الشيخ محمد المكي بن عزوز أشهر عالم في عصره
بقلم : محمد رميلات-
فضيلة الشيخ محمد المكي بن عزوز الجزائري ، واحد من أكابر أعلام زمانه ، ويعتبر من أشهر علماء الأسانيد والقراءات وعلم الفلك والفقه المالكي بأصوله وفروعه ...
تولى القضاء بنفطة في تونس وعمره لا يتجاوز السابعة والعشرين ، ودَرَّس في جامع الزيتونة المعمور ، وتخرج على يديه عشرات التلامذة الذين صاروا علماء جهابذة في شتى بقاع العالم الإسلامي ، كما تولى القضاء والإفتاء والتدريس في دار الفنون في الآستانة التي تُسمى حاليًا اسطنبول في تركيا ، مقر الخلافة العثمانية آنذاك زهاء تسع سنين إلى أن توفاه الأجل هناك سنة 1916 ... ولم يُعرف في شيوخ وعلماء زمانه أكثر منه اعتناءً منه بالرِّواية والإسناد ، وقد أجازه نحوًا من خمسين شيخًا من أشياخه المعاصرين له في تونس والجزائر والحرمين الشَّريفين ومصر والمغرب وتركيا وغيرها ، فاجتمعت لديه في جميع العلوم والفنون المتداولة والغريبة إجازات ساميَة وأسانيد عاليَة ، قلَّ أن تُوجد عند غيره ... وامتدحه كثيرٌ من أدباء عصره بقصائد لو جُمعت لكانت دواوين معتبرة ، كما ذكر ذلك الشيخ عبدالرحمن الجيلالي في كتابه " تاريخ الجزائر العام " ، وكان الشيخ محمد المكي بن عزوز في كلِّ عام يزور الجزائر وهنالك اتَّصل بالشيخ المربِّي العارف بالله سيدي محمَّد بن أبي القاسم الخلوتي الرَّحماني مؤسس الزاوية القاسمية في بلدية الهامل دائرة بوسعادة حاليا ، واتَّخذه شيخَ سُلُوكٍ وتربية وتوجيه ، وكان يقضي شهورًا في الزاوية ، يروي الحديث وسنده ، ويعظ النَّاس ويرشدهم ، واتصل بالشَّيخ الإمام المعمِّر المحدِّث سيدي علي بن الحفَّاف مفتي المالكيَّة بعاصمة الجزائر، فأخذ عنه صحيح الإمام البخاري ، ورواه عنه بالسَّند العالي المشهور ...
واشتغال الشيخ بالقضاء والإفتاء والتدريس والمدارسة لم يُشغله عن الكتابة والتأليف والتصنيف ، فقد ألف ـ رحمه الله ـ مؤلفات عديدة ومفيدة ، في التّوحيد والتفسير والقراءات والفقه والتصوّف والآداب ... بلغ عددها نحوًا من ثلاثين كتابا ، كلها مؤلفات رائعة ماتعة ، جديرة بالقراءة والتأمل ، أذكر منها:
• مغانم السعادة في فضل الإفادة على العبادة
• مرشد الخائض في صلاة السادل والقابض
• طريق الجنّة في تحلية المؤمنات بالفقه والسنّة
• الذّخيرة المكيّة
• السّيف الربّاني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني
• برق المباسم في ترجمة الشَّيخ سيدي محمَّد بن أبي القاسم " وهو شيخ الزاوية القاسمية "
• الرِّحلة الهاملية " وهو يقصد بذلك الزاوية القاسمية ببلدية الهامل "
• الأجوبة المكيّة عن الأسئلة الحجازيّة
• الدّيوان في مذاكرة الأجنّة بالقيروان
• تلخيص الأسانيد
• التّنزيه عن التّعطيل والتّشبيه
• رسالة في أصول الحديث
• نظم الجغرافية التي لا تتحول بمغالبة الدول
• تعديل الحركة في عمران المملكة
• عمدة الإثبات في رجال الحديث
• إرشاد الحيران في خلاف قالون لقراءة عثمان
• الجوهر المرتب في العمل بالربع المجيب
• الحق الصريح
• إسعاف الإخوان في جواب السؤال الوارد من داغستان
• هيئة الناسك
• أصول الطرق وفروعها وسلاسلها
• إقناع العاتب في آفات المكاتب
• انتهاز الفرصة في مذاكرة متفنن قفصة
• الأجوبة المكية عن الأسئلة الحجازية ، نظم
كان الشيخ محمد المكي بن عزوز مستاءًا وغاضبًا من التواجد الفرنسي والإيطالي في دول شمال إفريقية ، وكان يدعو النَّاس للأخذ بأسباب القُوَّة للتَّحرُّر من نير الاحتلال الغربي ، فصدَّع رؤوس الفرنسيِّين بخُطبه التحريضية ، ودروسه التعبوية ، والفتوى التي قال فيها بتحريم كلِّ المواد الدَّسمة الَّتي تَرِدُ مِن فرانسا ، كالصَّابون والشَّمع ، والشَّحم ... فسعت سلطات الإحتلال للقبض على الشيخ ، وطاردوه في أنحاء الجزائر ليعتقلوه ، غير أن الله أنجاه من كيدهم ومكرهم وظلمهم ...
