دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الدفاع عن اللغة العربية أثناء الاحتلال الفرنسي

بقلم: د. عبد القادر فضيل -

الحديث عن حماية اللغة العربية والدفاع عنها في فترة الاحتلال الفرنسي حديث عن الوطن وعن القيم الوطنية وعن جهود الشعب الجزائري وجهاده السياسي والثقافي من أجل الحفاظ على كيانه وإثبات وجوده، والصمود في وجه المحاولات الاستعمارية الرامية إلى تقويض أركان الشخصية الوطنية، وطمس المعالم الثقافية وتشويه التاريخ الوطني.

وقد تجلى ذلك في الصمود الذي أظهره الشعب وفي المقاومة الشديدة  لسياسة الاستعمار، والمخطط الذي رسمته هذه السياسة في المجال الثقافي واللغوي، تلك السياسة التي بنيت على أساس سحق الكيان الجزائري من الوجود، أو تذويبه في كيان غريب عنه من خلال البدء بتدمير مقومات الأمة وهدم أركان الشخصية، ومحاولة إضعاف الشعور العربي الإسلامي في نفوس المواطنين أو انتزاعه منهم، ليسهل فصلهم عن أصولهم الحضارية، وتحويلهم من أناس لهم تاريخ وحضارة وانتماء عربي إسلامي إلى أناس آخرين ليس لهم انتماء محدد، إلى أناس ليسوا عربا وليسوا عجما، وليسوا فرنسيين لأن الإدارة تريد أن تبقيهم تابعين لفرنسا لغويا وعاطفيا، ولكنهم لا يتمتعون بما يتمتع به الفرنسيون، ولا تتاح لهم فرص التثقيف التي هي من الحقوق الأساسية لكل مواطن فرنسي، عليهم أن يخدموا فرنسا و يندمجوا في البيئة الفرنسية لغة وثقافة وأخلاقا، ولكن لا يجوز لهم أن يطالبوا بالحقوق التي تعطى للفرنسيين، لأنهم ليسوا فرنسيين، وإن اعتبروا رعايا فرنسيين في الأوراق الثبوتية.

إن الحالة البائسة التي كانت عليها اللغة العربية، وكان عليها المتمسكون بهذه اللغة بسبب المضايقات التي كانت تسلط عليهم، وعلى المؤسسات التي تعلم اللغة العربية هي التي حركت اهتمام الشخصيات العلمية والسياسية والجمعيات الأهلية والقوى الوطنية وكل من كانت لهم القدرة على الإسهام في مجال ترقية الحياة الجماعية: السياسية والثقافية، والفكرية وتنمية الوعي الوطني والديني والثقافي، حركت هذه الأوضاع مشاعرهم وأذكت غيرتهم على الوطن فتصدوا لمجابهة السياسة الاستعمارية، ومقاومة الأساليب التي انتهجتها حتى يقللوا من الأثر السلبي لهذه السياسة، التي كانت لها غايات متعددة.

ومن أهمها الحرص على صناعة جيل من الجزائريين لا يعرف شيئا عن أصوله، ولا عما يربطه بتقاليد بيئته، بل أحاطته بنوع من الظروف أوجدتها خصيصا لتجعله  متنكرا لأصوله منسلخا عن قيمه، غريبا عن حضارة أمته، يعيش داخل الوطن ولا يعرف تاريخ هذا الوطن، يمارس عقيدته ولكن الظروف الثقافية التي فرضت عليه أبقته جاهلا بأصول هذه العقيدة، فلا هو مطلع على ثقافة أمته ومستوعب أصول هذه الثقافة، ولا هو متمكن من ثقافة المستعمر التي يعيش في ظلها، لأن فرنسا أرادته أن يبقى هكذا بلا تاريخ، يعيش ضائع الهوية ممزق الشعور، هذه هي الحالة التي حرصت فرنسا أن تنشأ الأجيال على أساسها.

لقد قذفت فرنسا هذا الوطن – كما يقول البشير الإبراهيمي – بأربعة أنواع من القوى مختلفة التأثير، متحدة الأثر، متباعدة المبادئ، ولكنها تلتقي عند هدف واحد هو: “التمكين للاستعمار” حاربت هذا الوطن بأربعة أصناف من الأسلحة البشرية أخفها فتكا هو الجندي، هذه الأصناف هي: (الجندي والراهب والطبيب والمعلم).

وقد أجرت لهم عملية التلقيح بمادة الاستعمار، فلم يبق المعلم معلما علميا، ولا الطبيب، طبيبا إنسانيا، ولا الراهب أبا روحيا، وإنما جاءوا في ركاب الاستعمار لتجذيره وتثبيت أركانه.

محاربة اللغة العربية من أولويات برنامج الإدارة الاستعمارية:

وتجدر الإشارة هنا إلى أن السلطة الاستعمارية بعد أن بسطت نفوذها العسكري والسياسي والإداري على أرض الجزائر، ومكنت المستوطنين من السيطرة التامة على البلاد (بحيث أصبح كل شيء في أيديهم) شرعت في توسيع نطاق الاحتلال بهدف استكمال تنفيذ المخطط السياسي الاستعماري في جوانبه الفكرية والثقافية، وبذلك وجهت الإجراءات الإدارية والقانونية إلى إقرار سياسة ثقافية خاصة، هدفها التجهيل والفرنسة والمسخ، وطمس كل معلم من معالم الثقافة الوطنية، فسنت القرارات والقوانين المحققة لهذا الغرض، من ذلك: الإجراءات الموجهة لضرب اللغة العربية وتشديد الحصار عليها وعلى تعليمها.

