المجتمع الجزائري في فلسفة جمعية العلماء المسلمين

اعتقدت السلطات الفرنسية، ومنظرو الاستعمار في مختلف أنحاء العالم الغربي أن مرور قرن على الاحتلال الفرنسي للجزائر وما رافق ذلك من مجهودات ضخمة ، ومتعددة في جميع المجالات ، هادفة في مجملها إلى القضاء على ما يعرف ومنذ القدم بالأمة المسلمة في الجزائر وتكوين مجتمع بديل يرتبط بفرنسا : دينا ولغة ومستقبلا بغض النظر عن خصوصية الماضي بل واختلافه كليا، ومع هذا لم يسلم هو الآخر، فقد عمل الغزاة على السطو عليه وتزييفه؟ وفي غمرة الاحتفالات الفرنسية و أفراح المعمرين التي دامت أيام عدة عقد الجزائريون العزم على مواصلة المقاومة بأشكالها المختلفة ، خصوصا وأن الاستعمار الفرنسي طيلة وجوده في الجزائر لم يهنأ مطلقا ولم تتركه حركات المقاومة يخلد للراحة نتيجة لإصرارها على رحيله .

رغم تعدد أشكال هذه الحركات إلا أن أهدافها واحدة ، فإذا كان البعض منها اتخذ العمل السياسي منهجا ،كما هو الحال بالنسبة للحركات و الأحزاب السياسية ، فإن البعض منها اتخذ الإصلاح منهجا ، ولعل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أحسن من مثل هذا الاتجاه ، فما هي هذه الجمعية وما أهدافها القريبة و البعيدة ؟ وما موقفها من الأوضاع السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الدينية التي كانت الجزائر تعيشها آنذاك ؟ وهل كان لجمعية العلماء تصور لجزائر ما بعد الاستقلال؟ هذا ما تناقشه هذه الدراسة.

1- نشأة جمعية العلماء:

يذكر الشيخ البشير الإبراهيمي أن جمعية العلماء كانت في البداية فكرة ثم صارت عقيدة و أخيرا أصبحت حقيقة وواقعا ، وقد جاءت المبادرة من الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كان يهدف في البداية إلى تأسيس جمعية علمية باسم جمعية الإخاء العلمي : "يكون مركزها العام في قسنطينة العاصمة العلمية ، وتكون خاصة بعمالتها ، تجمع شمل الطلبة وتوحد جهودهم وتقارب بين مناهجهم في التعلم و التفكير ، وتكون صلة تعارف بينهم ، ومزيلة لأسباب التناكر و الجفاء ".
تكفل الإبراهيمي بوضع قانون هذه الجمعية الأساسي بطلب من ابن باديس الذي زاره في مدينة سطيف زيارة مستعجلة سنة 1924 م . وهو ما يؤكده الإبراهيمي بقوله:" وفي تلك الجلسة عهد إلي الأخ الأستاذ أن أضع قانونها الأساسي فوضعته في ليلة و قرأته عليه في صباحها ، فاغتبط به أيما اغتباط وودعني راجعا إلى قسنطينة بعد ما اتفقنا جديا على أعضاء الإدارة وأن يكونوا كلهم من مدينة قسنطينة ، وعلى تذليل عقبات يتوقف على تذليلها نجاح المشروع وعلى ترجمة القانون الأساسي وتقديمه للحكومة ، ثم دعوة العلماء إلى الاجتماع " رغم محاولة كثير من العلماء احتضان المشروع وتحقيقه إلا أن النجاح لم يكن حليفه، ولم يكن الفشل مثبطا بقدر ماكان دافعا لتوسيع الفكرة ،وهذا ما يؤكده الإبراهيمي عندما يقول: " من الأعمال ما يكون الفشل فيه أجدى من النجاح وهذا ما شاهدناه في تأسيس جمعية الإخاء العلمي ، فقد فشلنا في تأسيسها ظاهرا في ما يبدو للناس ولكن تلك المحاولات لم تذهب بلا أثر في المجتمعات العلمية الجزائرية حتى كان من نتائجها بعد أعوام جمعية العلماء المسلمين " التي كانت تهدف إلى:" جمع القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم في العلم لتتعاون".

