ابن باديس الصنهاجي والقومية العربية

بقلم: الطيب آيت حمودة

لا يمكن لجاحد أن ينكر جهد الرجل الديني والتنويري والتربوي والسياسي، فهو رجل نهضوي متمرس، يعتقد مخلصا بأن وحدة اللسان مكون أساس للأمة ، خدم وطنه الجزائر بجمعيته بالطريقة التي يراها مجدية ، وبالأسلوب الذي يروقه ويعجبه وفق اجتهاده الديني ، والاجتهاد مبعث غبطة ورحابة صدر خاصة عند الحوج إليه ، وحتى لا نكون مغالين في ذكر إجادات المصلح بجمعية علمائه ورجالته ،إذ لا بد من (نقد) أقوال الرجل وشلته وليس انتقادها أو النيل من جهدها ونضالها ، وإنما لا يعد و سوى اختلاف في الرأي ، والإختلاف رحمة من رحمات الرحمن الرحيم .وذاك ايمان مني بأن العمل الفكري عندما يوضع بين يدي القراء، فإنهم يصبحون شركاء لذلك الفكر في ملكيته .

الحقيقة الساطعة أن الإلمام بجهد الرجل وخدمته لدينه ووطنه وأمته لا يتسع له المقام، وهو غني عن البيان ، تناوله الكثير من الكتاب والمفكرين بإسهاب ، وما وددت الحديث عنه هو نظرة ابن باديس للأمازيغية من خلال بعض أقواله و مقالاته المنشورة .

ابن باديس بين الأصل والإنتساب :

كثيرا ما يذيل ابن باديس رحمه الله مقالاته باسم ( الصنهاجي ) وهو اعتراف ضمني بأرومته الأمازيغية باعتباره سليلا لآل صنهاج ذات الآثالة والعراقة في التاريخ بدولتهم العتيدة ( الدولة الصنهاجي ) ،غير أنه لم يعط للأمازيغية قدر عطائه للعروبة ، فلم يمنحها سوى شرف الإنتساب الباهت لها ، فقد كان (عروبيا ) حتى النخاع منتسبا للعرب خادما لأجدنتها وأدلجتها وجر المغارب وراء فكره جرا لغايات يعلمها هو أكثر من غيره .

كثير من البُحاث والدارسين تناولوا انتاج ابن باديس كظاهرة جزائرية مغاربية ، وكثر اللغط حول سلفيته من عدمها ، وأشادوا بموقفه من العروبة والإسلام ، واتخذ القوميون العرب نشيده الذي فيه ( ... وإلى العروبة ننتسب ) مشدا وحبلا متينا ومطية للتمكين للعروبة في الجزائر وشمال افريقيا بعمومها .

وكجزائري أمازيغي مسلم ، لم أستسغ فكر ابن باديس في مسألة العروبة التي ملأ بها الدنى طيلة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن ا لماضي ، ولا زالت آثارها باقية في الوجدان ، فالعروبة التي ينشُدها هي (عروبة حضارية لسانية ) وليست عرقية ، غير أن العروبة بهلاميتها وقابليتها للتلون والتشكل تحولت إلى هوية قاتلة !! لأنها عروبة قابلة للتشظي والتحول تبعا لرغبة مستخدميها، وكثيرا ما توظف بمعناها العرقي السُّلالي رغم جسامة الإثم في تحول الأنساب.

فالعروبة بُعثت من مرقدها أيام الشريف حسين ، ولورانس العرب ،في حربهما ضد العثمانيين، وهي من نواتج التواصل المشرقي الأوروبي أيام حملة نابليون ، والتي ترسخت بجهود الألباني الأمي (محمد علي) بإرسالاته نحو الغرب ، فكان التلاقح الفكري المَوَلّدُ ل/ ( القومية العربية ) أُسوة بالقوميات الغربية من فرنسية وألمانية ، و إيطالية ، زادهها جُهد محمد عبده والكواكبي والأفغاني وهجًا واتساعًا ،وهم الثلاثة الذين كانوا قنطرة لعبور العلمانية لبلاد الإسلام... أما قبلها فلم تكن مشكلة القومية ذات بال ، فكل المغارب مسلمين وبلادهم تعرف في كتب التراث ببلاد الأمازيغ ، أو بلاد المغارب أوالمغاربة ، أو المغرب الإسلامي ، فكان الأمازيغ من الأوائل الذين ضحوا بقوميتهم الأمازيغية في السر والعلن استجابة لقوله ( أكرمكم عند الله أتقاكم ) .

ابن باديس وانتحال النسب العربي ....