ومن أخطر الإجراءات التي اتخذت منذ البداية لسد المنابع التي تغذي العربية وقطع أسباب الحياة عنها:

1- الإستيلاء على مؤسسات التعليم بهدمها أو تغيير وظيفتها، مما ترتب عنه انحصار التعليم في بعض الكتاتيب، وغياب المؤسسات الوطنية التي كانت  مركز إشعاع بالنسبة إلى الجزائريين، تلك المؤسسات التي كانت اللغة العربية فيها هي لغة التعليم والعلم والبحث، ولكن بعد الإستيلاء على هذه المؤسسات قل نشاطها وضاق مجال التعلم بها وقل عطاؤها.

2- مصادرة الأملاك الوقفية والريع الذي كانت تدره، تلك الأملاك التي كانت تغذي التعليم وتمول الأنشطة الجارية في المؤسسات التعليمية والدينية.

3- ضرب حصار شديد على الجزائر، وتشديد الرقابة على كل ما يأتيها من البلدان العربية والإسلامية من كتب وجرائد ومجلات، وتقييد حرية التنقل، حتى لا يتصل أبناؤها بما يثري ثقافتهم، ويعمق ارتباطهم بهذه الثقافة، وينمي وعيهم بذاتيتهم.

4- لم تكتف الإدارة الفرنسية بحرمان الأهالي من تعلم لغتهم والاتصال بثقافتهم، بل عمدت إلى حرمانهم من نعمة التعلم عموما، لأنها كانت تخشى من الإنسان المتعلم، فالتعلم يفتح أمام الشخص أفاقا فكرية، ويعطيه فهما دقيقا للمحيط، وهذه الحقيقة دفعتهم إلى تضييق مجال التعلم الموجه إلى الجزائريين.

وبهذه الإجراءات الظالمة بدأ التوجه نحو تحقيق تنفيذ سياسة الفرنسة والتجهيل والمسخ، التي جعلتها الإدارة الاستعمارية مدخلا رئيسا للقضاء على اللغة العربية، ومحو شخصية الأمة، وتجريد أفرادها من كل شعور يربطهم بمقومات هذه الشخصية، وبما أن اللغة العربية هي أهم مقوم من مقومات الشخصية وجه حكام الاستعمار جهودهم إليها، بالعمل على إقصائها، ومنع تعليمها، وحرمان أهلها من تعلمها، واعتمدوا في ذلك النظام المدرسي الفرنسي باعتبار أن المدرسة هي السلاح القوي الذي اتخذوه لتغيير واقع المجتمع الجزائري، في الاتجاه الذي يلائم سياستهم ويحقق أهدافهم.

إن إقصاء اللغة العربية وتحريم تعليمها واعتبارها لغة أجنبية لا يجوز التعامل بها، وإحلال الفرنسية محلها في جميع المجالات عبّد الطريق أما الفرنسة، وفتح الباب أمام البرنامج التغريبي الذي فرض على الثقافة الوطنية أن تعيش في عزلة تامة محرومة من كل ما ينميها ويبعث فيها الحياة.

مقاومة سياسة الفرنسة:

لذا كان لابد أن يثور الشعب منذ البداية أي منذ أن أدرك نوايا السياسة الاستعمارية، ورأى بعينيه الأساليب الجائرة التي تتبع في التعامل مع لغته ودينه، ومع المؤسسات  التعليمية والدينية، التي تعتبر الملاذ الآمن للدين واللغة، لذا كان لا بد أن يعلن رفضه المطلق  للسياسة اللغوية الجائرة، التي فرضت عليه أن يهجر لغته في مجال التعامل، وكان لابد أيضا أن يعلن المقاومة الصلبة بالقول والفعل، لإفشال هذه السياسة أو التقليل من أثرها، ويسعى بكل الوسائل لحماية اللغة العربية والدفاع عنها، وإحياء مجدها وترقية اهتمام الناس بها، ليقوا مجتمعهم من مخاطر الابتلاع .

إن الفرنسة التي جعلتها السياسة الاستعمارية هدفا من أهداف الاحتلال مرتبطة بالتجهيل وقائمة عليه، بل هي مرادفة له، فالفرنسة والتجهيل كلاهما مؤد للغرض الذي خططت له الإدارة، وحرصت على تنفيذه، بواسطة المدرسة والنظام السياسي الموجه لسياسة المدرسة.

فالفرنسة لا تعني تغيير أداة الخطاب، من لغة عربية إلى لغة فرنسية فحسب، كما لا تعني التركيز على تعليم الناشئة بالفرنسية وحدها، إنما تعني فرنسة اللسان والفكر والشعور والروح، وإعادة تشكيل وجدان الإنسان الجزائري، بحيث يصبح إحساسه  بجنسه وعروبته وإسلامه ووطنه شبه منعدم، لأن التعليم زرع فيه إحساسا آخر، يتنافى مع الإحساس بالعروبة والإسلام، وبهذا الإحساس تصبح الهوية بالنسبة إليه مجرد انتماء جغرافي أو بطاقة تعريف تستخرج من مصالح الحالة المدنية لا علاقة لها بالدين واللغة والوطن، ومن ثم فالانتماء الذي تكرسه الفرنسة هو الإنتماء الثقافي واللغوي، فأية لغة يتعاطف معها الإنسان وينجذب إليها بفكره وروحه ويحس بشعور رهيف نحوها فهي  جنسه وجنسيته وهويته، وأية ثقافة يتعاطاها بفكره ووجدانه ويندمج معها فهي روحه وانتماؤه، ومن ثم يتضح أن لا فرق بين سياسة التجهيل وسياسة الفرنسة في مفهوم الاستعمار وحسب خطته.