وهكذا تحولت إلى جمعية جامعة لعلماء الجزائر بعدما كانت مجرد فكرة تجمع جماعة من الطلبة وفي أفضل الأحوال تجمع علماء منطقة قسنطينة فحسب ، فتوسعت في مكوناتها وتضاعفت طموحاتها.

2- الجمعية و الطرقية:

وقفت الطرقية- منذ البداية  بقوة ضد تأسيس جمعية العلماء وحاولت بكل ما أوتيت من قوة أن تنشئ جمعية معارضة في أهدافها ومنهجها أطلقت عليها جمعية علماء السنة ، إلا أن التنافس بين أعضائها وغياب الاستعداد والإخلاص الحقيقي والتسرع أفشل هذا المشروع في مهده رغم المحاولات المتكررة ، ومع هذا فقد اشترك بعض رجال الطرقية في مكتب الجمعية الأول بغية السطو على جمعية العلماء كفكرة وكتنظيم :"وكان المجلس الإداري الذي تألف بالاختيار في السنة الأولى غير منقح ولا منسجم لمكان العجلة و التسامح فكان بين أعضائه أولو بقية يخضعون للزوايا وأصحابها رغبا ورهبا وكان وجودهم في مجلسي الإدارة مسليا لشيوخ الطرق ومخففا من تشاؤمهم بالجمعية لسهولة استخدامهم لهم عند الحاجة ، فإما أن يتخذونهم أدوات لإفساد الجمعية وإسقاطها ، وإما أن يتذرعوا بهم لتصريفها في مصالحهم و أهوائهم ".    

ومع هذا فلم تهادن جمعية العلماء هؤلاء فعملت منذ البداية على:" محاربة البدع و الخرافات و الأباطيل و الضلالات ومقاومة الشر من أي ناحية جاء " . 

ودون شك كانت الطرقية أحد أهم العوائق في وجه عمل الجمعية مما جعل هذه الأخيرة لا تكتفي بتوجيه نظرها واهتمامها نحو الاستعمار الفرنسي وإنما نحو هذا العائق الداخلي الطفيلي ، الذي تحول إلى أداة طيعة بيده ، مما جعل تخليص الناس من شروره من ضمن الأولويات التي لا تنتظر التأخير أو مجرد التأجيل لسبب أو لآخر لذا :" اقتحمت جمعية العلماء منذ تأسيسها ميدان حرب محفوفة بالمزالق ، فحاربت أول ما حاربت أنصار الاستعمار فقاومت وحطمت البدع ، و الضلالات الدينية التي استغلها الاستعمار تحت ستار الطرقية حتى تمكنت من تطهير الدين من الخرافات و البدع ".

الحقيقة أن خطر الطرقية كان هو الآخر عظيما فقد أصبحت : " ألعوبة في يد الاستعمار، يسخرها لخدمة مآربه في الجزائر وهي تخدير الجزائريين الساذجين عن الكفاح عن حرية بلادهم ، ونشر التواكل ، و الكسل بينهم ، وتثبيط همتهم في الاستعداد للكفاح من أجل استقلال الجزائر ، وطرد المحتل الغاصب منها بدعوى أن وجود الاحتلال في الجزائر هو من باب القضاء و القدر الذي ينبغي التسليم به والصبر عليه " .

وقد أتت هذه الرؤية أكلها فيما بعد حيث تمكنت الجمعية من تغير نظرة الكثيرين وأصبح هم الشعب الجزائري يكمن في العمل على إخراج الفرنسيين من البلاد بدلا من الخضوع والمطالبة بالمساواة أو الإدماج وهو ما يتجلى في مقولة ابن باديس الشهيرة.

3- الجمعية والإلحاد:

أصبح الإلحاد في القرن العشرين ظاهرة عالمية منظمة ، له منظريه و أتباعه خاصة بعد انتصار الثورة البلشفية في ماكان يعرف بالاتحاد السوفيتي عام 1917موهو مذهب الذين ينكرون الألوهية و يرفضون أدلة وجود الله.

والمتتبع لهذه الظاهرة يلاحظ أنها ازدادت انتشارا مع انتشار الظلم  و الاضطهاد خاصة أن أنصاره ينشدون بضرورة الخلاص من كل ذلك عن طريق الالتفاف بما يعرف بالأحزاب الشيوعية التي تتبنى محاربة الملكية الفردية في مجال الاقتصاد ، و الأديان و العقائد باعتبارها أدوات لتخدير الشعوب في مجال الإيمان، و يقوم هذا المذهب بصورة خاصة على الفلسفة الماركسية التي هي عبارة عن "عملية تاريخية تركيبية كبرى جاءت نتيجة حتمية للتطور الاجتماعي والعلمي في العقد الخامس من القرن التاسع عشر ".

