يوميّات العلامة الشّيخ ابن باديس

بقلم: عبد المالك حداد-

يتطلع طلبة العلم وأصحاب الهمم أن يتعرفوا دائماً إلى يوميّات العلماء والمصلحين الذين كان لهم أثر ودور في الأمّة أو كان لهم رسالة ومنهج في الإصلاح. والعلامة الشّيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- واحد من أولئك الأعلام الذين نذروا حياتهم لله، فكانت جهاداً ودعوة وعلماً، في ليلهم ونهارهم وأوقات راحتهم وحِلِّهم وترحالهم.

يتطلع طلبة العلم وأصحاب الهمم أن يتعرفوا دائماً إلى يوميّات العلماء والـمصلحين الذين كان لهم أثر ودور في الأمّة أو كان لهم رسالة ومنهج في الإصلاح. والعلاّمة الشّيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- واحد من أولئك الأعلام الذين نذروا حياتهم لله، فكانت جهاداً ودعوة وعلماً، في ليلهم ونهارهم وأوقات راحتهم وحِلِّهم وترحالهم.

فإذا أردنا أن نلقي أضواءاً على يوميّات الشّيخ ابن باديس، فإننا نسجل الحقائق الآتية:

كان يقضي سحابة نهاره وشطراً من ليله في خدمة العلم الدّيني واللّساني ونشره، وما كان إلا مدرساً متطوعاً منذ انتصابه للتَّعليم عام 1332 هـ/1914 م في الجامع الأخضر، يشرع في الدّرس الأوّل مباشرة بعد صلاة الصُّبح ويستمر في تخصيص درس أو درسين لكل طبقة من طبقات طلَّابه الأربع إلى أن يحين درس تعليم صغار الكَتَاتِيب القرآنية بعد خروجهم منها في آخر الصَّبِيحَة، يلقيه عليهم في كُتَّابين اثنين: سيدي فتح الله وسيدي عبد الـمؤمن. وكذلك الحال في دروس الـمساء تبتدئ بعد صلاة الظُّهر لطلَّابه إلى وقت تعليم الصغار بعد خروجهم من الكَتَاتِيب في آخر العَشِيَّة.

وكان من حبه -رحمه الله- لتَلامِذَتِه وشغفه بتربيتهم أنه يتولّى بنفسه دراسة الكتب العالية طَوَال السَّنة، يلقي يوميّاً على مختلف طبقات طلَّابه عشرة دروس أو أكثر، ولا تنقص حصة الدّرس من تسعة أدراج ولا تزيد على ساعة ونصف، وتشتمل الدروس العلمية على التّفسير للكتاب الحكيم وتجويده، وعلى الحديث الشّريف، وعلى الفقه في الـمختصر وغيره، وعلى العقائد الدّينيّة، وعلى الآداب والأخلاق الإسلاميّة، وعلى العربيّة بفنونها من نحو وصرف وبيان ولغة وأدب، وعلى الفنون العقلية كالـمنطق والحساب وغيرهما.. وكان يُولي التّاريخ والجغرافية عناية خاصة، رغم منع سلطة الاستعمار الفرنسي تدريس تاريخ الجزائر وجغرافية القطر، فقد حرص على تدريس هاتين الـمادتين على بعض تَلامِذَتِه مرّة كل أسبوع في آخر اللّيل، يوقظهم قُبْيَلَ الفجرِ ويسبقهم إلى الجامع الأخضر ليدرسهم في سُدَّته، لهذا الأمر نجد أنّه يقول: «اخترت هذا الوقت لأنه الوقت الذي تنام فيه الشّياطين (ويعني بالشّياطين الجواسيس) وتستيقظ الـملائكة (ويعني بذلك الطلبة)».

