البعد الإنساني في الفكر الباديسي

بقلم: محمد العلمي السائحي-

لقد وقر في ذهن الكثيرين من الناس أن العالم الديني بحكم تخصصه ذلك، لا يملك إلا أن يكون متعصبا، وتلك فكرة خاطئة لسببين اثنين هما:

1- أن الدين الحق يدعو بالضرورة إلى احترام الإنسان كإنسان

2- أن العالم الديني الحق متفتح الذهن فلا يرى في اختلاف الألوان والألسنة سببا للخلاف، بل يرى فيه تجليا لقدرة الخالق وإعجازه.

فهذا محي الدين بن عربي الصوفي المشهور يقول

قد كنت قبل اليوم ألوم صاحبي *** إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صار قلبي قابلا كل  صورة***فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف ***وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين يدين الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني

وهذا الانفتاح على الآخر وتقبله كيفما كان، ما تأتى لهذا الصوفي الجليل، إلا بعد تمكنه من الدين، وتضلعه في العلم، والمعروف المشهور أن كل من ازداد علما ازداد تواضعا، فكان ذلك سببا لاتصاله بالآخر والتعرف عليه، والاقتراب منه، والتعامل معه في إطار من الاحترام المتبادل.

والشيخ عبد الحميد بن باديس، رحمة الله عليه، هو من هذا الصنف من العلماء، الذين فتح العلم أعينهم، وأرهف الدين مشاعرهم، وأنار عقولهم، ففاضوا حنانا وعطفا على الإنسانية، وحملوا بكل مسؤولية همها، ودافعوا عنها دفاع الأبطال، باستماتة ودون هوادة، فهو بسبب كراهيته لما وقع فيه شعبه من بؤس وتعاسة وشقاء، بسبب الاحتلال الفرنسي لوطنه سنة 1830، كره للإنسانية أن يصيبها مثل ذلك، فها هو يقول في محاضرة ألقاها في جمعية التربية والتعليم الإسلامية تحت عنوان: "لمن أعيش"؟ نشرتها له الشهاب في ج10م 12 في غرة شوال 1355هـ- جانفي 1937م. ص 112.

»فلما عرفنا هذا وأكثر من هذا في الإسلام – وهو الدين الذي فطرنا عليه الله بفضله – علمنا أنه دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولا سعادة إلا به، وأن خدمتها لا تكون إلا على أصوله، وأن إيصال النفع إليها لا يكون إلا من طريقه، فعاهدنا الله على أن نقف حياتنا على خدمته ونشر هدايته، وخدمة كل ما هو بسبيله ومن ناحيته، فإذا عشت له فإني أعيش للإنسانية لخيرها وسعادتها، في جميع أجناسها وأوطانها، وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها، وما كنا لنكون هكذا إلا بالإسلام الذين ندين به ونعيش له ونعمل من أجله.

فهذا – أيها الإخوان – معنى قوله: " إنني أعيش للإسلام«

»أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض على تلك الروابط لأجله – كجزء منه- فروضا خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة، وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملا وجدتني في حاجة إليه، إلى رجاله وإلى ماله وإلى حاله وإلى آلامه، كذلك أجدني إذا عملت قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه«.
» 
هكذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال، وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بد أن يجد نفسه مع وطنه في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال«.
»
نعم إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا هي دائما منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لابد أن نكون قد خدمناها، وأوصلنا إليها النفع والخير من طريق خدمتنا لوطننا الخاص«.

»وأقرب هذه الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ما هما  إلا وطن واحد لغة وعقيدة وآدابا وأخلاقا وتاريخا ومصلحة، ثم الوطن العربي والإسلامي ثم وطن الإنسانية العام. ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر، وما مثلنا في وطننا الخاص – وكل ذي وطن خاص – إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة، فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية واحدة، ومن ضيع بيته فهو لما سواه أضيع، وبقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، وبقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحط

»فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للإضرار بسواها – معاذ الله– ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطان الأقرب فالأقرب.

هذا – أيها الإخوان – وقد فهمتموني وعرفتم سمو فكرة العيش للإسلام والجزائر فهل تعيشون مثلي للإسلام والجزائر؟

نعم ، نعم بصوت واحد.

فلنقل كلنا: ليحيا الإسلام، لتحيا الجزائر« 

فهو إذن ما اختار خدمة الإسلام والجزائر إلا لأن في ذلك خدمة للإنسانية جمعاء.

ويؤكد هذا البعد الإنساني في فكره، ما نقله له موقع الشهاب للإعلام، فها هو يقول:

»إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلا، ونحب وطننا ونعتبره منها جزءا، ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها، ونبغض من يبغضها ويظلمها، وبالأحرى نحب من يحب وطننا ويخدمه، ونبغض من يبغضه ويظلمه، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائري تحبيب بنيه فيه، ونخلص لكل من يخلص له، ونناوئ كل يناوئه من بنيه ومن غير بنيه«.

ومما ينفي عنه التعصب والانغلاق أنه كان يشجع على الاحتكاك بالغرب، والاستفادة منه، فها هو يقول في مقال نشرته له الشهاب في ج16 في 12 شعبان 1344 ، 25 فبراير 1925:

»فإذا أردنا اليوم أن نقتبس منهم كما اقتبسوا منا ونأخذ عنهم كما أخذوا منا، فعلينا أن نخالطهم، ونخالطهم في ديارهم، حيث مظاهر مدينتهم الفخمة، في مؤسساتهم العلمية، والصناعية، والتجارية، في أحزابهم على اختلاف مبادئها، في جمعياتهم على اختلاف غاياتها، في عظمائهم أصحاب الأدمغة الكبيرة التي تمسك بدفة السياسة، وتدير لولب التجارة، وتسير سفينة العلم، فالذين يخالطونهم هذه المخالطة، بتمام تبصر وحسن واستفادة، يخدمون أنفسهم وأمتهم خدمة لا تقدر، خدمة تكون أساسا للتقدم والرقي... «.

وبهذا يثبت أن ابن باديس – رحمه الله – لم يخلو فكره من البعد الإنساني قط، بل أولاه عنايته وآثره باهتمامه، شأنه في ذلك شأن كل عالم فاضل، يرى أن الحياة لا تستقيم على هذا الكوكب الفسيح، إلا بالتآلف والتحاب، الذي يثمر التكامل والتعاون، فالتكافل الذي يفضي إلى السعادة الحقة، تلك السعادة التي ظلت تحلم الإنسانية ببلوغها، وعساها تدركها يوما ما...


آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.