ابن باديس متيم بتاريخ العرب [1] ، مبرز لمآثرهم وعنفوانهم ، فقد لا يُلام على ذكر مناقبهم في الإسلام ، أما أن يتغنى (بعاد وثمود ) أو الذين (إذا بطشوا بطشوا جبارين) من العرب البائدة فأمرٌ لا يستقيم ، فهو متأثر فعلا وقولا بمدرسة ( محمد عبدو ) الإصلاحية ، اعتقاده متجذر بأن العرب والإسلام شيء واحد لا يجوز الفصل بينهما ، وذاك بهتان وخداع في اقتران القوم العربي بالإسلام ، أو يجعل من الإسلام ملكية عربية ، أو أنه صورة من صور العرب ، وإذا شئت فقل بأن ( الإسلام داخل جبة العروبة ) ، بنفس تفكير ( ابن عربي المتصوف ) الذي اعتقد بأن الله داخل عباءته ، ومن داخل جبته غير (هو ) ؟ فهو الله إذن ، أو أن الإسلام ( مقوم من مقومات العروبة ) ، فتقديرالمصلح الجزائري هو لكي تكون مسلما يجب أن تكون عربيا ، وهي طروحات سلفية أحيانا وحضارية تاريخية أخرى ، أو أنها طرح مؤدلج في أبعد تقدير وضحه بجلاء المفكرالإسلامي المصري (محمد عمارة ) في كتابه : التيارالقومي الإسلامي ، وهو طرح مطابق لمآلات مبتغى المنظر ميشيل عفلق النصراني وأتباعه من مسيحي الشام ومصر ، فأنا مستغرب من قول ابن باديس بشأن انتساب الجزائريين للعروبة لأمرين ، أولهما أن الفكر القومي لا يتطابق تماما مع الإسلام فكثير من علمائه استنكروا القوميات بما فيها العربية وعدوها كفرا بواحا ( فمن يبتغي عزا في غير الإسلام أذله الله)، وثانيها أن الإسلام ُيحرم النحول وادعاء الإنتساب للغير في آية صريحة ( أدعوهم لأبائهم...) وهي الآية التي استرجع بها ( زيدٌ ) حارثيتهُ ، فما لا يجوز على مستوى الفرد، لا يجوز قياسا على مستوى الجماعة ؟؟؟؟ فكيف أن الله حرم انتساب زيد لمحمد ، ويرضى بانتساب الأمازيغ للعرب؟ دون الخوض في الأحاديث الدالة على تحريم الإنتساب للغير .

ابن باديس ورجالات جمعيته أساؤوا للأمازيغية ...

عروبية ابن باديس ليست مبتدعة ، بل هي راسخة في أقواله وإرثه ، وقد أشار إليها محمد الميلي في كتابه ( ابن باديس وعروبة الجزائر ) وهو الذي صرح قائلا : ( لما زرت المدينة المنورة واتصلت فيها بشيخي حمدان لونيسي المهاجر الجزائري، وشيخي حسين أحمد الهندي ، أشارعلي الأول بالهجرة إلى المدينة وقطع كل علاقة لي بالوطن، وأشار علي الثاني ،وكان محقا ، بالعودة إلى الوطن بقصد خدمته فنحن لا نهاجر، نحن (حراس الإسلام ، والعربية ،والقومية ! في هذا الوطن)، فمهما كانت القومية التي ينشدها ابن باديس فهي مستهجنة لأنها سبيل لتأجيج الفكر القومي عند المسلمين ، ويبدو أنه متأثر أيما تأثر بالقومية الفرنسية وبفكر (المدرسة اليعقوبية الفرنسية) التي تقتل التنوع لتحقيق الوحدة السياسية ، فهو فكر شمولي هدفه تنميط وتأحيد من أجل بناء وحدة ؟؟! وهو الشيء الذي برز جليا في مقاله المعنون ( كيف أصبحت الجزائر عربية)، وما يبين مسار الجمعية ونهجها المضاد لكل ماهو أصيل في هذه البلاد ما بدر من أحد أفذاذ الجمعية وعلمائها، محمد البشير الإبراهيمي في مقاله العنصري بمناسبة التقاطه للقناة الإذاعية الثانية الناطقة بالقبائلية الأمازيغية قائلا :[..ما هذه النغمة الناشزة التي تصك الأسماع حينا بعد حين، والتي لا تظهر إلا في نوبات من جنون الاستعمار ؟ ما هذه النغمة السمجة التي ارتفعت قبل سنين في راديو الجزائر بإذاعة الأغاني القبائلية، و إذاعة الأخبار باللسان القبائلي، ثم ارتفعت قبل أسابيع من قاعة المجلس الجزائري بلزوم مترجم للقبائلية في مقابلة مترجم للعربية ؟ ....أكل هذا إنصاف للقبائلية و إكرام لأهلها واعتراف بحقها في الحياة و بأصالتها في الوطن ؟ كلا، إنه تدجيل سياسي على طائفة من هذه الأمة، و مكر استعماري بطائفة أخرى، و تفرقة شنيعة بينهما و سخرية عميقة بهما.... ] وأشياء أخرى يمكن الرجوع إليها في مقاله (اللغة العربية في الجزائر "عقيلة حرة، ليس لها ضرّة) ، لا أدري بما يُفسر هذا الموقف الناشر ، الذي لا يعبر صاحبه على مركزية نابذة للتنوع ، فهو يريد وأد لسان قوم الله خالقه ُ ، حافظت عليه الأمهات و الجدات على مدار الثلاثة والثلاثين قرنا من المقاومة والنضال ، دون وجود مدرسة ولا سند سياسي متكفل .