وما بين الـمَغْرِب والعِشَاء وقت يمضيه إما في غرفته بالجامع الأخضر يطالع ما ورد عليه في البريد، أو يحرر الرسائل والـمقالات، أو يطالع الكتب والصحف والـمجلات، أو يستقبل بعض الزوار، وإما في اجتماعات الجمعيات والنوادي.
وبعد صلاة العِشَاء يتفرغ لدرس تفسير القرآن الكريم بالجامع الأخضر حيث يكتظ الجامع ودرجاته وسُدَّته بالـمقبلين على الدرس من جميع فئات النّاس كل ليلة ما عدا يوم العطلة الأسبوعية، الطلبة في الصفوف الأولى وبقية الجماهير خلفهم. وقد لبث الشّيخ ابن باديس يقرئ درس التَّفسير مدّة 25 عاماً إلى أن ختمه يوم الأحد 14 ربيع الآخر 1357 ﻫ/12 جوان 1938 م، وأقيم له احتفال عظيم في اليوم الـموالي بكلية الشعب في قُسَنطينة، شهدته جماهير كبيرة من كل أنحاء الوطن. كما ختم شرح الـموطأ تدريسا في مدة مقاربة لذلك، وأقيم له احتفال بمدرسة التربية والتعليم لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر 1358 ﻫ/1 جوان 1939 م.

ينصرف الشّيخ ابن باديس بعد درس التفسير إلى إدارة الـمطبعة الجزائريّة الإسلاميّة التي أسسها عام 1343 ه/1925 م، لـمتابعة تحضيرات إصداراته في عالم الصحافة التي بدأها بصحيفة الـمنتقد ثم مجلّة الشّهاب أو يحرر الـمقالات الصّحفيّة، وكذلك الأمر بالنسبة لصحف جمعيّة العلماء الـمسلمين الجزائرييّن الـمتوالية (السّنّة الـمحمّدية والشّريعة الـمطهّرة والصّراط السّويّ والبصائر). ومن وقت لآخر كان يلبي الدعوات التي تنهال عليه لحضور الأمسيات الدّينيّة والـمُناسبات الـمختلفة، وقبل العودة إلى البيت يتفقد كل يوم طلبته بمقر مبيتهم ويجتمع بهم ويلقي عليهم نصائح وإرشادات ووصايا دينيّة.

هكذا دواليك كل يوم لا يتوقف الشّيخ ابن باديس عن النشاط إلا لفترة قصيرة ليتناول يسيرا من طعامه الذي لا يزيد عن الكسرة واللَّبن وفنجان قهوة يومياً، فكان لا يسمح لنفسه التمتع بالطعام وطلبته يَسِيغُونَ الخبز (شيء طفيف من الإعانة مما يعطيه بعض النّاس الـمحسنين من الزكاة) بالزيت وقد يأكله بعضهم بالـماء. لا يأبه بالـمرض الذي استأثر بجسده النّحِيل، ولا يسمع إلى أقوال الأطباء إلا قليلاً ولطالـما وصفوا له الدواء، فإذا بالأيام تمر تباعاً، والدواء عند رأسه باقياً على حاله. لا ينام من اللّيل إلا قليلاً، يطفئ سراجه في السّاعة الثّانية صباحاً، ويوقده في الرّابعة، وهذا جلُّ نومه طوال أيّام السّنة، وربما يمضي عليه اللّيل كله وهو يفكر في حال الأمّة، لقوله لطلّابه: «كيف يحلو لنا النّوم والشّعب الجزائري غارق في الجهل والأميّة والفقر؟ فليس من حقّنا أن ننام».

لقد ظل الشّيخ ابن باديس مجاهدا في تعليم الأمّة، يبذل وقته وصحته، لا يعرف الراحة، فبرنامجه اليومي عامرا، وترتيباته الأسبوعية مكتضة، يخص النساء بدرس بالجامع الأخضر بعد العَصر من يوم الجمعة، ويلقي درساً كل يوم أحد للشبان والعمال في جمعيّة التربيّة والتعليّم الإسلاميّة (على جماعة منهم في الساعة العاشرة نهارًا وعلى جماعة أخرى في الساعة الثامنة ليلاً حتى يعم من يتفرغون له باللّيل وبالنّهار)، وكان كثير السفر أيام الراحة الأسبوعية والصيفية إلى مدينة الجزائر لاجتماعات جمعيّة العلماء الـمسلمين الجزائرييّن، ويزور بعض الـمدن الأخرى للوعظ والإرشاد أو لـمتابعة أعمال جمعيّة العلماء والإشراف على حركة التّعليم. وفي شهر رمضان يُضنه الصيام في الـمساء وترهقه الدروس العديدة التي يقدمها في النّهار لـمئات التّلاميذ ويضيف درساً في شرح صحيح البخاري قُبْيَلَ صلاة الظُّهر حرصاً على إفادة العامة والطلاب كل يوم ما عدا يوم العطلة الأسبوعية.

