قول من يرى إيمان أبويه - صلى الله عليه وسلم - أما من يرى عدم إيمانهما فلا يجوز الترحم عليهما كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ... " أخرجه مسلم - كتاب الجنائز - باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل في زيارة قبر أمه 2/ 671.
(47) الإسراء: 29.
(48) السورة مكية وهذه الآيات قبل ما ذكره المصنف بزمان.
(49) الإسراء: 31.
(50) ص: 133ومن مراجعه في السيرة كتاب الشفا للقاضي عياض انظر: ص: 214
كما ذكر قصصا تاريخية عن إبراهيم بن المهدي والمأمون ص: 322.
(51) ص: 451.
(52) الإسراء: 12.
(53) ص: 57.
(54) ص: 58.
(55) ص: 60.
(56) الإسراء: 20.
(57) ص: 80، وانظر أيضا ص: 88، 116، 122.
(58) الإسراء: 25.
(59) ص: 110، وانظر أيضا: ص: 113، 163، 180، 216.
(60) ص: 61.
(62) الإسراء: 20.
(63) ص: 80.
(64) الإسراء: 25.
(65) ص: 112.
(66) الإسراء: 24.
(67) ص: 101، وانظر أيضا ص: 113، 125.
(68) الإسراء: 22، ص: 89.
(69) الإسراء: 23، ص: 96، وانظر أيضا ص: 224.
(70) الإسراء: 22.
(71) الإسراء: 39.
(72) ص: 86، وانظر في معجزات القرآن أيضا ص: 190
(73) الإسراء: 38.
(74) قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمز والهاء وإشباع ضمتها على الإضافة والتذكير.
(75) قراءة الباقين بفتح الهمزة ونصب تاء التأنيث مع التوحيد. انظر إتحاف فضلاء البشر ص: 283.
(76) ص: 166.
(77) الإسراء: 23.
(78) ص: 98.
(79) الإسراء: 32.
(80) الفرقان: 63.
(81) مريم: 47.
(82) الممتحنة: 4.
(83) ص: 322.
(84) أخرجه مسلم - كتاب السلام - باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام 4/ 1707 عن أبي هريرة.
(85) انظر ص: 213.
(86) انظر ص: 127.
(87) الإسراء: 79.
(88) ص: 218 - 220.
(89) الإسراء: 78.
(90) ص: 209.
(91) ص: 67
(92) ص: 135.
(93) ص: 157.
(94) ص: 158، 159.
(95) ص: 301.
(96) ص: 305.
(97) ص: 309.
(98) الفرقان: 63.
(99) ص: 321.
(100) ص: 219 والحديث أخرجه مسلم مطولا جدا - كتاب صلاة المسافرين - باب جامع صلاة الليل 1/ 513.
(101) الزمر: 5.
(102) ص: 58.
(103) الإسراء: 13.
(104) ص: 58.
(105) ص: 60.
(106) ص: 61، وانظر أيضا ص: 62.
(107) ص: 152.
(108) ص: 103.
(109) الإسراء: 19
(110) ص: 68.
(111) الإسراء: 19
(112) ص: 116، وانظر أيضا ص: 82، ص: 195 - 196.
(113) ص: 226 - 232.
(114) الإسراء: 12.
(115) ص: 63.
(116) الإسراء: 18.
(117) ص: 65.
(118) ص: 70، وانظر أيضا ص: 83، 90، 108، 111، 123، 197.
(119) النمل: 18.
(120) ص: 435.
المصدر: كتاب التفسير والمفسرون في غرب أفريقيا