ورغم هذه المضايقات ظلت اللغة العربية صامدة في مواجهة التحديات والحرب المعلنة ضدها، كما ظل أهلها صامدين لم يضعفوا ولم يستسلموا.

لم تكتف الإدارة الاستعمارية بأنواع المضايقات التي سلطتها على اللغة العربية حتى خارج المدرسة الفرنسية، بل عمدت إلى إجبار الجزائريين على أن يتعاملوا بغيرها، لأنها في نظر الإدارة لغة أجنبية لا يجوز التعامل بها قانونا، وأضافت الإدارة أمرا آخر وهو أنه لا يجوز فتح مدرسة لتعليمها إلا برخصة خاصة ،وبشروط تعجيزية قد لا تحقق الهدف.

وقد هب الجزائريون جميعا لإعلان موقفهم الرافض لسياسة المستعمر في المجال اللغوي والديني، وهذا ليس غريبا عن الجزائريين الذي عرفوا بأنهم شديدو التمسك بلغتهم، فغيرتهم عليها جزء من غيرتهم على الدين. بل يعتبرونها وجها من أوجه العقيدة الإسلامية، فالإسلام أساسه العربية فهما واستيعابا، والعربية روحها الإسلام قلبا وقالبا.

لذلك وقفوا مدافعين عنها صامدين في وجه التحديات المفروضة عليها، مطالبين حكومة فرنسا بترسيمها، وتعميم التعامل بها، على غرار الفرنسية، ظل هذا موقفهم لم يتنازلوا عنه، وإن كانت الإدارة الاستعمارية تسدّد الضربات تلو الضربات للقائمين على تعليمها، وتشدد في ملاحقتهم وتفرض عليهم أن يقبلوا الواقع اللغوي المفروض، ولا يجاهروا بما يناقضه حتى لا يعتبروا أعداء لفرنسا .

لقد ظلت هذه الإدارة حريصة على إبعاد الشعب عن لغته وارتباطه بها وربطه اجتماعيا وأخلاقيا بلغة المستعمر، وإبقائه تابعا تبعية كاملة، فيها إهانة للوطن وهوان للغة واحتقارا للعنصر البشري، والهوان الذي يلحق اللغة يلحق باقي المقومات، ويدمر الهوية من أساسها، والمعروف عن الجزائريين كما  أسلفت أنهم غيورون على مقومات وطنهم، فالغيرة على اللغة العربية مثلا كانت شعورا مندمجا مع الغيرة على الوطن والدين، في كل مراحل الكفاح الوطني قبل الثورة، وفي أثنائها، فكلمة القائد عميروش حول اللغة في أحد اجتماعاته تؤكد لنا صدق هذه الغيرة التي كانت عند الوطنيين المخلصين حتى ولو كانوا غير متعلمين ومما قاله في هذا الشأن وهو يتحدث عن العناية باللغة التي كانت مهانة في دارها :

“إن أبرز ظاهرة لاستقلال الأمة لغتها وآية ذلك أن يتعلق بها أهلها ويعتزوا بها ، وقد آن الأوان أن تعز اللغة بعزة أهلها وتأخذ مكانتها في المدرسة والإدارة  والمحكمة…إلخ”.1

وقد أحست بهذه الروح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي برز دورها كهيئة وطنية ممثلة للأمة في مطلع الثلاثينيات تبنت الدفاع عن مقومات الشخصية، لأنها أحست بمسؤولياتها في هذا المجال .

وحين لمست هذه الروح في المواطنين دعتهم إلى الالتفاف حول مشروعها الإصلاحي وبرنامجها التعليمي، الذي ركزت فيه على تعليم اللغة العربية ونشرها وتحبيبها للناشئة، وقد أسهم ابن باديس رئيس هذه الجمعية وغيره من العلماء في تنمية هذه الروح من خلال المهمة التي نذر نفسه للقيام بها، وبفضل خطته التعليمية ودروسه التثقيفية ومقالاته الصحفية التي بين فيها مكانة اللغة العربية ودورها الرائد في بناء نهضة الأمة وأهميتها في تنمية الفهم الديني الصحيح وترقية الذوق الأخلاقي .

فاللغة بالنسبة إلى ابن باديس هي الجسر الذي يصل أبناء الأمة بأسلافهم وبما تركوه من مجد وفكر، وهو الذي يربطهم بأبنائهم وأحفادهم في المستقبل، ويعزز الروابط بين الأفراد أفراد الأمة الواحدة .

واللغة العربية من بين اللغات التي تنطبق عليها هذه الحقيقة، وقد وصلت  إلى بلادنا وانتشرت في ربوعها منذ أن أنعم الله على هذه الأرض بالإسلام، ومنذ ذلك الوقت أصبحت لغة العامة والخاصة ولغة الدولة والشعب، لأنها اللغة التي من خلالها استوعب المواطنون حقائق الإسلام، وهي الأداة التي بها يناجون خالقهم في كل يوم ويفهمون القرآن ويطلعون على التراث والتاريخ والآداب، وبها يتواصلون مع أبناء جنسهم، ويحسون بانتمائهم القوي إلى أمتهم. لهذا جعلها ابن باديس رديفة الإسلام، وخصص لها مكانة في مشروعه الإصلاحي وخطته التعليمية، ورغم كل الأساليب القهرية والقرارات الجائرة التي حاولت بها الإدارة الفرنسية أن تجعل الجزائريين يتخلون عن التعصب للغتهم، فإن ذلك لم يثنهم عن موقفهم وعن المطالبة بحقهم المشروع، بل دفعهم ذلك إلى الصمود وتنويع أساليب المقاومة التي استمرت، واتخذت أشكالا متعددة.