ومما حيرني وحير الكثير من أمثالي ، ما قاله ابن باديس في تأبينيته ( لأبي الأتراك) [2] وما أشار إليه من مديح وتقدير وإعجاب قد يكون التقريظ سابقه أيام إسقاطه الخلافة نكاية في منتقدي الكمالية ، على خلاف علماء الأمة الذين قدحوا فيه قدحا باعتباره مقص لشريعة الإسلام ، بنهجه العلماني وتقويضه لأركان الخلافة الإسلامية ، فقال فيه ابن باديس [ ... فقد ترجم القرآن لأمتّه التّركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه، وتستقيه من نبعه، ومكّنها من إقامة شعائره ،فكانت مظاهر الإسلام في مساجده ومَوَاسِمه تتزايد في الظّهور عاما بعد عام حتّى كان المظهر الإسلامي العظيم يوم دفنه والصّلاة عليه تغمّده اللّه برحمته ] .

إن ما قاله عن عظمة الأتراك وأحقيتهم في وطنهم ولسانهم ، ينطبق بالتمام والكمال على أبناء جلدته من أبناء مازيغ ، فهم بحاجة إلى فهم دينهم الإسلامي بلغتهم ، ولكنه فسر الأمر لصالح قومية ليست قوميته ، وكان له كيل مطفف ؟؟ دون أن يعلم بأ ن ما صلُحَ للعرب و الأتراك والفرس يصلحُ للأمازيغ ، فالإسلام في جوهره يصححُ العقيدة ولا يحارب الألسن ولا يجتث الأصول .

عندما يتحول النبي محمد إلى مسجب للقومية ؟

في مقال له بعنوان (محمد رجل القومية العربية )[3] يرى فيه بأن تدرج النبي محمد في دعوته من الأقربين إلى عشيرته ، إلى قبائل قومه من هاشم ولؤي وطي ومرة وآل عبد شمس .... ، فكان أول الإصلاح متوجها إليهم ومعنيا بهم ،حتى يُنتشلوا من وهدة جهلهم وضلالهم وسوء حالهم ،وتستنير عقولهم وتتطهر نفوسهم وتستقيم أعمالهم ،فيصلحوا لتبليغ دين الله وهدى رسوله...

وأقتبس لكم هذه الأفكار التي لازمته في المقال منها :

1) وإنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه.

2) العرب رشحوا لهدية الأمم التي تدين بالإسلام.

3) فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوبها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد : ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان وشهدت ما بينهما من اختلاف نظر وتباين قصد وتباعد تفكير، ثم وضعت شاميا وجزائريا – مثلا – ينطقان باللسان العربي ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم .

4) من تكلم بالعربية فهو عربي.

5) "لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب"، نعم لأنهم فتحوا فتح هداية لا فتح استعمار، وجاءوا دعاة سعادة لا طغاة استعباد.

6) هذا هو رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه ونخدم القومية العربية خدمته، وتوجهها توجيهه، ونحيا ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون... وخدع المخادعون... واضطرب المضطربون .

من خلال قراءتي لمقال ابن باديس اتضح لي بأن ابن باديس خُدر بالفكر العربي ، فهو يعتقد جازما بأن أمته الأصليه الأمازيغية الضعيفة ، يجب أن تندمج في الأمة العربية القوية بانسلاخها من مقوماتها ومميزاتها فتنعدم من ا لوجود . وإما إذا حافظ الضعيف على مقوماته ومميزاته فيؤول أمره - ولا بد - إلى الانفصال [4] . ولا غرو أن ميشيل عفلق المسيحي الذي هو منظر القومية العربية وواحد من جهابذتها قد استفاد كثيرا من نهج ابن باديس العروبي ،فهو صنوه إشادة بدور النبي محمد في انبناء قومية العرب ؟؟؟ وهو ما استغله محمد عمارة في كتابه ( التيار القومي الإسلامي ) كما أسلفت .

