إبراهيم أبو اليقظان خطورة التحدي… وصلابة الاستجابة

بقلم: د. عبد الرزاق قسوم-

وجاء من أقصى المدينة، بواد غير ذي زرع، على ضفاف وادي ميزاب، ومن واحة القرارة الخصيبة بالجنوب الشرقي من الوطن الجزائري جاء رجل معمم، يرتدي الزي الجزائري العربي الإسلامي، ويحمل "قوت الأرواح" ممثلا في كتاب الله وسنة رسوله، وخلق السلف الصالح.

رجل أوتي من علامات النبوغ والعبقرية ما جعل جوانب العظمة فيه تتخذ ميادين شتى، وهو ما يربك الدارس له، لأنه لا يستطيع أن يختصر ما يجب أن يقال عنه، فخطورة التحدي الطبيعي، السياسي والثقافي، شحذت عزيمة أبي اليقظان، وقوّت إرادته وجعلت صلابة الاستجابة لديه تستهين بكل مخاطر التحدي، فانفلقت، فكان "القلم المدفع" و"الكلمة القنبلة" و"الثقافة الذخيرة" و"الروح الفولاذية".

إن هذه الخصائص هي التي ألانت قسوة الطببيعة الصحراوية أمام أبي اليقضان، فحوّلها إلى ينبوع واحة، يستوحي منها شعره المقاوم، وشعوره الوطني، وإن هذه الطبيعة الصحراوية هي التي أكسبته صلابة الإيمان بربه، ودينه، ووطنه، فاستهان بكل أنواع الشرك العقدي أو السياسي فكان يواجهه بسبابته "البلالية" "أحد..أحد" وبشعاره الإصلاحي الوطني "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا".

ذلك هو إبراهيم أبو اليقظان الشاعر، والصحفي، والداعية، والمصلح، الذي يخوض في كل ما يمت إلى قضايا عقيدته، ووطنه وأمته بصلة، فقد وهبه الله ثقافة الأقدمين الموسوعية، فجعله يعالج الظاهرة الإنسانية، والمجتمعية، بكل ميادينها المعقدة... ولعل الصعوبة المنهجية في دراسة فكر أبي اليقظان، إنما تتجلى في تداخل هذه الظواهر الإنسانية في فكره، فكل ظاهرة منها تغري بالدراسة والبحث، وتفرز جوانب تصلح لأن تكون محطات وقوف وتأمل، فالانتماء الوطني، أو القومي، أو الإسلامي، هو أكبر الدعامات التي يقوم عليها فكر الرجل، فإذا عمقت النظرة في أبعاد هذا الانتماء، انكشفت لك أدوات وآفاق كلها تسلمك إلى هدف مجتمعي نبيل.

إنه لا مندوحة إذن لمن رام دراسة فكر أبي اليقظان، من أن يعمد إلى محاور كبرى، تخفي كلها في -طياتها- معاني الخطاب الذي قصد مفكرنا تبليغه. لذلك سنحاول في هذه الدراسة "العينية" أن نفرد وقفات تأملية لأبرز المحاور التي بدت لنا بمثابة المحطات التي طبعت رحلته الجهادية من المنطق إلى المصب.

ويمكن باختصار كبير، أن نجمل هذه المحاور في المحطات التالية: الوطنية، الإصلاح، الصحافة، السياسة، الدين، اللغة، العروبة، فلسطين، الاقتصاد، العلوم... إلخ.

وإن في ثنايا هذه المحاور تنطوي مواقف، واستجابات تعكس كلها منهجية التحليل، وطريقة التشخيص، وسبل العلاج لمختلف أدواء القطر الجزائري، والوطن العربي، والأمة الإسلامية، وهو ما جسدته قصائده الشعرية في ديوانه، وسنابله الفكرية المزروعة في واحته الإعلامية، وقد تعددت عناوينها مثل: "المنبر" و"الاتحاد" و"لسان الشعب" و"مرشد الأمة" و"الفاروق" و"النجاح" و"الإقدام" و"المنتقد" و"الصديق" و"وادي ميزاب" و"ميزاب" و"المغرب" و"النور" و"البستان" و"النبراس" و"الأمة" و"الفرقان".

إن مجرد تأمل هذه العناوين لصحافة ذلك العهد، نجدها ترمز إلى دلالات شتى، فهي الجغرافيا والتاريخ، وهي الإشارة والتنبيه، وهي المقاومة والتصميم، وحسبنا في ذلك أن نسوق عينة واحدة لبعض معاناة الرجل في ذلك الوقت من طرف المحتل الفرنسي. فقد كان سيف الرقابة الغاشم مصلتا على الصحافة العربية آنذاك عموما، وصحافة أبي اليقظان بصفة أخص، لما اتسمت به من حرارة الروح، وصلابة المقاومة، وهو ما أدّى بصاحبها إلى أن يوظف شعره للتعبير عن صحافته المقيدة... ومن ذلك قصيدته الرائعة، على لسان صحيفته المعلقة "وادي ميزاب المقيد يتكلم" ضمنها رسالته الإعلامية، وأهدافه الإصلاحية، ونماذج من مقاومته للقمع الاستعماري، ومما جاء فيها الأبيات التالية:

ولما أجلت الفكر في شعبنا الذي        يكن له الإخلاص في حبه الصدر

رأيت شرورا بالجـزائر جمـة          تهدد بالويلات يرقبها القبر

فجهل وفقـر مدقـع مع نفرة           وأخلاق سوء ما لِحُرٍ بها صبر

إلى أن يقول:

وقاومــت أنواع الضلال بعزمـــة        حديدية يخشى صلابتها الصخر

وقد كنت حصنا حارسا لكيانهم         يخــاف قواه من به نحوه مكر

ولكن هذا لم يرق ذوق معشـر         لأن مذاق الحق في فهمهم مرّ

ولما طغى التيـار حولي منهـم         وجاء الفنا يحبو ، هنا قضي الأمر

ذهبت شهيد الحق أنشد قول من     مضى تاركا في الناس ذكرا له عطر

سيذكرني قومي إذا جد جدهم         وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر))

فإذا مددنا الخطى قليلا مستعرضين المحطة الأولى من وقفات التأمل ولتكن هي الوطنية، تجلت لنا محاور كبرى: هي المصير، وهي الوحدة، وهي المقاومة للتجنيس، والاندماج... إلخ.

1- الوطنية في فكر أبي اليقظان:

لم يكن المثقف الجزائري في مستوى أبي اليقظان في حاجة إلى أن يرحل عن بلده، أو أن يلتقي بأي زعيم كان لكي يتعلم منه الوطنية أو يزكي فيه الإحساس الوطني، إن الوطنية تولد مع كل ذي إحساس وشعور، منذ أن تكتحل عيناه بشمس بلاده، وتستنشق رئتاه هواء وطنه العزيز، فالظلم المرسوم على كل صورة من صور الإنسان الجزائري، في حكمه، وقوانينه، وثقافته، واقتصاده، كلها توحي بالمعاناة المريرة التي يعانيها المواطن الجزائري بسبب القوانين الاستعمارية المجحفة.

إذن لا مراء في أن التفاعل، قد يحدث بالاحتكاك مع ضحايا نفس الظلم، وقد يجد المرء متنفسا لدى المصاب مثله على اعتبار ((أن المصائب، تجمعن المصابين)) ولكن أسباب الجرح تبقى كامنة في الواقع المحلي، والجمر مبثوث على سطح الأرض الواقعة تحت نار ونير الإستعمار.

ومن هنا فإن جذور الوطنية، قد نبتت في فكر أبي اليقظان منذ خطا أول خطوة في ربوع مسقط رأسه بوادي ميزاب، حتى أن الوطنية في شعره لتوحي أحيانا لعقل الدارس بنوع من الغموض، حيث يختلط عليه التغني بوادي ميزاب كموطن، والتغني بالجزائر كوطن نلمس هذا على الخصوص فيما لا نجد له تعليلا في بداية الرحلة عند أبي اليقظان أي في عهد الثلاثينات، عندما نجده يتغنى بالنشيد الوطني لميزاب. وماذا يعني النشيد الوطني لميزاب؟

ويزداد ذهول الدارس حين يقف في هذا النشيد على التغني بمعالم الأصول المذهبية لا الوطنية، ومن ذلك قول أبي اليقظان:

ونحن أحفـاد جـدود *** في جبين الدهر شامة

قد بنـوا للمجد قدما *** كل أس ودعامة

فاسألو "تاهرت" عنا *** اسألوا عنـا الإمـامـة

ثم ما في زنـجبـار؟ *** وعـمـان وتـهـامـة

كم رفعـنا لك ذكرا *** بين أربـاب الـزعـامة

أي شخص ينـكـر *** المحسوس أو يبـدي الملامة

غـير غرّ مسه الجبن *** فأضحـى كالمنـامـة

وعلى نفس المنوال نجد نشيده الآخر "نشيد الشعب" ففي هذا النشيد كذلك يستخدم كلمة "وطن" ليطلقها على ميزاب فيقول:

مـيـزاب لنـا وطـن ***  نفديه بما تحويـه أيادينـا

لم لا ،  وقـد نبــتت *** من قبل على واديه معالينا

يا نسل أسود الشـرى *** لبوا وطنـا يبكي بمآقيـنا

ثق يا وطني بشبـاب *** ما فتئوا غرا ميامينـا

لسنا برجالك إن لم تعل *** مقـاما بيـن أساطيـنـا

وأيا كان ما قد توحي به مثل هذه التورية، فإن السياق العام لفكر أبي اليقظان لا يسمح بوضع وطنيته ضمن زاوية ضيقة كالتي قد يوحي بها مثل هذا النشيد، ذلك أن الوطنية عنده، تحكمها مفاهيم أخرى غير التغني بالأرض، والجدود لأنها قضية تتسع لتشمل التغني بالثورة الجزائرية، وبجبال الأطلس، وبرفض قضايا التجنيس والاندماج، وما يصاحب ذلك كله من معنى أشمل لمفهوم الوطنية.

ربما جاز أيضا القول بأن شعر أبي اليقظان في الثلاثينات، قد شمله تطور أشمل في الخمسينات، وذلك تحت وطأة ظروف وعوامل عديدة، وهو ما يعطي لمعنى الوطنية في فكره بعدا أعم وأشمل ولكن حتى هذه الأطروحة تبطلها الحقائق التاريخية، ففي ربيع الثاني من عام 1353 الموافق لجويلية 1934 نجد أبا اليقظان يتغنى بالوطنية بمفهومها الجزائري الشامل، وذلك من خلال قصيدته في مهرجان جمعية العلماء التي جاء فيها :

أهزار الـروض غـرد ***  بنشيـد الوطنــية

أحمـام الأيـك غنـ ***  ن لحـيـاة العربـيـة

ثم قـولـي إننا في *** الـمجـد قـدمـا أخـويه

نحـن فـي الآلام *** والـآمال والفـصحـى سويه

كيـف لا تزهـو الجزا ئـر *** بالحـمـيا البابليـه

وبنـو مازيـغ مع *** أبـناء قحطـان الفـتيـه

أصبحوا في ردهـة النـادي ***  على أحسـن نيه

وتأخذ الوطنية بعدا آخر أعمق وأدق في قصيدة أبي اليقظان "هذي الجزائر" حين يقول على الخصوص:

يـا صائـغين من الجزائر أمة ***  تبغـي لهـا بين السماك قصورا

روضوا النفوس على الوئام *** وألجموا صدع القلوب وأفعموها النورا

إلى أن يقول:

هذه الجزائر تصطلي نار الشقا *** تدعو بها بين الأنام ثبورا

هذه المساجد أغلقت عن أهلها هذي *** المدارس لا تزال قبورا

أما صحافتها النزيهة ألجمت *** فغدا بذلك حقها مهدورا

أما العروبة فهي ضيف ثاقل *** يستوجب التضييق والتحجيرا

والمصلح الداعي إلى الله العظيم *** يرى مضلا يلزم التكفيرا

والحر يطرد من هناك وها هنا  *** كاللص أصبح في الورى محذورا

هذا قليل من كثير أوجبت *** سود الليالي تركه مستورا

أرأيت يا قارئي الكريم كيف أن ظروف العسف، والقمع، وسود الليالي قد تضطر الشاعر أو الأديب أحيانا إلى أن يفصح عن كثير مما يختلج في صدره، أو أن يلجأ إلى التورية أو توظيف مفهوم لتأدية معنى آخر، وهذا ما يشفع لنا فيما قد نلحظه من لبس أو غموض في ما نجده من نثر أو شعر.

على أن أبا اليقظان يلجأ في مواطن كثيرة إلى التصريح، بدل التلميح غير مبال بما قد يجر عليه ذلك من وبال. ففي افتتاحية جريدته "وادي ميزاب" يؤكد على التلاحم الوطني ضمن الوحدة الوطنية فيناشد ابن وطنه قائلا: ((أيها الجزائري الماجد... اعلم أن القطر الجزائري مدينة واحدة تاريخية، مسورة بسور واحد وهو الإسلام، وسكان دورها هم سكانه، فلا يمنع انحياز كل في داره، ومحافظته على مميزات عائلته فيه، سائر سكان المدينة من التعاون، والتعاضد على جلب المصلحة لها ودرء المضرة عنها. فإن مصلحة المدينة هي مصلحة ديارها، ومضرتها هي مضرتها، إذا أقبل النهار فإلى الجميع. وإذا هجم الليل فعلى الجميع)).

هكذا يتجلى لنا بوضوح أن الوطنية جهاد، ومعاناة وابتلاء وعلى حد قول أبي اليقظان: ((ليست الوطنية في تعديل القوام وتحسين الهندام، والجري وراء القصف والمجون، إنما الوطنية شرارة نارية يقذفها الله في النفس فيلتهب بها الدماغ، ويرسل أشعة نورها إلى القلب، فتحرك حرارتها الأعضاء وتنير الأشعة الساطعة أمامها طريق العمل.. إن الوطنية الحقة يشقى الإنسان ليسعد وطنه، ويذل ليعز، ويفقر ليستغني، ويموت ليحيا)).

ومن التحديات الخطيرة المرتبطة بالقضية الوطنية تبرز مسألة التجنس والاندماج، فهذا المشروع الخبيث الذي خرج به على الناس في العشرينات أحد الولاة الاندماجيين وهو "فيوليت" الذي ارتبط المشروع باسمه، هذا المشروع الذي يهدف إلى تشجيع الجزائريين على التجنس بالجنسية الفرنسية، مقابل حصولهم على الحقوق السياسية التي يتمتع بها باقي الفرنسيين. وفي مقابل هذا الخطر الداهم انبرى أبو اليقظان بقلمه الصلب لتوعية بني وطنه بخطورة هذه المؤامرة رابطا إياها بحكم الشريعة الإسلامية... ولقد تجلى حكمه من خلال مقال عنيف صدر له بعنوان "رأينا في التجنيس".

ومن أحكامه في هذا الموضوع، وضع المتجنس وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية في وضعية المرتد عن دينه، يجري عليه ما يجري على المفارق لدين الجماعة ذلك ((أن الكلام عن مسألة التجنيس، وبيان فسادها وخطورتها من الوجهة الدينية والوطنية، كالكلام على ظلام الليل، ومرارة الحنظل، وسم العقرب وفرقعة الدينامت)).

لقد كانت مواقف أبي اليقظان من التجنيس، صريحة لا مواربة فيها، وهي أن المتجنّس مرتد عليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين، وأن التجنيس في لغة مفكرنا مرادف لكلمة تنجيس، ولله دره في هذا الاقتباس حين يصف الحكام المحليين المباركين للتجنيس بـ "القواد" مستخدما التعبير الجزائري الشعبي بأبشع مدلولاتها وأدقها... يقول عن هذا: (جمعوا إليها في صباح مراحهم كلا من الضَمَان و"القود")). وكان قبل هذا قد مهد لهذه الفرية بهذا الوصف البليغ:

خطوا لهم خطط الفساد فأخطأوا *** فيها فأمسى سعيهم كرماد

لاذوا هناك بفرية التجنيس *** والتشويه والإبـعـاد

فأذاع بالتلفون رائد لهوهم ***  أحبولة التجنيس للأولاد

2- أبو اليقظان المصلح:

لعل من مآثر العظمة في فكر إبراهيم أبي اليقظان، تأصيله لمعنى الوطنية، بحيث تحصن عنده بثوابت الوطنية من دين، ولغة ووحدة. وفي هذا التوجه كل الدلالات العميقة التي تؤمن للوطنية نموها السليم، وحصانتها، حتى تكون بمنأى عن كل أنواع الهزات والزعازع.