أشكال الصمود والمقاومة:

الصمود هو أن يثبت الإنسان على موقف واحد ويتمسك به لا يغيره، مهما كانت الصعاب والتحديات، والمقاومة هي رد فعل طبيعي لكل جماعة اعتدي عليها والشعب الجزائري قد اعتدى عليه الاستعمار الفرنسي ظلما وعدوانا، ومسته اعتداءاته في صميمه، فكان من الطبيعي أن ينهض أفرادا وفئات لمقاومة المعتدي وإعلان المواجهة بكل الوسائل .

ومن أساليب الصمود و المقاومة:

1- تمسكهم الشديد بلغتهم إلى درجة التقديس ورفضهم الكامل لكل المحاولات الهادفة الى التقليل من حبهم للغتهم و تشويه صورتها في أذهانهم وإقناعهم بأن اللغة الفرنسية هي التي تصلهم بعالم الحضارة.

2- الحرص الشديد على تعليم أبنائهم في الكتاتيب القرآنية وفي المؤسسات الدينية التي كانوا يرون فيها الملاذ الآمن الذي يحصنهم من كل تسيب خلقي وانحراف عقائدي.

3- رفضهم القوي للمدرسة الفرنسية ولبرامجها وامتناعهم عن تسجيل أبنائهم فيها، لأنهم يرونها وسيلة من وسائل التنصير والتكفير، ونشر العادات الفرنسية التي لا تنسجم مع عاداتهم وهذا ما دفع الكثير من العائلات أن ترفض المدرسة الفرنسية.

هذا اتجاه ولكن هناك اتجاه آخر لم يكن يرفض المدرسة لذاتها إنما يرفضها لأن برامجها بنيت على أساس ما تحتاجه الإدارة الفرنسية لا ما يحتاجه الجزائريون .

4- ولإيجاد بيئة تعليمية تلائم الجزائريين اتجه اهتمام الجمعيات الأهلية وبعض النخب الوطنية من العلماء والسياسيين إلى الجهد الذاتي والمقاومة الثقافية بتأسيس المدارس الحرة، وتنظيم التعليم الأهلي رغم العوائق وتنشيط العمل الصحافي الذي هو شكل من أشكال المقاومة وعامل من عوامل تنميتها، لأنه يسهم في بث الوعي الوطني والقومي الذي من شأنه تحصين أبنائنا  مما يتعرضون له من أشكال المسخ، ويبقيهم واعين بحقيقتهم.

هذا وقد خططت جمعية العلماء المسلمين التي أسست عام 1391 لهذا النوع من المقاومة الثقافية من خلال تأسيس المدارس وبناء المساجد، وتنظيم العمل التعليمي. تلك المقاومة التي ظلت تقودها الجمعية إلى جانب الهيئات السياسية في المجال الفكري والسياسي والتربوي. ضبطت هذه الجمعية خطة إصلاحية وبرامج تعليمية نفذتها بواسطة المدارس التي تم تشييدها من قبل الشعب بغرض مقاومة أشكال الانحراف وسياسة المسخ والتجهيل والتنصير والإدماج، وتمكين الأجيال من معرفة لغتهم وتاريخهم وأمور دينهم.

5- من أساليب المقاومة التشبث بالتراث والقيم الثقافية التي تجعل الإنسان الجزائري يصمد في الدفاع عن وجوده، ويحافظ على خصوصياته، ويرفض الإذلال أو الانحلال.

وقد كان للزوايا وحلقات العلم في المساجد دور لا يستهان به في توفير فرص التعلّم والتثقيف، والانكباب على حفظ القرآن الكريم وتحصيل المعارف، التي من شأنها تحصين المواطنين ضد سياسة المسخ والجهل، وخاصة في بداية الأمر حينما لم يكن أمام الجزائريين إلا أحد أمرين :

إما أن يتركوا أبناءهم فريسة للجهل والأمية، وإما أن يدفعوهم إلى الاندماج في سياسة فرنسا التعليمية، لهذا كانت الزوايا الحل الثالث الذي يجنبهم الخيار الصعب، لأنها تفتح أبوابها للراغبين في التعلم، وتمكنهم من تعلم لغتهم ودينهم، وتحصن شخصيتهم، وتوفر لهم الملاذ الذي يقيهم شر الانحراف أو الضياع  .

6- لقد كان للزوايا التي تهتم بنشر العلم والتعليم فضل كبير في تربية الناس على الارتباط بتراثهم ولغتهم والتمسك بأصولهم، وكثير من المعلمين والأساتذة تخرجوا من هذه الزوايا .

7- المقاومة السلبية التي دفع الناس إليها والمتمثلة في هجرة العلماء والمثقفين الذي أحسوا بخطورة المخططات الفرنسية الهادفة إلى مسخ الإنسان الجزائري، وتغيير عقيدته فالتجأت أعداد من العلماء الذين خافوا على عقيدتهم إلى الهجرة الداخلية والخارجية، بمغادرة البلاد والاتجاه نحو الأماكن البعيدة عن الضغط، هروبا بعقيدتهم وحفاظا على ثقافتهم ولغتهم، وبحثا عن الاستقرار النفسي.