ينتقد البشير الإبراهيمي عن الإلحاد الجزائر قائلا أنه: "ضيف ثقيل حل بهذا القطر منذ انتشرت بين أبنائه الثقافة الآروباوية عن طريق التعليم اللاديني أو من طريق التقليد الأعمى ، وغذته غفلة الآباء و الأولياء عن هذه الناحية الضعيفة من أبنائهم ".

لهذه الأسباب وغيرها رأت جمعية العلماء أن من أولوياتها محاربة هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمع الجزائري المعروف بتمسكه بدينه و ثقافته العربية الإسلامية ، ولكن هذه المحاربة لن تكون عن طريق التخلص من أبناء الجزائر الدين اعتنقوه ، خاصة أن هؤلاء لم يتبنوه إلا بعد أن اصطدموا بجهود بعض رجال الدين ، وتناقض ما يؤمن به هؤلاء من مسائل لها علاقة بحقائق الكون مع ما يتلقاه أولئك من المدارس .

وبالتالي فإن هذه الظاهرة تعود إلى قصور في تلقين العقيدة الاسلامية الصحيحة البعيدة عن الخرافة ولهذا عملت الجمعية كما يقول الإبراهيمي على "مقاومة الإلحاد بما يبثه رجالها من حقائق الدين وبما يشرحونه في دروسهم ومحاضراتهم من مطابقته بالعقل و اتفاقه مع قضايا العلم ومسايرته للحياة المدنية وبما أرشدوا إليه من رعاية الأبناء و الظهور أمامهم بمظهر القدوة الصالحة في الدين والخير و الفضيلة.

تذهب الجمعية أبعد من ذلك عندما تعتبر هؤلاء :" أقرب إلى الإصلاح والرجوع إلى الحق بما معها من إدراك صحيح ، وبما فيها من ملكات الاستدلال ،لذلك مازجوا هذه الطائفة وخالطوها بأنفسهم وعرفوا كيف يجذبونها إلى المحاضرات و الدروس الدينية ، فكان لهذه الطريقة الرشيدة أثرها الصالح في تقويم زيغ الزائغين منها وإرجاعهم إلى حضيرة الدين بكل سهولة " .

4- الجمعية و التبشير:

رافق التبشير بشكله الحاضر الاستعمار الفرنسي منذ دخوله الجزائر ،إذ رغم أن النداء الذي كان قد وجهه القائد الفرنسي دبور مون الذي وقع مع الداي حسين وثيقة استسلام الجزائر في الرابع من شهر جويلية عام1830م كان يقر المحافظة على الدين الإسلامي و أوقافه واحترامه ، وهو ما نقرأه على النحو التالي في المادة الخامسة من هذه الوثيقة: " تكون إقامة الشعائر المحمدية الدينية حرة, ولا يقع المساس بها أي مساس بحرية السكان من مختلف الطبقات. ولا بدينهم ؛ ولا بأملاكهم ؛ ولا بتجارتهم وصناعتهم, وتحترم نساؤهم ويتعهد القائد العام بذلك بشرف" .

نجد حاكم الجزائر الفرنسي يصرح يوم 19سبتمبر1860م بقوله:"يتلخص واجبنا الأول بتأمين السعادة لثلاثة ملايين عربي وضعتهم قوة السلاح تحت هيمنتنا إن واجبنا هو الارتفاع بمستوى العرب إلى مرتبة الرجال الأحرار ونشر التعليم فيما بينهم مع احترام دينهم وتحسين مستواهم المعيشي عن طريق استخراج الكنوز و الثروات الباطنية التي أودعتها العناية الإلهية في جوف الأرض ،تلك مهمتنا التي سنضطلع بها ".

إلا أن الذي حدث كان عكس ذلك تماما فقد صادرت سلطات الاحتلال الأوقاف و المساجد وحولتها إلى كنائس منذ البداية وهو ما يؤكده الإبراهيمي بقوله "وضع أساس التبشير في الجزائر الكاردينال لا فيجري وأسس مراكزه المهمة ، ثم أتمت الجمعيات التبشيرية ما بدأ به، وهي جمعيات قوية يمدها الأغنياء من المسيحيين المتسامحين بالملايين من المال ، ويمدها رجال الكهنوت و نساؤه بالأعمال ، وتمدها الحكومات (اللادينية) بالمعرفة و التأييد " .