ولقد سجل التاريخ أن الدعوة الميزابية للنهوض بالجزائر قد ارتبطت دوما بالحركة الإصلاحية الجزائرية الباديسية، بامتدادها الإسلامي الرحيب.

وإنها لحكمة بالغة أن يمنح الإصلاح في فكر أبي اليقظان هذا الامتداد الصلب والخصيب، ففي ذلك إذكاء لروح المقاومة لكل عمل شيطاني يريد بالجزائر أن تنأى عن خطها الإسلامي -العربي- ذلك أن الشعب الجزائري كما يقول أبو اليقظان (أصيل في وحدته، وأن معدنه ذهبي نقي، ولكن الاستعمار أهال عليه التراب، وبدد نثراته الذهبية هنا وهناك، وإن التراب والتبديد لم يغيرا من عنصره شيئا)).

لذلك فإن كل محاولة للنهوض بالجزائر من كبوتها، وتوحيد شتاتها لا ينبغي أن تتم خارج العودة إلى عقيدتها وعبادتها، وأخلاقها ومعاملتها وسائر شؤون حياتها إلى منبع الإسلام الصافي.

وأبو اليقظان في توجهه الإصلاحي هذا، ينحو منحى إخوانه المصلحين في الشمال، أتباع المدرسة الباديسية، فهم جميعا بشمالهم وجنوبهم يجمعون ((على أن كل سعي لتوحيد الأمة الجزائرية المسلمة من غير هذا الباب هو فيما نرى من باب إتيان البيوت من ظهورها، أو هو ضرب في حديد بارد، لا يكون مآله إلا الفشل والإخفاق)).

ويضع أبو اليقظان لخطة الإصلاح هذه دعائم أساسية لضمان نجاح المنهج الإصلاحي فيوجزها في العناصر التالية:

أ- مكافحة الآفات الاجتماعية.

ب- مكافحة الخرافات والأوهام.

ج- تحرير النفوس من الأوهام والأغراض والأنانية.

د-تحلي المسؤولين بالنزاهة والاستقامة ليكونوا قدوة.

هـ- عناية العلماء ببرنامج التعليم بما يكفل للنشء الإسلامي الجديد نشأة قوية.

و- فقه الدعوة من جانب الدعاة والمرشدين.

ز- تبوأ للصحافة دورها الريادي، في أن تصبح منارة هدى.

ح- توحيد الجمعيات والأحزاب على ميثاق عمل واحد لتكوين جبهة واحدة، مهما اختلفت وسائلهم في العمل.

إن التأمل الدقيق في هذا المنهج الإصلاحي كما يقدمه أبو اليقظان، بالمقارنة إلى ما يحتويه برنامج الحركة الباديسية يقودنا إلى التسليم بحقيقة كبرى، وهي أن الإصلاح في الجزائر إن هو إلا حلقة متينة في سلسلة الصراع من أجل الخلاص ضد العدو، ومن ثم هذا الإصلاح بالعمل السياسي بمفهومه الإسلامي الذي يعلو عن الحزبية الضيقة، ويسير في الخط الجهادي الشمولي الأكبر.

فلا غرابة إذن أن مصلحا كأبي اليقظان عندما يعمد إلى تشخيص الواقع الجزائري بحثا عن العلاج الناجع، يقرر أن رأس الداء إنما هو الاستعمار، وإن الأوبئة التي أصاب الاستعمار بها أمتنا تتمثل في ثالوث امتد إليها في شكل أخطبوط متمثلا في أمراض ثلاثة هي الجهل، الفقر، الإخفاق.

((فالجهل أفقدها الشعود بوجودها وكيف ثدب عليه، والفقر أقعدها عن العمل، وشل أعضاءها عن الحركة، والافتراق أذاب قوتها وذهب بريحها، فبقيت والحالة هذه عرضة للتلف والهلاك، والاضمحلال)).

إنه لا منجاة لنا -للقضاء على الجهل- من الإقبال على التعليم. وإن السياسة التعليمية في المفهوم الإصلاحي لأبي اليقظان، تتمثل برنامجا ينبغي أن تتكاتف للنهوض به كل القوى الحية في الوطن، ((رجال الشرع الرسميون بالهيمنة على العامة وضبط سيرها. والدعاة والمصلحون بالقيام بوظيفة الدعوة، ووضع خطط للإصلاح. والكتّاب والأدباء بقيادة النفوس وسيادة العقول. ورجال القضاء بإقامة ميزان العدالة بين الناس. والموظفون الإداريون لتسيير دفة الإدارة على قواعد العزم والحزم والنظام. ونواب المجالس البلدية بالذود على مصالح منوبيهم. رؤساء القبائل والعائلات بالسهر على مصالح من عليهم حقهم. والأغنياء بمواساة الفقراء وتشييد المشاريع الخيرية. والطبقة العاملة بإتقان عملها وإجادته وترقيته)).

إنه متى ضمنت هذه التعبئة الوطنية للقوى الحية أمكن بناء جيل جزائري، عربي اللسان، إسلامي العقيدة جزائري الانتماء، فيكون بذلك محصنا من سموم المدرسة الفرنسية التي تحشو عقول أبنائنا بكل أنواع الزيغ والإلحاد، بالانتقاص من قيمة الحضارة الإسلامية والإشادة في مقابل ذلك بالحضارة الغربية، وإشعار التلميذ بأنه ينتمي إلى (الأم الحنون) فرنسا، وأن أجدادهم هم (الغاليون)  LES GAULOISإلى غير ذلك من السموم الفتاكة.

رعى الله عهد الشباب إذا هم *** على الخير قاموا كلهم وتساندوا

فقاموا بأعمال تنوء بعصـبة *** أولي قوة فيها، فتمت مقاصد

أولئك قوم قد صفا من نفوسهم *** وأخلاقهم ما كان تصفو الموارد

كما كان من عبد الحميد وصحبه *** وغيرهـما ممن له الحق قائـد

هذه إذن هي معالم الإصلاح في فكر أبي اليقظان تقوم على دعامة أساسية هي العلم. وتتفرع عن قضية الجهل، والتعليم قضية التخلف الاجتماعي، وتبرز في هذه القضية قضية المرأة الجزائرية. وتأتي أهمية المرأة مرتبطة بتعليم الناشئة لأن المرأة كأم، وكزوجة، هي المؤتمنة على الناشئة، وعلى أسلمة البيت، فصيانة الشخصية الجزائرية العربية المسلمة، لا يمكن ضمانها في جو التيارات والعواصف الجارفة، ما لم يقيض لها الله تعالى المرأة المسلمة المؤمنة بدينها، ولغتها ووطنها.

لذلك عمدت المدرسة الإصلاحية في الجزائر إلى منح المرأة كل ما تستحقه من عناية وأولوية في إطار النهوض بالمجتمع، والمحافظة على الشخصية وأصالتها.

وإذا كان موضوع الحجاب، والعفة، والشرف، هو من المسلمات التي لا مجال لمناقشتها في أخلاقيات المرأة الجزائرية، فإن التربية والتعليم على العكس من ذلك كانت من أولويات المدرسة الإصلاحية.

يجسد هذا ما حفل به فكر المصلحين الجزائريين، شعرا ونثرا في حقها، ومن أرق ما قاله شاعر الجزائر محمد العيد آل خليفة في هذا الموضوع مخاطبا المرأة قوله:

سيري إلى العلياء مثل أخيك *** وتعلمي، فالجهل لا يجديك

وتعاونا في ذي الحياة فأنتما *** في السعي خير شريكة لشريك

وقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عن واقع المرأة: ((المرأة الجزائرية تنتحب والحكومة الجزائرية تريد لها أن تنتخب)).

في هذا السياق جاءت عناية أبي اليقظان بالمرأة للحث أولا على تعليمها وتربيتها، ثم لصد هجمات المغرضين عنها، سواء من الصحفيين الفرنسيين الذين يغمزون في الإسلام، من زاوية المرأة، أو ما كانت تثيره بعض الأقلام العربية في دعوة المرأة المسلمة إلى السفور، وتمزيق الحجاب، ويذكر لنا التاريخ المحاولات التي قام بها في هذا المجال، كل من قاسم أمين في مصر، والطاهر الحداد في تونس، وإذا كانت دعوة قاسم أمين قد ظلت محصورة في مصر، ولم يكن لها تأثير يذكر في الجزائر، نظرا للحصار الإعلامي المضروب على الجزائر آنذاك، فإن كتاب الطاهر الحداد تحت عنوان: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" قد أثار ضجة كبرى في الجزائر، وتصدى "الكتّاب والدعاة، والمفكرون له، لما حفل به هذا الكتاب الخطير، من ترويج ودعاية من لدن الصحافة الفرنسية ودعاة التغريب، والإلحاد من الاندماجيين في مجتمعنا.

وخطورة الكتاب تكمن في جرأته على نصوص الشريعة الإسلامية، حيث تطرق إلى قضية الحجاب، وتعدد الزوجات، والإرث، وهي القضايا التي ما تزال تثيرها في مجتمعنا المعاصر، جمعيات الأمهات العازبات اليوم.

وقد دخل معركة النقاش مصلحون كثيرون على رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس، كما شارك أبو اليقظان هو الآخر بمقال مطول عنوانه: "قنبلة الإلحاد في تونس" جاء فيه على الخصوص ما يلي: ((إن من يقرأ سطرا أو سطرين من الكتاب... يجده عند التأمل... تشكيكا في الدين والتشريع الإسلامي ونقضا لما أبرمه الله في كتابه الكريم. كأنما يقول لنا "سي الحداد" أنا الرسول المجدد للإسلام، الناسخ لكثير من آياته البينات، المعدل لكثير من مسائله وأحكامه العادلة كمسألة الميراث، والطلاق، وتعدد الزوجات، والحجاب وشهادة المرأة، ومنزلتها من الرجال إلى غير ذلك... كأن الإسلام لم يفرغ من تقرير حكمه فيها من ثلاثة عشر قرنا ونصف)).

ولم يكتف أبو اليقظان بمقالة واحدة في تناوله لقضية المرأة بل إنه كتب مقالات أخرى انبرى للرد فيه على مقال جرئ نشر في صحيفة "النديم" التونسية، زعم فيه صاحبه أن سفور المرأة المسلمة، لا يتنافى والشريعة الإسلامية... وقد حملت المقالات العناوين التالية: "تأبط خيرا... همسة في أذن ناقد النديم" ، "تأبط... أردنا نصيحة فأراد فضيحة" ، "المرأة الجزائرية والحجاب"، "ما هكذا الدفاع عن الحجاب"... الخ.

غير أن الوقفة التي تستحق منا تأملا أكثر، هي المتمثلة في غضبة أبي اليقظان عما نشرته الصحيفة الاستعمارية الناطقة باسم غلاة الفرنسيين "ليكـو دالجي" ((L’ECHO D’ALGER))، فقد دعا صاحب المقال المرأة الجزائرية ((إلى نزع حجابها، والالتحاق بركب الحضارة، والحياة المعاصرة، (والأنكى من هذا) أنه يقترح على الجزائريين أن يلبسوا زوجاتهم القبعة الأروبية فهي "أحسن" للمرأة "وأنسب" لها حتى تستطيع الذهاب إلى المسرح، وإلى غير المسرح)).

لذلك نجد أبا اليقظان يضرب الجميع في قضية المرأة عندما يهتدي إلى أن قضية الحجاب والسفور، لا ينبغي أن ينظر إليها بمعزل عن جوهر الصراع الدائر بين الإسلام وأعدائه الغربيين وتلاميذهم السذج المنبهرين... يقول بهذا الخصوص: ((إن مسألة السفور والحجاب، ليست مسألة جمود وحركة، ورقي وانحطاط، وعلم وجهل، بل هي مسألة تدين وتجرد، عفاف وتهتك، عقل وطيش، وجملة هذه فتنة من فتن أروبا خدعت بها أغرار المسلمين، لينصرفوا عن واجباتهم الدينية والوطنية الحقيقية)).

هكذا تجلت لنا منهجية الإصلاح عند أبي اليقظان، وهي تقوم على دعامتين هما ما يعبر عنه في لغة الفلاسفة بعملية الإخلاء ثم الملء، أو بلغة المتصوفة التخلية ثم التحلية.

فهدف الإصلاح في مفهوم مفكرنا يبقى هو البناء الوطني بكل مقوماته، وخصوصياته، ولكن هذا البناء الوطني لابد له كي يتم، من التصدي لكل مظاهر التخلف، والجمود التي يصنعها الجهل، وقد رأينا كيف أن العلم هو الباب الكبير الذي ينبغي الولوج منه إلى البناء الوطني على أن العلم لكي يؤتي ثماره المرجوة، لابد من أن يكون علما إصلاحيا، يأخذ بمقومات الأمة، وثوابت الوطن، فالعلم والإصلاح إذن هما العاملان الصلبان الموصلان إلى الخلاص الوطني.. لكن العلم والإصلاح في حاجة إلى منبر يعرضهما، ويدافع عنهما، وما ذلك المنبر إلا الصحافة..

وقد هدى الله المصلحين الجزائريين إلى التفطن لهذه الأداة العصرية الفتاكة، التي هي لسان الجماهير الصامتة، فتأتي الصحافة لتكون الترجمان عما يختلج في نفوس هذه الجماهير من آمال وآلام. وكذلك فعل أبو اليقظان حينما وجد أن من أنجع الوسائل للدفاع عن قضايا شعبه وأمته وسائل الإعلام، ولا سيما الصحافة المكتوبة التي هي في متناول قدرته المادية والعلمية، فكان "جهاده بالكلمة"...

3- أبو اليقظان وجهاده الصحفي:

يمكن أبي اليقظان رائدا فريدا في مجال الصحافة المقاومة وسرّ عبقريته تكمن في عصاميته في هذا الميدان لم يتخرج من كلية الإعلام، ولا من معهد الدراسات الصحفية، وإنما تخرج من "مدرسة الحياة"، فأثبت قدرة في الميدان لا تضاهى، كما أنه لم يعتمد على حزب أو مؤسسة تسنده ماديا أو سياسيا، وإنما كان اعتماده على الله، ثم على ثلة من الخيرين القليلين المحيطين به، إلى جانب إيمانه بشعبه وعدالة قضيته.

وأخيرا، فهو، رجل صامد في ميدان الجهاد الصحفي، لم يضعف له عود، ولم تلن له قناة، فبالرغم من تساقط صحفه الواحدة تلو الأخرى، كأوراق الخريف، ظل مواصلا للجهد، شعاره ((على الظالم أن يستبد وعلينا أن نستعد)).

وحسب القارئ أن يقرأ تاريخ صحفه وعناوينها وتاريخ الصدور وتاريخ التعليق ليدرك مدى صلابة هذا القلم الجزائري الشهم، وهذه قائمة بعناوين صحفه مع تاريخ صدورها وتاريخ تعليقها من المستعمر.

وادي ميزاب: 1926-1929.

ميزاب: 1930-1930. (صدر منها عدد واحد).

المغرب: 1930-1931.

النور: 1931-1933.

البستان: 1933-1933.

النبراس: 1933-1933.

الأمة: 1933-1938.

الفرقان: 1938-1938.