ولد فضيلة الشيخ محمد المكي بن عزوز في 15 رمضان سنة 1270 هـ ، حوالي سنة 1856 م... والِدُه الشَّيخ مصطفى بن محمَّد ابن عزُّوز، هاجر من الجزائر ـ إبَّان فترة الاحتلال الفرنسي ـ إلى جنوب تونس ، فاستقرَّ به المقام في نفطة ، وهناك أنشأ بها زاويته ، وصار ينشر العلم والطَّريقة الرَّحمانيَّة ..
وُلِدَ المكي ابن عزوز في نفطة ، وحفظ القرآن الكريم في زاوية والده وهو صغير لم يبلغ السابعة من العمر ، وقرأ عن الشيخ قاسم الخيراني "شرح الشيخ خالد الأزهري على الآجرومية" و قرأ في الفقه "شرح الميارة على ابن عاشر" ، وقرأ "الرحبية " و" الدرة البيضاء " في علم الفرائض ، و" مبادئ علم الفلك " على ابن عمه الشيخ محمد بن عبد الرحمن التارزي ، وقرأ "ألفية ابن مالك" بشروحها ، و أخذ "مختصر الشيخ خليل" بشروحه على الشيخ النوري بن أبي القاسم الزيدي النفطي ، وقرأ "الترمذي" على عمه الشيخ محمد المدني بن عزوز ، وفي عام 1292 هـ ارتحل إلى تونس مكتمل التَّحصيل كما يرتحل الطُّلاَّب إلى العواصم الجامعيَّة الكبرى وهو ابن اثنتين وعشرين سنة ، وهنالك لازم العلامة النحرير ، والعالم الشهير ، الشيخ سيدي عمر بن الشيخ المفتي المالكي بحاضرة تونس في ذلك العصر، وقرأ عليه المُحَلى على جمع الجوامع في الأصول ، وقرأ عنه الموطأ ومختصر السعد وغيرها من فنون أخرى ... ثم لازم شيخ المشايخ بها الأستاذ الأكبر سيدي محمد النجار ، فقرأ عليه مقامات الحريري ، وأخذ عن الشيخ الإمام الأستاذ سيدي سالم بوحاجب ، المغني ، والسيوطي ، والسيد في وضع اللغة بشرح سعد الدين التفتزاني ، وأخذ القرءآت السبع رواية ودراية على شيخه العالم سيدي محمد البشير التواتي ... فتأصَّل علمه وعَلَتْ منزلته واشتهر بالتَّفوُّق والمقدرة العلمية العالية في كل العلوم والفنون والمعارف ... ويتضح من مؤلفات الشيخ أنه مالكي المذهب ، أشعري العقيدة ، متصوف السلوك ، طرقي من مريدي الطريقة الرحمانية ، ورغم ذلك يحاول بعض الوهابية إقحامه عنوة في تيارهم المتمسلف بأوهام ظنية ، وشطحات فكرية ، تُكذبها مؤلفات الشيخ رحمه الله ...
ويحضرني في هذا المقام أن الزاوية الرحمانية التي أسسها والد الشيخ محمد المكي بن عزوز في نفطة بصحراء الجريد التونسي كانت الخلفية الأولى لجهاد الثائر البطل بن ناصر بن شهرة الأغواطي ، كان يلجأ إليها ليجد فيها الملاذ الآمن والحضن الدافئ بعد مقارعة ومنازلة جنود الاحتلال الفرنسي في الجزائر ، ويذكر الشيخ عبدالرحمن الجيلالي في كتابة " تاريخ الجزائر العام " [ أن قبيلة الحرازلية كانوا يشكلون ثلثي جيش بن ناصر بن شهرة ] وهو حوالي 1500 مجاهد ...
استمرَّ فضيلة الشَّيخ محمد المكي بن عزوز في القضاء والإفتاء والتدريس بتركيا إلى أن أصابه في سنة 1333 هـ مرض أعيَا الأطبَّاء علاجه ... ولازمه زهاء أربعة أشهر ، ثم وافاه الأجل المحتوم عند غروب شَّمس يوم الخميس ثاني صفر من سنة 1334 هـ ، الموافق لسنة 1916... وكان فَقْدُه عظيمًا في قلوب المشايخ والعلماء والعقلاء وأهل الفضل في عصره ، ورزئت كل الأمة بفقد عالم من أجل وأعلم أهل زمانه ، نسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضى والرضوان ، وأن يجعل مقامه في عليين مع الصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا .