العالم والمؤرخ والفقيه فضيلة الشيخ عبدالرحمن الجيلالي رحمه الله
محمد رميلات

العالم والمؤرخ والفقيه فضيلة الشيخ عبدالرحمن الجيلالي رحمه الله

بقلم : محمد رميلات –

الشيخ عبدالرحمن الجيلالي الحسني العلوي الشريف ، رجل صالح ، ومرشد ناجح ، وواعظ ناصح ، وفقيه ذكي ، ومؤرخ ألمعي ، وأديب لوذعي ... في أخلاقه سَمْتُ العلماء ، وفي طبعه تواضع فطري لا تكلف فيه ولا تطبع ، ناهيك عن رحابة صدره ومثابرته وصبره واجتهاده في البحث والمطالعة والتأليف... وعلى الرغم من أنه تجاوز المئة من العمر إلا أنه ظل يتمتع بحيوية عجيبة ، وحضور عقلي واجتماعي متميز… إذا تحدث في تاريخ الجزائر توغل في تخومه البعيدة وأغواره السحيقة توغل العارف المحقق والمدقق ، وإذا تحدث في الفقه وجدته العالم بأصول الفقه المالكي وفروعه ، وإذا حاضر أو درس في الحديث ألفيته الخبير المتضلع بالمتن والسند والرواية وأحوال الرجال ، وإذا تكلم عن الأنساب وجدته النسّابة المتمكن الذي لا يضل ولا ينسى ، وإذا تحدث في الأدب وجدته العالم بمنثور القول ومنظومه ...

الشيخ عبدالرحمن الجيلالي رحمه الله سَيْلٌ عرم بالنشاط ، دَافِقٌ بالحيوية ، دآئب المثابرة والاجتهاد ، بل مؤسسة تربوية وتعليمية قائمة بذاتها ، وصاحب حزم وعزم ، ومن العلماء الذين قلمّا يجود الزمان بمثلهم ...

أَلَّفَ في تاريخ الجزائر بحقبه الثلاث ، كتابه الشهير " تاريخ الجزائر العام " وألف عن شيخه العلاّمة محمد بن أبي شنب كتابه الموسوم بـ ذكرى ابن أبي شنب ، كما ألف كتبًا أخرى أذكر منها تاريخ المدن الثلاث (الجزائر، المدية ، مليانة) ، ابن خلدون في الجزائر ، عملة الدولة الجزائرية في عهد الأمير عبد القادر ، الثقافة والحضارة والعمران بالجزائر ، المستشرقون الفرنسيون والحضارة الإسلامية ، عناصر الفقه المالكي ، الحج إلى بيت الله الحرام ، المساجد العريقة بالجزائر مطبوع في عدّة مجلدات ، الاستشراق الغربي والثقافة الإسلامية ، تاريخ الموسيقى العربية ، شرح كتاب الجوهر المرتب في العمل على الربع المجيب للشيخ المكي بن عزوز ... كما كتب مجموعة من النصوص الأدبية ، منها أعمال مسرحية ، مثل المولد ، والفجر ... مسرحية :«المولد» مُثلت عدة مرات ، وبُثت في الكثير من الإذاعات العربية ، والدولية في مصر، ولندن ، ونيويورك ، وباكستان ، وغيرها من البلدان ، وكتب مئات المقالات في عدة جرائد ومجلات أذكر منها النجاح ، والإقدام ، والبصائر، والشهاب ، وهنا الجزائر، والأصالة ، والثقافة ، والشعب...ولو جُمعت هذه المقالات لكانت سِفرًا عظيمًا في عدّة مجلدات ، ولو لا الخوف من الإطناب والتطويل لذكرت نموذجًا من مقالاته الماتعة التي لا تخلو من الخرائد والفوائد... دَرَّسَ الشيخ عبدالرحمن الجيلالي في مدرسة الشبيبة الإسلامية التي كان يديرها أمير الشعراء الجزائريين محمد العيد آل خليفة ...