تنوعت وسائل التبليغ لدى أبي اليقظان، فاستخدم النثر والشعر، والمقالة، والفكاهة، والتصريح، والتلميح، بل إنه ما ترك حيلة للتمويه بها على الاستعمار إلا استخدمها ناهيك أنه لجأ إلى الطلاسم، والشعوذة، والسخافات وهي من أعجب الابتكارات الإعلامية في تاريخ الصحافة المقاومة. فعندما أصدرت الحكومة الاستعمارية قانونا رسميا "يتعطيل كلّ ما يصدر من قلم أبي اليقظان" يقول أبو اليقظان: ((بعد هذا أصدرت مجلة (عفوا جريدة) "ميزاب" فعطلت في أول عدد منها، ثم أصدرت جريدة أخرى باسم "المغرب" فسارت في 28 عددا وفي العدد 29 سمعت بأن الحكومة تستعد لتعطيل الجريدة فأصدرت العدد مملوءا بالسخافات والشعوذة مثل "حرز مرجانة" مملوءا فملأت به الجريدة وأكملتها بكلمات متقطعة مثل "الحمار الفطوس" "الفار" و"نخلة" والشجرة...الخ. فلما صدر العدد 29 حاولت الحكومة تعطيل النشر، وأرسلت مناشير إلى دوائرها الرسمية بذلك، فلما كان التعطيل صادف عدد "حرز المرجانة" فكانت ضحكة طويلة عريضة في سائر النوادي والمقاهي بالجزائر)).

ما من شك في أن الميدان الصحفي في جهاد أبي اليقظان سيحظى بدراسة مستفيضة من المتخصصين، ولكن حسبنا هنا هذه المعاني المستفادة من هذه المعركة الإعلامية التي خاضها مفكرنا في جهاده من أجل العودة إلى الذات العربية المسلمة.

وما نحب أن نستخلصه كنتيجة كبرى، هي أن العمل الصحفي، لم يكن إلا حلقة في سلسلة حلقات عديدة، وأداة تندرج ضمن الكفاح السياسي لفرسان الكلمة، في عهد الظلام الاستعماري الدامس. لذلك نعتقد أن معركة أبي اليقظان الإعلامية، لا يمكن فهمها بعمق، إلا إذا هي أدرجت ضمن الخريطة السياسية لمعركة الخلاص الوطني... فما هي إذن أبرز المحاور التي تضمنها الصراع كي تكون الصورة أكمل وأوضح؟

4- القضية الوطنية في فكر أبي اليقظان:

إن إبراهيم كان أمة... يمكن ببعض التجاوز اعتبار القضية الوطنية هي الهاجس الأكبر الذي كان يستبد بفكر أبي اليقظان سواء في شعره، أو في مجاله الصحفي، أو دعوته الإصلاحية، وأبو اليقظان في هذا يقتدي بكبار المصلحين في المشرق العربي، والمغرب العربي، منذ جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، إلى عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي... فالجميع وإن ركبوا مطية الدعوة الإصلاحية، باسم الدين إلا أن الهدف الأسمى، والأقصى إنما كان تحرير الوطن بتحرير العقل، كي تكون فيه القابلية لخوض غمار المعركة المصيرية، وهو ما تحقق في أكثر من وطن عربي مسلم، بدءا بالجزائر وثورتها النوفمبرية المباركة.

لذلك نجد السياسة في مفهوم المصلحين الجزائريين مؤصلة أكثر، لأنها تقوم على دعائم هي الدين، واللغة، والوحدة الوطنية، في إطار وحدة أشمل تتخذ العروبة ببعديها الثقافي، والحضاري، جسرا موصلا إلى الأمة الإسلامية الممتدة من طنجة إلى جاكرطة، بتنوعها العرقي، وتباينها الجغرافي، واختلافها المذهبي، وكلها تجسد التنوع داخل الوحدة الكبرى.

فإذا عدنا، بهذه النظرة إلى فكر أبي اليقظان، وجدناه لا يشذ عن قاعدة المدرسة الإصلاحية التي هو أحد حوارييها.

فماذا تعني السياسة عنده، وهي التي أفرغها الاستعمار من محتواها الصحيح، وشوهتها الحزبية بمفهومها الضيق فجعلت الناس ينفرون منها.

ذلك ما نجده بارزا في فكر أبي اليقظان عندما خرج على الناس بعنوان غريب هو: "أعوذ بالله من السياسة".
ويمنح المصطلح تحديدات شتى، فيها الجد وفيها الهزل. فيخلص في النهاية إلى هذه الحقيقة ((تلك هي ٍ[السياسة] التي أخاف منها... فإنها لاذعة ولاذعة حقا، ويعاقب عليها القانون عقوبة كبرى، وربما بالضرب بالسياط من فوق الثياب أو بمباشرة الجسد، ولو سالت الدماء... وربما بالسجن لمدة أو مدد، وقد يكون ذلك في الحبس (الابتدائي) وقد يكون في (الثانوي) الذي يحصل فيه الإنسان على لقب (الكبران) أو (الكونطرولور)).

ويمضي أبو اليقظان، بهذا الأسلوب الخفيف في إبراز مخاطر الاشتغال بالسياسة في الجزائر، وما تجره على أصحابها من ويلات فيرفع صوته بهذا التحذير: ((لا أنطق بها ناسيا، ولا أتعمده، ولا أظنه، ولا أشك فيه، ولا أتوهمه، ولا أحدث به نفسي... فإن أرغمت وأجبرت، وألجأتني الضرورة ­-لا قدر الله- واللهم يا لطيف على النطق به، فإني استبدله (بـال...بو.. لي...تيك)، إذ أن لهذا اللفظ معناه الخاص في دائرته الضيقة المحدودة، وحدّة الفاصل بين ما هو من السياسة -أستغفر الله وأتوب إليه، وأقلع عن هذه الزلة- وما ليس منها...)).

