العلاّمة الكبير، والداعية الشهير الشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي، أحد أبطال الجزائر وشرفائها 1425م ـ 1504 م
بقلم : محمد رميلات -
السيرة العطرة للشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي تضوعت بمسكها وأريجها الكتب الكثيرة والمراجع العديدة ، وهي جديرة بأن تكون فلمًا سنمائيًا ناجحًا على غرار " عمر المختار " ... فقد تناول وتداول القدامى والمحدثون من العرب والغربيّين شمائله الكريمة ، وخلاله العظيمة التي ظلَّ الزمن ولا يزال يُردَّد صداها كأنها نغم جميل ينساب انسياب الماء العذب في الجداول الرقاقة ...
فمن أفضال الشيخ المغيلي ـ رحمه الله ـ أنه في سبيل الدعوة إلى الله ، انتقل من تلمسان إلى واحات تمنطيط ورمال منطقة توات ، وقد كان السفر آنذاك قطعة من العذاب ، لكنه تجشم عناء الرحلة الطويلة إلى هذه المفاوز البعيدة ، وهنالك تولى القضاء والإفتاء ، وكسر شوكة اليهود ، وضيَّق عليهم ، وقهرهم وأذلَّهم وهدم كنائسهم وبيعَهُم، وأنهى سيطرتهم الدينية ، وهيمنتهم المالية على تلك الربوع العميقة من بلاد الجزائر الشاسعة الواسعة ، إلا أن اليهود انتقموا منه شر انتقام ، فقتلوا ولدَه البكر عبدالجبار ... وقصور تمنطيط وأسملال وأولف وزاوية كنتة وفنوغيل .. ما تزال شاهدة ماثلة تحكي جهاد الشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي ومناسك بطولاته التي سطرها هناك بأحرف من نور ...
وتوغل الشيخ بعيدًا في تخوم الصحراء فقام بحركة إصلاحية ودعوية في السودان الغربي ، وكانو ، وتنبكتو ، سنغاي ، ونيجيريا .. حركة إصلاحية لا يزال أثرها ساريا إلى اليوم في عُلماء وفقهاء ودعاة إفريقيا الغربيَّة والشَّرقيَّة ... وقد استُقبلتْ وفادة المغيلي في تلك البلاد الواقعة بين نهري السنغال والنيجر بحفاوة بالغة ، وقرَّبه أمراؤها وملوكها وجعلوه مستشارَهم الخاص ومرجعهم الفقهي الأعلى ، وكتب لهم رسائل ووصايا وفتاوى في أمور الحكم والدَّولة والسياسة الشَّرعيَّة ، منها " مجموعه في أمور الإمارة وسياسة الدَّولة " ، الَّتي ألَّفها لأمير " كانو " محمَّد بن يعقوب المعروف برمفت ، وهي الَّتي طبعت عدة مرات بعنوان " تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين" وتُرجمت إلى الإنجليزيَّة ، وصدرت آخر طبعاتها سنة 1994 م، عن دار ابن حزم بـ بيروت ، بتحقيق محمَّد خير رمضان يوسف ...
سلك الشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي مسلك أسلافه من عُلماء المسلمين الَّذين ألَّفوا كتبًا في نصح الملوك وإرشاد السَّلاطين ، مثل أبي بكر الطرطوشي في "سراج الملوك "، والماوردي في كتابه "نصيحة الملوك "، وكتابه المشهور "الأحكام السلطانية "، والغزالي في كتابه "التبر المسبوك في نصيحة الملوك "، وابن الأزرق الأندلسي في "بدائع السلك في طبائع الملك "، والحميدي في كتابه "الذهب المسبوك في وعظ الملوك" وغيرها ممَّا هو معروف ..
كتب الشيخ المغيلي للأمير رَمْفَا محمد بن يعقوب أمير منطقة " كانو " وصيَّة في "ما يجوز للحكَّام لردع النَّاس عن الحرام " ترجمها إلى الإنجليزيَّة ريتشار بلمر (R. Palmer) سنة 1914 م ، ثمَّ نشرها الألوري في كتابه " الإسلام في نيجيريا " ، وأدرجت في كتاب "ضياء السياسات" لعبدالله بن فودي الَّذي نشره الدكتور أحمد كاني سنة 1988م ... ثمَّ مكث الشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي مدَّة عند السلطان محمد بن أبي بكر التوري المعروف بالحاج أسكيا أمير مملكة سنغاي ، وألَّف له أجوبة عن أسئِلة كثيرة وجَّهها إليه ، وهي المجموعة الَّتي عُرفت باسم " أسئِلة أسكيا وأجوبة المغيلي" قام بتحقيقها الأستاذ عبدالقادر زبادية ، سلسلة ذخائر المغرب العربي ، فكانت الحُجَّة الشَّرعية الدَّامغة التي استعملها أسكيا في توطيد دعائم ملكه ومواجهة خصومه ، وله مؤلفات كثيرة تزيد عن الثلاثين ، في مجالات الفقه ، والتصوف ، والبيان والمنطق ، وتفسير القرآن ، والحديث الشريف ، والسياسة الشرعية للحُكّام ، وغير ذلك ، أذكر منها :
ـ البدر المنير في علوم التفسير.
-الأربعون المغيلية، أو أربعون حديثا.
-تفسير سورة الفاتحة.
-عمل اليوم والليلة.
- كتاب لُبّ اللُّباب في ردِّ الفكر إلى الصواب.
- مفتاح النظر في الحديث.
- إفهام الأنجال أحكام الآجال.
- إكليل المغني.