فالخلاف هو في أنني أنظر للعرب من منظور محلي جزائري خارج إطار العروبة وحيزهم الإثني ، وأعتقد مثله بأن العرب هو إخوة في الوطن الدين واللغة والتاريخ بحلوه ومره ، غير أنهم مطالبون بأخذ مقعد مريح إلى جانب إ خوانهم المسلمين (العجم ) من (ترك ) (وبنغال ) (وأفغان ) ( وفرس )( وأمازيغ )..... وغيرهم من البيضان والسودان ، ومن غير تفاضل داخل خيمة الإسلام ، فنبينا محمد صلوات الله عليه وسلم لم يكن من دعاة القومية أصلا ، لأن الإسلام أممي في جوهره يخاطب المؤمنين وليس العرب ، فهو الذي استبدل العصبية الجاهلة بأخوة الإيمان ، والإسلام لا يحارب لغات الأقوام المؤمنة ، ولا ينزع من هويتها - التي تتطابق مع الدين- شيئا ، وهو الذي خلقنا شعوبا وقبائل للتعارف ، غير أن مُصلحنا رحمه الله ينظر للعرب كأنه من جنسهم ، فهو يُحدثنا كأنه من أصول نجدية حميرية ، مدافع عن عروبته متنكر لأمازيغيته التي لم يعطيها سوى الإنتساب الشكلي ، كما أن عروبته اللسانية ليست قويمة ، فلا يُعقل أن نصف كل ناعق بالعربية بالعربي ، فالعروبة رابطة دموية أكثر منها رابطة لسانية دينية ، فكثير من الأقوام وإن كانت ناطقة بالعربية حافظت على جنسيتها الأصلية كالفرس ، فمهما حاولنا أن نكون عربا فلن نقدر ، لأننا بربر بأثنية أسبق من العرب ، وأصلنا لا نقدر على اختياره فهو واقعة موضوعية خارجة عن إرادتنا مرتبطة بأصلنا وماضينا الذي حاول الطامسون محوه من الذاكرة الجماعية للأمة . أما الإستشهاد بقول المستشرق (غوستاف لوبون ) "لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب"، نعم لأنهم فتحوا فتح هداية لا فتح استعمار، وجاءوا دعاة سعادة لا طغاة استعباد.، فذاك يدل عن عوز في القراءة التاريخية ، أو قراءته قراءة أحادية الطرف فلو نقب شيخنا في كتب التراث عن مواضع الزلل في عمليات التوسع الإسلامي لوافق ما ورد في كتاب ( الغزو العربي لشمال افريقيا بين نبالة النص ودناءة الممارسة ) [ 5] ولو قرأ بتمعن ما كتبه واحد من شلته (مبارك الميلي ) في كتابه تاريخ الجزائر القديم والحديث واصفا المد الإسلامي بالغزو العربي لغيَّر موقفه مما قال ، ولعل في مقولة إمامنا رغبة في استحداث توافق مصطنع على حساب أبناء جلدته ، سبيله السكوت عن الفواجع ، وتغليب الوجه المضيء على المظلم ، غير أن الجروح لا تندمل إلابعد تعريتها ونزع السقيم منها ، فإذا كانت الوحدة واجبة وضرورية فلنتحد وفق ما نحن عليه من اختلاف ، فالإختلاف والتنوع هبة ربانية يجب قبولها ، وأمم اليوم ديدنُها التنوع في كل شيء ، فأنا ناطق بالعربية ليس لأنني عربي ،وإنما لحاجتي إليها في فهم ديني من مصدره الأساس (القرآن ) ، فولا الإسلام لطور الأجداد لغتهم الأم ، ولختاروا لغات أكثر ابداعا وتألقا وعالمية من العربية .