8- تشجيع التعليم الأهلي والإقبال عليه، سواء في رحاب الزوايا أو في المدارس التي تؤسسها الجمعيات أو يتكفل بها الأشخاص.

9- إلتزام المسؤولين في الأحزاب والهيئات الوطنية التي كانت في ذلك  الوقت تمارس نضالا سياسيا، باستعمال اللغة العربية في خطابهم مع الجماهير، واستهجان الحديث بالفرنسة، ويعد هذا شكلا من أشكال المقاومة، لأنه سلوك مضاد لما يجري في المحيط الرسمي، ومنسجم مع الاتجاه الوطني.

هذه نماذج من المواقف التي عبر بها الشعب الجزائري عن رفضه للسياسة اللغوية التي انتهجتها فرنسا في الجزائر، وهذه المواقف نفسها هي جانب من جوانب الصمود في وجه القوانين الجائرة التي كانت تعامل بها العربية .

أما الدور الذي أدته الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية في مجال بذل الجهد المنظم لحماية اللغة العربية، وترقية الاهتمام بها، وتحبيبها إلى الناس، فهو دور له أثره الكبير في إنماء الشعور الوطني، وتعبئة الجماهير من أجل خدمة الأمة ومسايرة تطلعاتها.

ونود هنا أن نركز على دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ظهرت إلى الوجود بصفة رسمية سنة  1931، تلك الجمعية التي ضبطت خطة عمل في المجال التربوي والإصلاح الفكري والديني وصممت برنامجا تعليميا نفذته بواسطة: المدرسة والمسجد والصحيفة والنادي واللقاءات الدورية التي كانت تجمع العلماء وطلاب العلم والخيرين من أبناء الوطن. وتستهدف تنمية وعي الأمة بذاتيتها ودعوة أفرادها إلى البذل والعطاء، والتكفل ببناء المدارس وتشييد المساجد.

خطة جمعية العلماء :

لقد مهدت دروس الإمام ابن باديس خلال العقدين 2 و3 من القرن العشرين لتهيئة ظروف إنشاء الجمعية التي ظلت فكرة قائمة في ذهن كل من الشيخ ابن باديس ورفيق دربه الشيخ البشير الإبراهيمي منذ أن التقيا في المدينة المنورة عام 1913 وبمجرد أن تأسست جمعية العلماء، انطلقت في تنفيذ الخطة التي حدد معالمها الإمام ابن باديس سنة 1928 حين اجتماعه بمن يمكن تسميتهم برواد الإصلاح (مثل أ مبارك الميلي والطيب العقبي، والعربي التبسي، والبشير الإبراهيمي).

وفي هذا الاجتماع حدد لهم خطة العمل التي ركزت على: نشر العلم وتربية الأجيال وتثقيف العامة وبث الوعـي الفكري والديني والأخلاقي ودعوة الخيرين من أبناء هذه الأمة ليلتفوا حول الجمعية ويسهموا في تنفيذ مشاريعها التي تتألف من:

– إنشاء المدارس الحرة لتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية.

– الالتزام بإلقاء دروس الوعظ لعامة المسلمين في المساجد الحرة.

– الكتابة في الصحف والمجلات لتوعية طبقات الشعب.

– إنشاء النوادي للاجتماعات وإلقاء الخطب والمحاضرات.

– إنشاء فرق للكشافة الإسلامية للشباب وتوجيه برامج نشاطها.

– العمل على إذكاء روح النضال في أواسط الشعب لتحرير البلاد من العبودية ورفع الظلم المسلط على اللغة والدين والمؤسسات التي تهتم بهما.

وكانت اللغة العربية هي المادة الأساسية التي ركزت عليها جمعية العلماء، باعتبارها المدخل الذي لابد منه لتربية الأجيال، وتعريفها بتاريخها وبأمور دينها وتراثها.

ولم يكن الهدف من جعل اللغة العربية محور البرنامج الإصلاحي هو تمكين الأجيال الصاعدة من معرفة لغتها وامتلاك مهارة التعبير بها فحسب، ولكن كانت إلى جانب ذلك أهداف تربوية أخرى لم تنص البرامج حرفيا عليها، ولكنها مستوحاة من توجيهات الإمامين: ابن باديس والبشير الإبراهيمي في أكثر من مناسبة، وهذه الأهداف هي:

– تمكين المتعلمين من الاطلاع على تاريخهم وفهم تراثهم وثقافة أمتهم.

– غرس حب اللغة العربية في نفوس المتعلمين وجعلهم يتذوقون خصائص التعبير بها ويدركون أسرارها.

– اعتماد النصوص اللغوية مصدرا حيا لتربية الأجيال وتوسيع آفاقهم وصقل أذواقهم وتهذيب مشاعرهم .

– ترقية أساليب تعليم اللغة العربية وتطوير مضامين المناهج ودفع المعلمين والمتعلمين إلى استخدام الأساليب الصحيحة والراقية .

هذا وقد وجدت جمعية العلماء تجاوبا كبيرا مع الشعب فأقبل على التعليم الحر بكيفية خارقة للعادة، لذلك انتشرت المدارس التي بناها الشعب بأمواله وجهوده في جميع مدن الجزائر وقراها وازدهر التعليم العربي الحر، ازدهارا عظيما، والفضل في ذلك يرجع إلى أسلوب الخطاب الذي كان يستعمله الإمام ابن باديس وخليفته الإبراهيمي.