وانبرى للخطابة ، وراح يتنقل بين الجامع الكبير ، والجامع الجديد ، ومسجد سيدي رمضان ، واعظًا يستنهض الهمم ، ومرشدًا يدّل على الطريق ، وخطيبًا يأز القلوب أزًا ويهزها هزًا ومفتيًا في كل عويصة تُعرض عليه ... وبعد ما انقلب الاحتلال الفرنسي مذمومًا مدحورًا ، وبعدما وضعت الحرب أوزارها ، وهلّت بشائر النصر على الجزائريين ، عُين الشيخ عبدالرحمن الجيلالي أستاذاً باحثاً بالمتحف الوطني للآثار بالجزائر، ثم أستاذاً للفقه المالكي بمعهد تكوين الأئمة بولاية البليدة فتخرج على يديه عشرات الأئمة والخطباء ، كما تولى تدريس مادة " مصطلح الحديث " بجامعة الجزائر سنة 1983م ، وكان عضواً بالمجلس الإسلامي الأعلى ، وعضوًا في لجنة الفتوى التي كان يشرف عليها الفقيه الكبير والعالم الشهير الشيخ أحمد حماني ، وعضو في الديوان الوطني لحقوق التأليف ، ولجان أخرى يطول سردها جميعًا ..

وكان له فضل السبق في نشأة وتنظيم هياكل نظارات وزارة الشؤون الدينية والأوقاف في العديد من ولايات الوطن... زار الشيخ رحمه الله جل الدول العربية مُحاضرًا ، ومدرسًا ، وألقى 14 محاضرة في 14 ملتقًا من متلقيات الفكر الإسلامي المنعقد بالجزائر أمام جمهور عريض من كبار أعلام ومشايخ الدول الإسلامية كلها بلا استثناء ، وكانت فرائص المثقفين ترتعد عند الوقوف أمام أكبر تجمع لعلماء المسلمين بمختلف مذاهبهم ومشاربهم ، لأن كل المحاضرات تُتبع بنقاشات من طراز عالٍ ...

ومنذ سنة 1940 ظل صوت الشيخ العاصمي الرخيم الأجش يتردد عبر أثير إذاعة الجزائر زهاء خمسين عامًا خلت ، من خلال برنامجه الشهير " رأي الدين في أسئلة المستمعين " وكانت الإذاعة في عصر الجيلالي إعلام ثقيل ، له تأثير وبيل ، ووقع جميل ، فنال بهذا البرنامج شهرة واسعة ، وصار الذي لا يعرف الشيخ عبدالرحمن الجيلالي تَجْزِمُ يقينًا أنه ليس بجزائري ... وما أكثر الأعمال الجليلة التي تنوء بحملها العصبة أولي القوة لكن قام بها الجيلالي وحملها وتحمّلها وجاء فيها بمناسك من البطولة ، ومآثر من المجد والفخر ...

الشيخ عبدالرحمن الجيلالي اهتدى واقتدى بجهابذة عظام ، ومشايخ أعلام ، تَلقى تكوينه على يديهم ، فزرعوا في نفسه طموح لا حدَّ له ، وهمّة تخرق السبع الطباق ... تتلمذ على يد العلاّمة الشهير عبدالحليم بن سماية ، والعالم الكبير أبوالقاسم الحفناوي ، والدكتور المحقق محمد أبوشنب وهو أول جزائري وعربي يحصل على شهادة الدكتوراه ، والفقيه النحوي محمد السعيد بن زكري الزواوي ، والشيخ المولود الزريبي الأزهري ... وغيرهم من الكواكب الدرية التي سطعت في سماء الجزائر ، فكيف لا يُثمر غراس هؤلاء الجهابذة بالخير والفضل ؟...

كُرّم الشيخ عبدالرحمن الجيلالي طيّب الله ثراه بجائزة الجزائر الأدبية الكبرى سنة 1960 ، وحظي سنة 1987 بوسام عالي القدر من الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد ، وفي 2003 وبتوصية من رئيس الجمهورية السابق السيد عبد العزيز بوتفليقة ، كُرّم الشيخ عبدالرحمن الجيلالي بشهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الجزائر ، سلّمها له الرئيس أمام حشد هائل من كبار علماء الجزائر ووزراء الدولة وإطاراتها السامية ، وفي سنة 2008 عندما سلخ الشيخ من عمره مئة عام بالتمام والكمال ، كرمته مؤسسة الشروق بجرائدها وقنواتها الفضائية في احتفال بهيج حضره عدد هام من العلماء والدكاترة والباحثين ...

ولما توفي الشيخ عن عمر ناهز المئة وثلاث سنين أحصوا مكتبته الخاصة فوجدوا بها 20 ألف كتاب منها زهاء 100 مخطوط نادر ، وهو ما ينم عن حرص الشيخ على المطالعة التي لم يفتر عنها بليل أو نهار إلى أن توفي رحمه الله في 10 نوفمبر سنة 2010 ، نسأل الله أن يتقبل صالح أعماله بقبول حسن ، وأن يجعل مثواه جنّات النعيم مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.