إلا أن هذه المجهودات الضخمة ورغم طول المدة لم يتناسب مع النتائج المحققة وهو ما تؤكده الجمعية في تحليلها للظاهرة "ولكن الواقع أن التبشير مع طول المدة واستكمال العدة لم يلق النجاح الذي يتناسب مع الجهود المبذولة فيه، و السبب الأكبر في ذلك يرجع إلى شيء واحد وهو تصلب الجزائري في دينه مهما بلغت به العامية و الأمية و الفقر " .

ومع هذا فان الخطر كبير والتصدي له لن يكون بمجرد الأقوال مع للحجة من دور ، وإنما ذلك يتطلب الرد بنفس المنهج أي الاستعانة بالمال لأن مقاومة جمعيات منظمة من ورائها أمم غنية تغدق عليها بالمال دون دعم مالي لن يكون له الأثر المطلوب. ولهذا وجب تنبيه المسلمين و أغنيائهم لذلك .

هكذا جعلت الجمعية ان واجبها لا يقتصر على تعليم الناس دينهم والمحافظة على لغتهم فحسب وإنما التصدي لظاهرة التبشير الذي تمارسه السلطات الفرنسية منذ بداية احتلالها للجزائر.

5- الجمعية والمجتمع المنشود:

بعد أن عملت على تحليل العلل و الأمراض التي يعانيها المجتمع الجزائري وضعت نصاب عينها هدفا نبيلا يتمثل في إعادة نشر لغته ودينه ، وبناء مجتمع سليم وهو ما نجد الإشارة إليه صراحة في الفصل الرابع من قانونها الأساسي الذي جاء فيه : " القصد من هذه الجمعية هو محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر والبطالة والجهل وكل ما يحرمه صريح الشرع وينكره العقل وتحجره القوانين الجاري العمل به". وهذا ما سعى إليه رجالاتها .

ولهذا فإن الجمعية كما يقول بعزيز بن عمر :"بماضي الإسلام الزاهر قوية فهي تتذرع بما فيه من صدق الإيمان بالله، والأسوة الحسنة برسول الله (ص) وعبقرية أبطال نهجوا منهجه ... إنها قوية بحاضر الإسلام وما فيه من شعور قوي عام تتدفق به نفوس أدركت ماحل بهذه الآمة من عوامل مدمرة ، سلبتها فضائلها وزلزلتها في عقائدها ، وغيرت عليها أحوالها الحيوية كلها .  إنها قوية بمستقبل الإسلام السعيد الذي هو محط أمال العاملين وقبلة المصلحين في كل زمان ومكان بما سيكون فيه من استعداد للخير وتلقي الهداية الإسلامية كما تلقاها الأولون بيضاء نقية " .

يبين صراحة فرحات بن الدراجي- وهو من الأعضاء البارزين- ما تسعي الجمعية للقيام به بقوله في سبيل الجزائر: " أيها الأخوة الكرام إن غايتنا التي نسعى في الوصول إليها وهدفنا الذي نرمي إليه أن ننهض بالإسلام ونعمل على تنقيته مما ألصق به ، ولن يكون ذلك إلا بالرجوع لأصوله الأولى ومصادره الصحيحة حتى يرجع إليه جماله وجلاله وأن نعمل على إحياء لغة القرآن حتى يرجع إليها سالف مجدها وغابر عزها وحتى تصبح منتشرة في المدن و القرى وبين الأفراد والجماعات ... لنبرهن ... أن الإسلام روح المسلم و العربية لسانه ، وليس بالإمكان أن يعيش إنسان بلا روح ومن غير لسان ". هكذا نجد أن جمعية العلماء اهتمت بتنقية شوائب المجتمع الجزائري وعملت على المحافظة على قيمه المتمثلة في لغته ودينه وتاريخه، وتهيئته ليقوم بنفض غبار الذل عنه والعيش وفق تصورات مستمدة من عقيدته. فحاربت الطرقية وعالجت الإلحاد وتصدت للتبشير و أيقظت شعب الجزائر.

 

عن جريدة النصر

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.