الملاحقات والمضايقات الفرنسية:

وحين رأت الحكومة الفرنسية تفاعل الشعب وتجاوبه مع الجمعية أعلنت الحرب عليها وبدأت تلاحق نشاطها وتراقب أعمالها، وتجد في تعطيل جرائدها، وإغلاق مدارسها وملاحقة معلميها وعلمائها، ومنعهم من التدريس في المساجد الرسمية التي كانت بها حلقات العلم، ولكن الجمعية لم تستسلم لذلك، ولم تتوقف عن نشاطها، فكلما أغلقت الحكومة مدرسة أو عطلت جريدة عوضتها الجمعية بأخرى إلى أن أصدرت الإدارة قرارا يقضي بمنع الجرائد العربية التي تصدرها الجمعية حاضرا ومستقبلا، كما أصدرت قرارا آخر يحرم فتح مدرسة أو كُتَّاب إلا بترخيص خاص، ومع ذلك لم تفت هذا الملاحقات في عضد الجمعية ولم تثنها عن عزمها، بل زادها ذلك قوة وصلابة، حتى ولو كانت الإدارة تهدد بالسجن والغرامة، لأن الجمعية تأكدت أن عملها أصبح يقلق الحكام ويخيفهم، وهذا في حد ذاته نتيجة من نتائج الكفاح .

فالعلماء لم يغيبوا عن نظر الإدارة الفرنسية، ولا عن رجال الأمن، بل ظلت تراقبهم وتتابع حركاتهم، لأنها كانت موقنة بأن الهدف الذي يسعى إليه العلماء هو أن يشتد كره الجزائريين لسياسة فرنسا، ويقوي إيمانهم بضرورة مقاومة سياسة الحكام .

ونلمس هذا في تقرير لمحافظة الشرطة الفرنسية بالبرج جاء فيه: (إن ازدياد نفوذ العلماء هو الخطر الحقيقي على السياسة الفرنسية، لأن هدفهم هو تكوين الإنسان المسلم، والإنسان المسلم هو الذي يرتبط بلغته وقرآنه ولا يرضى بأي اندماج، ولا يقبل السيادة الفرنسية).

إن الروح المعنوية التي كان يتمتع بها أعضاء الجمعية ترجع إلى نبل المشروع الذي كانت تضطلع به، وعظمة الهدف الذي كانت تسعى إلى تحقيقه، لذلك بقيت صامدة في مواقفها حريصة على تنفيذ برامجها.

ويشخص الشيخ البشير الإبراهيمي هذه الروح التي كان عليها القائمون على تنفيذ المشروع التربوي حين بدأت الملاحقات، واشتد الحصار على التعليم العربي الحر، فيقول :”بدأت دعوة المعلمين إلى المحاكم ونقدر أنها ستعم، وأن أول المطر قطرة، وأن الأحكام ستكون بالغرامة والسجن، ولكننا سندخل هذه المحاكم برؤوس مرتفعة، ونستقبل هذه الأحكام بنفوس مطمئنة بالإيمان، وسندخل السجون بأعين قريرة، وسنلتقي بإخواننا المجرمين في مجالس الأحكام، ومقاعد الاتهام، وحسبنا شرفا أن يكون ذلك في سبيل ديننا ولغتنا، وحسبنا فخرا أن تكون التهمة فتح مدرسة دينية وقرآنية بدون رخصة، وحسب الاستعمار، ديمقراطية أن يحاكم معلمي العربية والإسلام، ويسجنهم على التعليم كما يحاكم المجرمين ويسجنهم على الإجرام في محكمة واحدة وسجن واحد”2.

ونجد نصا آخر للشيخ ابن باديس يصب في هذا الاتجاه بعد صدور قرار شوطان الذي يحرم تعليم العربية ويمنع فتح المدارس من غير رخصة يقول: “أعداء الأمة الجزائرية يجمعون أمرهم ويدبرون كيدهم فيستصدرون من الحكومة قرارا وزاريا بعقوبات صارمة على التعليم ليهدموا الشخصية الإسلامية من أصلها وليقضوا عليها بالقضاء على مادة حياتها، (إلى أن يقول): ولما رأو تصميم الأمة على تعليم قرآنها ودينها ولغة دينها واستبسال كثير من المعلمين في القيام بواجبهم واستمرارهم على التعليم رغم التهديد والوعيد والزجر … لما رأو هذا سعوا سعيهم حتى استصدروا قانون العقاب الرهيب، (إلى أن يقول): سنمضي بعون الله في تعليم ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا، وإننا على يقين من أن العاقبة وإن طال البلاء لنا، وأن النصر سيكون حليفنا، لأننا عرفنا إيمانا وشاهدنا عيانا أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما ولو اجتمعوا كلهم على محاربتهما”.3

النتائج التي حققتها جمعية العلماء:

1- أنها أحيت رسالة المسجد وأعادت له وظيفته التثقيفية بتنظيم دروس تعليمية، جندت لها العلماء والمفكرين الذين كانوا يجوبون أرجاء الوطن من أجل الاضطلاع بهذه الرسالة.

2- أنها أنشأت العديد من المدارس في مختلف جهات الوطن (ما يقرب من 300 مدرسة) وحددت لها المناهج التعليمية والتوجيهات البيداغوجية، وتوجت هذه الإنجازات بإنشاء معهد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، الذي كان يستقبل التلاميذ الذين أنهوا دراستهم الابتدائية والمتوسطة، وكذلك الذين تخرجوا من الزوايا أو من مؤسسات أخرى بلغ عدد طلابه في السنة الأخيرة (1954 أكثر من 900 طالب).