هذه العروبة التي نسختها ... مبارة في كرة قدم ؟

كم تمنينا أن نساير الطرح القومي العربي الحديث بنبرته الشمولية المقصية لكل تنوع ، فكنا عربا رغبة أو رهبة ، بالإنتساب الطوعي من باب مولى القوم منهم ، أو رهبة لأن المتسيس والحاكم يؤيدان الطرح عن دراية أو سذاجة ، غير أن فهوم الناس تبدلت وأفصحت عن مكنوناتها استنقاصا لمعتقدات مؤدلجة صيغت في بدايات القرن العشرين ، هذا الزمن وصفه مالك ابن نبي بأنه زمن ( العفن ) فهو يرى نفسه منتميا إلى الجيل السيء ، ويرى بأن العفن على نوعين (استعمار) (وقابلية للإستعمار ) ، وهو الذي وصف نفسه ( بالنحلة المتخمة ) مصدر تخمتها ليس رحيق الزهور ، وإنما هو خلاصة مركزة لما يختلج في نفسه من فكر إسلامي ثوري ، فهو بموقف مزدر من مشاركة الوفد الجزائري في المؤتمر الإسلامي 1936 ، الذي يتقدمه بن جلول رفقة (بن باديس والبشير الإبراهيمي والطيب العقبي) ، حيث أدرك من يومها أن لا خير يرجى من الأزهر والزيتونة وكلية الجزائر ... ، وقد كبر أربعا على (العلماء ) وأقام عليهم الحداد منذ ذلك العام ، واعتبرهم أ عجز من فهم فكرة ، ناهيك عن تصورها وتنفيذها .

فالعروبة التي ينشدها ابن باديس لا يقبلها عرب الجزيرة الذين يشغلون مركز القومية ، والباقي تبع في فلكهم يدورون ( عرب الهوامش ) ، فالقضية هي أننا لا نُحسب عربا لرغبة منا ، و إنما بقبول الطرف المركزي انتماءنا إليه ، وهذا المركز الهوياتي لا يقبل الندية ، فهو ينظر إلينا نظرة توجس وازدراء ، فنحن عرب عند الحاجة إلينا ، (وبربر النيغاس) عندما تختفي تلك الحاجة ، وقد برهنت مواقف كثيرة عند ذلك منها ما وقع من تلاسن وتنابز ، وما سال من حبر بين (المشارق والمغارب ) بسبب فوز كروي للبربر ؟؟؟!!! ، حيث أدركنا بعد الفاجعة بحقيقتين : أولهما أننا أمازيغ شئنا أم أبينا ،وليس لنا اختيار في ذلك - أخذنا برأي ابن باديس أم أبينا - ، وثانيها أن اجتهادنا وابداعات أجدادنا داخل خيمة العروبة لم تنفعنا بالقدر الذي نفعت العرب ، حيث صب جُهد الأجداد كله لصالح العرب ؟ فنشدان السمو والسؤدد والجاه والمكانة الرفيعة لنا بين الأمم لن يتأتى إلا باللغة الأصلية الأمازيغية الأم ، فأنا لست مستعدا الإنتساب إلى عروبة مزيفة ! ، أبسط هزة فكرية ، أو تنابز حاد ، أوشنآن دنيوي مادي محتمل ، سيجعلني ( بربريا سافلا متخلفا ) لولا العرب لبقيت من ساكنة الجحور والمغاور ؟؟؟ .

خاتمة :

إذا كان لابد من وضع مصلحنا ابن باديس في مكان ما من التصانيف العديدة ، فالأولى في نظر ي وضعه في خانة محبي الجزائر الإسلام والعروبة ، فهو متقمص لآلام وآمال الجزائريين ، إلا أنه لم يعبر عنهم جميعهم في ( قضايا الشريعة بمنظوريها السلفي) (والتصوفي) ( ولا الهوية في منظورها العروبي) ، وهاجس وحدة الأصل ووحدة اللغة والدين الذي رافقه ، لا يعني بحال من الأحوال جماعة سياسية واحدة ، ولا أمة واحدة ، والمحك بارز جلي في واقع العالمين الإسلامي والعربي الماثل أمامنا بالأمس واليوم .


الإحالات

[1] محاضرة له في تونس 1939 بعنوان : (العرب في القرآن ) . مقاله بعنوان (محمد رجل القومية العربية ).

[2] مقال له في تأبين كمال أتاتورك، بعنوان "مصطفى كمال رحمه الله " ، مقتبس من /آثار الإمام عبد الحميد "بن باديس"، [ج3 / من 122 إلى 125]

[3] أنظر الشهاب : ج3 م12، غرة ربيع الأول 1355 هـ/جوان 1936 م.

[4] قراءة قياسية ،وإسقاط على قوله بشأن الجنسية السياسية ، والجنسية القومية أثناء مشاركته في المؤتمر الإسلامي 1936 مبررا موقفه من المشاركة .

[5] محمد الزاهد ، الغزو العربي لشمال افريقيا بين نبالة النص ودناءة الممارسة ، يمكن تحميله وقراءته من موقع ( توالت ) على الرابط : http://www.tawalt.com/?p=648


الحوار المتمدن-العدد: 3494 - 2011 / 9 / 22

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.