- إيضاح السبيل في بيوع آجال خليل.
- تأليف في المنهيات.
- حاشية على المختصر.
- شرح بيوع الآجال من ابن الحاجب
- مصباح الأرواح في أصول الفلاح
- مفتاح الكنوز.
- أجوبة أسئلة الأمير أسكيا للإمام المغيلي
- هدية المسترشدين ونصيحة المهتدين
- الرد على المعتزلة
- مناظرة المغيلي للسنوسي
- مجموعة من القصائد كالميمية على وزن البردة في مدح النبي صل الله عليه وسلّم ، نظمها وألقاها عند دخوله الروضة الشريفة، التي مطلعها :
بشـراك ياقلبُ هذا سيـد الأمـم *** وهذه حضرة المختـار في الحـرم
وهذه الـروضـة الغـراء ظاهرة *** وهذه القبة الخضـراء كالـعلـم ...
ولد فضيلة العالم ، الإمام المجدد ، الشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي سنة 1425 م في تلمسان ، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة على يد والده الشيخ العلاّمة عبدالكريم ، فقَرَّت به عين والده في الحفظ وضْط أحكام التِّلاوة ، ثم أخذ عنه مبادئ العربيَّة ، وقرأ عليه موطَّأ الإمام مالك ، وكتاب ابن الحاجب ، ثمَّ انتقل إلى الإمام الفقيه محمد بن أحمد بن عيسى المغيلي الشَّهير بالجلاب التلمساني فأخذ عنه التَّفسير وعلم القِراءات ، وختم عليه المدوَّنة مرَّتين ، ومختصر الشيخ خليل ، والفرائض من مختصر ابن الحاجب ، والرسالة ... وهكذا ظلَّ يتنقَّل بين العلماء تنقُّل النحل بين الزهور ليصنع منه شراب فيه شفاء للناس ، ولمَّا بلغ أشُدَّه ، وبلغ ثَّلاثين سنة ، توجَّه إلى العالم الحافظ المحدِّث الشيخ عبدالرَّحمن بن محمد بن أحمد بن عليّ بن يَحيى الحسني أبو يحيى التلمساني ، فأخذ عنه علم التَّفسير بجميع مدارسِه ، حتَّى صار علمًا من أعلام التَّفسير، فأجازه الشَّيخ في هذا العلم ، ثم توَجَّه تلقاء الإمام أبي الفضل التلمساني وهو الفقيه المشارك في علوم الأدب والطب والتصوُّف مِنْ أهل تلمسان ، فأخذ عنه جميع هذه الفنون والعلوم ، ثم ارتحل إلى بجاية ، فتلقى عن الشيخ أحمد بن إبراهيم البجائي ، والشيخ منصور بن علي بن عثمان أبو علي الزواوي المنجلاتي ، علومًا جمّة ، ولَم يكتفِ الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي بما تحصَّل عليه من علوم ومعارف في تلمسان وبجاية ، فتوجَّه تلقاء الجزائر ، فأخذ عن العالم الشهير ، والعلاّمة الكبير سيدي عبدالرحمن الثَّعالبي ، علوم التفسير والتصوف ، وعهد الطريقة القادرية ، وتزوج ابنته زينب ، وكانت للشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي اتصالات ومراسلات ولقاءات مع جل أعلام عصره نذكر منهم ، العلاَّمة قاسم بن سعيد بن محمد العقباني ، والعلامة محمد بن أحمد بن مرزوق ، والعالم الصوفي إبراهيم التازي ، والعلامة الفقيه محمَّد بن يحيى التّلمساني المعروف بابن الحابك ، والعلامة محمد بن أبي القاسم بن محمد بن يوسف بن عمرو بن شعيب السنوسي ، والعلامة أحمد بن زكري التلمساني ، والشيخ ابن مرزوق الكفيف ، والعالم أحمد ين يحيى الونشريسي ، وقد أفاد فائدة عظيمة من علومهم ونصحهم وإرشاداهم والتحاور معهم ، وكانت له مراسلات ومناظرات مع الإمام السيوطي ، نقلها ابن مريم في كتابه "البستان في ذِكر الأولياء والعلماء بتلمسان " ...
وفي رحلته إلى البقاع المقدَّسة ، كانت تُعقد له جلسات علم في كلّ من تونس وليبيا ومصر ومكة والمدينة ، فيدرس للناس ما شاء الله له أن يُدرس إلى أن انتهى من أداء فريضة الحجّ ، ثمَّ عاد ليستقرَّ بزاوية كنتة فقصده طلاَّب العلم والعلماء من كل فج عميق ، وبقِي وفيًّا لرسالته في التربية والتعليم ، والدَّعوة والإصلاح ، رغم كبر سنه وضعف بدنه إلى توفاه الأجل سنة 1504 م ودفن في زاوية كنتة بولاية أدرار، نسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضى والرضوان ، وأن يجعل مقامه في عليين مع الصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا ، وأمثال هؤلاء الشرفاء الأتقياء الأنقياء لا تكفيهم سطور تُكتب على عجل في زوايا النت وعلى نواصي الفيسبوك ... ولو راجع كُتَّاب السيناريوهات ، ومخرجو الأفلام والمسلسلات ، خصال أمثال هؤلاء العظماء لجعلوا من سيرهم العطرة قُدوات تُغني أبنائنا وبناتنا عن المسلسلات المدبلجة الوافدة إلينا من تركيا والبرازيل والمكسيك وكوريا الشمالية ... لكن يبدوا أن دولتنا ليس فيها وزارة إسمها وزارة الثقافة .