3- أنها أسست عددا من الصحف الخاصة بالحركة الإصلاحية جعلتها منبرا للنقاش والحوار، ونقل الأفكار لمحبي الاطلاع على الاتجاهات الفكرية العربية والإسلامية والقضايا المعاصرة وكذا لنشر الفكر الإصلاحي.

وقد تمكنت الجمعية من إصدار أربع صحف هي :(البصائر – الصراط – السنة – الشريعة)، إلى جانب مجلة الشهاب التي كانت تابعة لرئيس الجمعية، لأنها أسست قبل ظهور الجمعية.

4- أنها وجهت إهتمامها للشباب فأنشأت لهم النوادي الخاصة بهم، ونظمت لهم محاضرات ولقاءات، كان الهدف منها تنمية الروح الوطنية، ونشر الحقائق التاريخية .

5- أنها أبدت اهتماما متميزا بتعليم البنات، الأمر الذي لم يكن شائعا في تلك الفترة، وكان الأمل أن ينشأ معهد خاص بالبنات، ولكن الخطة لم تنفذ .

هذه الأمور وغيرها تبين أن الحركة الإصلاحية في الجزائر تميزت بشعبيتها وشموليتها، وبذلك تمكنت في ظرف قصير نسبيا من توسيع نظامها، ونشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية في مختلف جهات الوطن.

من النتائج البارزة التي يمكن استخلاصها من نشاط جمعية العلماء أنها بعثت روحا جديدة في أوساط المجتمع فتخلى المجتمع بفضلها عن كثير من الخرافات والفهم غير السليم للدين والتاريخ والحضارة، وهيأت النخبة المتنورة لفهم واقعها، وتصحيح مفاهيمها عن الوطن والثقافة واللغة، فأصبحت مستوعبة لتاريخها، وشاعرة بضرورة الاهتمام بلغتها وثقافتها، وأيقنت أن مقولات الاستعمار حول التاريخ والدين واللغة لا أساس لها، وقد ظهر ذلك في سلوك بعض الزعماء السياسيين الذين دفعهم اجتهادهم إلى بعض الأخطاء في الفهم، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأساليب التي كان يوظفها رئيس جمعية العلماء في مخاطبة الجماهير المتعلمة وغير المتعلمة، ومناقشة الأفكار التي تصدر عن بعض الجرائد والأشخاص والهيآت، لأن الأساليب الترغيبية الحكيمة والأقوال التحليلية الدقيقة التي تخاطب العقل وتستفز العاطفة وتشرح العقيدة تؤثر في المخاطب، وتجعله يقتنع ويراجع نفسه، ويستوعب خطاب محاوريه، ولعل هذا النوع من الحوار هو الذي جعل الزعيم السياسي فرحات عباس يرجع عن موقفه من تاريخ الجزائر، ويعترف أمام الشيخ ابن باديس بأنه لم يكن مستوعبا للأثر السلبي لكلمته، مما جعله ينشر مقالا في جريدة الدفاع يوضح فيه الأسباب التي دفعته إلى ذلك، فقد أثر فيه كلام ابن باديس وجعله يغير موقفه، ويصحح فكرته، ويفيق من غيبوبته السياسية، ويقلع عن الوهم الذي كان يحجب عنه الحقائق، تلك الحقائق التي كتب عنها بعد ذلك في كتابه (ليل الاستعمار) والتي شخص فيه حال شعبه المقهور.

إن مثل هذه الأساليب التي كان العلماء يخاطبون بها العامة والخاصة هي التي دفعت الناس للالتفاف حول جمعية العلماء وحول أفكارها، وهي التي أعطت للجمعية مكانة في تاريخ النهضة الحديثة.

ويمكن هنا أن نشير إلى ما كان يقوم به البشير الإبراهيمي حين كان رئيسا للجمعية فقد ظل يجوب أنحاء الوطن مدينة مدينة وقرية قرية ليطلع من خلال ذلك على نتائج جهود الجمعية وليوسع نشاطها بالسهر على تكوين جمعيات محلية تسند إليها مهمة بناء المدارس، وتشييد المساجد، والتكفل بالمديرين والمعلمين الذين تنتدبهم الجمعية للقيام بالرسالة التعليمية والتوعية الدينية.

وكان حريصا على تزويد المدارس بالتوجيهات وبالمناهج والكتب، التي تشرح الأسلوب الذي يجب إتباعه في مجال تنشئة الأجيال، وقد وفقه الله لتتويج هذا العمل الجبار بتأسيس معهد للتعليم الثانوي بقسنطينة في سنة 1947، ويذكر الذين عايشوا الشيخ البشير الإبراهيمي أنه كان يحسن مخاطبة الفئات الشعبية، لأنه كان حريصا على انتقاء المواعظ المؤثرة وعلى تليين مشاعرهم واستفزاز عاطفتهم، ليدفعهم إلى التبرع والبذل في مجال إنشاء المدارس ورعاية المساجد، والتكفل بالمعلمين .ويؤثر عنه أنه ذات يوم خاطب جماعة من الأغنياء الذين يتابع أبناؤهم تعلمهم في المدارس الحكومية حاثا إياهم على الإسهام في بناء المدارس ليعود ذلك بالنفع عليهم، قائلا لهم : إنكم في حاجة ماسة إلى أن تعتنوا بإنشاء المدارس الحرة حتى ولو كان أبناؤكم يتعلمون بالمدارس الحكومية لافتا انتباههم إلى فكرة قلما تخطر على بال هؤلاء، مفاد هذه الفكرة هي: أن أبناءهم حين يكملون دراستهم ويتخرجون محامين أو أطباء أو صيادلة لا يجدون الجو الملائم لنشاطهم، ولا يحظون بالسعادة التي يطمحون إليها إذا كان محيطهم غير مهذب، والأفراد الذين يعيشون فيه لم يكتسبوا تربية إسلامية صحيحة، ولم يتلقوا ثقافة وطنية فبقوا ضائعين.