هذه شذرات من يوميّات العلاّمة الشّيخ ابن باديس، هذا الرجل العظيم بأكمل ما تعطيه هذه الكلمة من معنى. فمنذ بروز نجمه لم يكن الاستعمار الفرنسي غافلا عن عمله، ولا جاهلا بآثاره، وهو ما تبينه تقارير صنفت أغلبها في خانة «سري» صادرة عن الدائرة الـمركزية للاستعلامات العامة، والشرطة الخاصة لعمالة قُسَنطينة، والإقامة العامة بتونس والـمغرب، تستعرض تفاصيل كثير عن الشّيخ ابن باديس، الذي كان تحت الرقابة وتتبع الـمخبريين منذ سنة 1340 ﻫ/1921 م (لم يسع الاستعمار مراقبته منذ بداية حركته العلمية بسبب اشتعال الحرب العالـمية الأولى) حيث رصدوا تحركاته في قُسَنطينة، وزياراته في الجزائر وفي تونس، ونقلوا أخبار نشاطاته ودروسه واجتماعاته بدقة وتفصيل، ومتابعة دقيقة لبريده وكتاباته وخطاباته واتصالاته ومضامين كل ذلك، بل حتى علاقاته الأسرية خاصة بوالده. كما سلطت بعض التقارير الضوء على مرضه الـمفاجئ ووفاته في 9 ربيع الأوّل 1359 ﻫ/16 أبريل 1940 م، وصدى الفاجعة في قُسَنطينة وأرجاء الوطن، وفي تونس والـمغرب، وذكرت أعماله وآثاره في الأمّة، ولعل أهمها ما جاء في تقرير محافظ الشرطة ج. ﭬودفرين الـمؤرخ في 24 جانفي 1958 م (أربعة عشر عاماً بعد وفاته) والذي جاء استكمالا لـملف ابن باديس وتقرير الدائرة الـمركزية للاستعلامات العامة حول جمعيّة العلماء الـمسلمين الجزائرييّن الـمؤرخ في 26 أكتوبر 1955 م، أن ابن باديس «واحد من دعاة التمرد والوطنية الجزائرية، وأن تأثيره الحقيقي يظهر بوضوح في عقيدة جبهة التحرير الوطني، ونتائج تعليمه وعقيدته: شكل غالبية تلامذته كبار الـمتمردين، الذين يشنون ضد فرنسا "الحرب الـمقدسة" باسم استقلال الجزائر».

وعلى أثر هذا التقرير أرسل قائدة الشرطة، رئيس دائرة الاستعلامات العامة بقُسَنطينة مذكرة استعلامات بالسيرة الذاتية لابن باديس مؤرخة في 28 جانفي 1958 م إلى السادة محافظي الشرطة، رؤساء دوائر الاستعلامات العامة في سطيف وباتنة ورؤساء فرقة الاستعلامات العامة بسكيكدة وبجاية وبسكرة، تضمنت معلومات مختلفة أبرزها «وجب اعتباره الأب الروحي لحركة التمرد في 1945 و1954 وملهم عقيدة جبهة التحرير الوطني».

- اعتمدنا في كتابة البرنامج اليومي للشّيخ ابن باديس على ما كتبه بنفسه عن بعض نشاطاته.. شهادات الشيخ مُحَمَّد البشير الإبراهيمي، الدكتور مُحَمَّد الصالح بن جلول، أحمد توفيق المدني، أخوه عبد الحق بن باديس، حارسه العربي جلواط، ما ذكره بعض تلامذته الشيوخ: عمّار مطاطلة، مُحَمَّد الصالح بن عتيق، محمد الصالح رمضان، أحمد حماني، محمد الأكحل شرفاء. وأيضا ما نقله محمد الصالح الصديق.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.