وتهذيب المحيط يكون بتشييد المدارس التي تربي الشباب تربية صحيحة، وتنمي سلوكهم وفق الأخلاق الرفيعة، التي يوصي بها القرآن، فالمحيط غير المهذب تتولد فيه الشرور والآفات وهو الأمر الذي ينعكس على أبنائكم فلا يستطيعون أن يتوافقوا مع أبناء هذا المحيط الغارقين في وحل الجهل والجهالة. فمن فائدتكم أن يكون المحيط الذي يعيش فيه أبناؤكم محيطا مهذبا وراقيا أخلاقيا، وهذا ما تقوم به المدارس العربية الحرة التي جعلت وظيفتها الأساسية التربية وبث الوعي الخلقي والديني، وبهذا تأثر الكثير من الناس فأسهموا في تنشيط أعمال الجمعية.

كيف ينبغي أن نعامل اللغة العربية؟

لم تكتف جمعية العلماء بجعل اهتمامها منصبا على نشر اللغة العربية وترقية تعليمها، من خلال ضبط البرامج والطرائق والكتب، وانتقاء المعلمين وإحداث نظام الامتحان المتوج لنهاية الدراسة، ونظام التفتيش الذي يتولى متابعة عملية التعليم بما يجعل النظام المدرسي الخاضع للجمعية نظاما حديثا، بل عمد أقطاب الجمعية بالإضافة إلى ذلك إلى شرح المواقف التعلمية التي تنعكس إيجابا على التعليم بصفة عامة، وتعليم اللغة العربية بصفة خاصة .لذلك نجد كتابات الشيخ الإمام بن باديس والشيخ الإبراهيمي ومبارك الميلي وغيرهم تعنى بشرح الاتجاه الفكري والتربوي الذي يجب أن يتبناه التعليم، ويستفيد منه تعليم العربية، لأن النظرة إلى اللغة في مفهوم البشير الإبراهيمي مثلا يجب أن تتغير، بحيث تتطابق مع حقيقة اللغة العربية، والوظائف الحية التي يجب أن تضطلع بها، شأنها شأن كل لغة حية في وطنها .

ويمكن أن نقتطف جزءا من مقال للبشير الإبراهيمي حول اللغة العربية وفضلها على العلم والمدنية،4 يبين في هذا المقال مكانة اللغة العربية والدور الذي اضطلعت بها ماضيا، ويمكن أن تضطلع بها حاضرا ومستقبلا، إن عرف أبناؤها كيف ينظمون تعليمها والتعليم بها، والغاية من هذا المقال هي الرد على الذين يشككون في قدرة اللغة العربية على الاضطلاع بدورها الحضاري في عالمنا المعاصر.

والغاية الثانية هي إذكاء وعي الناس بحقيقة تراثهم وبالأثر العلمي والثقافي الذي تركته هذه الأمة، والذي يجب أن نرجع إليه، ونأخذ منه ونعتمده  في بناء النهضة المنتظرة، ونمكن للغة العربية من استعادة وظيفتها الحقيقية.

جاء في هذا المقال: “لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن لغة متسعة الآفاق، غنية بالمفردات والتراكيب لما استطاع الأسلاف أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب فارس والهند، ولألزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم تعليم تلك اللغات، ولو فعلوا ذلك لأصبحوا عربا بعقول فارسية وأدمغة يونانية، ثم يقول :قامت اللغة العربية في أقل من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونظمها وآدابها فوعت الفلسفة بجميع فروعها والرياضيات بجميع أصنافها، والطب، والهندسة والآداب والاجتماع، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية، وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لا بد أن يأخذه الأخير عن الأول، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوة فيك، وإما أن تنتقل إليه في لغة غيرك فيكون قوة لغيرك، وقد تفطن أسلافنا لهذه الحقيقة فنقلوا العلم ولم يتنقلوا إليه، وقد قامت لغتهم بحفظ هذا الجزء الضروري من الضياع بانتشاله من أيدي الغوائل، وبنقله إلى الأواخر عن الأوائل، وبذلك طوقت العالم منة لا يقوم بها الشكر، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير”.5

ونجد هذا المعنى في تحليل أورده الدكتور علي مذكور6 في كتابه فنون تدريس اللغة العربية نصه :(إننا نملك ناصيته المعرفة عندما ننقلها إلى لساننا، أما عندما ننتقل نحن إلى ألسنة الآخرين فسنكون عالة عليهم، وسنبقى أتباعا ضائعي الهوية، لا قيمة لنا في الأرض ولا وزن لنا في السماء).

 

الهوامش:

1. يؤكد هذه المقولة الأستاذ محمد الصالح الصديق باعتباره كان أحد الحاضرين فيما سبق.

2. عيون البصائر – دار المعرف ص384.

3. البصائر 08/04/38.

4. محمد البشير الإبراهيمي: فضل اللغة العربية على العلم والمدنية، الشهاب ج1 مجلد 15 فيفري 1939.

5. الشهاب الجزء الأول المجلد 15 فيفري 1939.

6. علي مذكور: فنون تدريس اللغة العربية ص45

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.