إن بين السياسة والبوليتيك، إذن حداًّ دقيقا ورفيقا، ولكنه بون عميق أيضا لا يدركه إلا ذوو المشاعر المرهفة من أمثال أبي اليقظان، الذين اكتووا بنار السياسة، وعذاب البوليتيك. وقد حاول مفكرنا أن يستنجد بفقهاء العلم من العارفين بعلم السياسة، وقواعد نحوها، وتصريفها، عله يجد "قطرا يبل الصدى" فما خرج حتى بخفي حنين.

يقول باثا شكواه إلى قرائه: ((وقد راجعت معيار العلوم للغزالي، والسلم وحواشيه [في المنطق] فوجدت أن لفظ "البوليتيك" جامع مانع، ومطرد منعكس، يدخل فيه ما هو سياسي أو يخرج به أو عنه ما ليس بسياسي، بخلاف اللفظ الآخر المشؤوم [السياسة] فإنه يمتد ويسترخي ويتمدد مثل الكاوتشو (أي المطاط)، ويتمطط كليل امرئ القيس [من شدة المعاناة] لما تمطي بصلبه..)).

وينتهي الكاتب إلى هذه الحقيقة المفزعة في تعريف السياسة، وفقا لقاموس المستعمرين الفرنسيين من خلال تعاملهم مع "البيكو" (العرب المسلمين الجزائريين) فيقول: ((فقراءة الآجرومية سياسة، لما فيها من الأحكام الاستثنائية، وابن عاشر كذلك بنواقض وضوئه، وحكمه العقلي، وقراءة [الأربعين حديثا النووية]... كذلك سياسة، الحاصل أن [مفهوم السياسة] واسع رحيب، كريم المائدة، موطأ الأكتاف، لا يخيب سائلا، ولا يرد مستجديا...)).

ولقد صدق أبو اليقظان في استنباطه، وحدسه فحتى هذه الإشارات والتنبيهات والملح والفكاهات لم تعصمه من التعليق على حبل المشنقة، وهكذا كان جزاء "البستان". فما أن صدر العدد العاشر منه فقط، حتى عطل وهو لم يمتع بشبابه، وجاءه الإعدام بتهمة الاشتغال بالسياسة.

وللدارس أن يدرك ما تضمنه البستان من "أزهار الشوك".. فهو يقدم باقات ورد، ولكنها محشوة بالشوك، وذلك هو ثمن المسؤولية. ولنا أن ندرك هذا الحس النضالي الذي يكتب به أبو اليقظان، والذي لا يترك شاردة ولا واردة إلا تناولها بقلمه "البوسعادي الماضي" (نوع من السكاكين يصنع في مدينة بوسعادة الجزائرية) من ذلك هذه "الطرفة": "ارتقاء صادف محله". ومما جاء فيها: ((ارتقت جمعية السيارات التي تكفلت بحمل المسجونين من السجن إلى المحكمة، بجعل سيارة عصرية، كما ذكرت الجرائد الفرنسية. ونحن نقول لهؤلاء المساجين، أما آن لهم أن ينزقوا في أفعالهم حتى لا يكون سجنهم عن قتل، ونهب، وسلب، وضرب، إنما يكون من أجل الذود عن وطنهم المقدس)).

إن هذه الطريقة في التوعية، بواسطة الجناس، والتوليد تمثل منهجا أدبيا، أصبح شائع الاستعمال... وعلى سبيل المثال يمكن أن نسوق نفس الأسلوب المستخدم من القاص المصري المعروف إحسان عبد القدوس.. فهو في قصته الرمزية "في بيتنا رجل" نجده يلجأ على لسان أبطال قصته إلى نفس منهج أبي اليقظان فيسوق على ألسنتهم الرسوم التالية ((يمثل المشهد شبابا سياسيا مصريا، داخل السجن، وهم يتبادلون النكت، فيضيق بذلك حارس السجن "الشاويش" الذي ينهرهم مطالبا إياهم بالكف عن التهريج، ولكن أحد المساجين يرد على "سيادة الشاويش" بعبارة واحدة بكرة ياشاويش تترقى، وتصبح سجين مثلنا)).

إن الأمثلة على هيام أبي اليقظان بالقضية الوطنية هي من الكثرة بحيث يصعب إحصاؤها، لأنها لا تكاد تخلو منها أية مقالة من مقالاته، وإن الدارس المنقب عن ذلك لا يجد عناء في الوقوف عندها فهي تتخذ الكناية الرمزية أو التلميح أحيانا، ولكنها في معظم الأحيان تلجأ إلى الإبانة والتصريح. وهل أدل على ذلك، من عناوين قصائده، وخاصة في ليل الاستعمار الحالك مثل: "السجن مجمرة تفوح بها قيم الرجال"، "في الجهاد الوطني"، "ألا هل من نهضة"، "الشعب يستغيث"، "ماضاع حق وراءه طالب"، نكبة الجزائر المسلمة في صحافتها الحرة" وغيرها كثير.

ولنأخذ أبياتا من قصيدته "في الجهاد الوطني" واصفا فيها معاناة دمشق، على أثر ضرب الجنرال الفرنسي ساراي لها بالقنابل في عام 1926.. ومما جاء في القصيدة:

ابن صرح المجد عن اس الضحايا *** وأشد عرش العلا رغم البلايا

إنما الدنيا جهاد مــن ينم  *** يومه، داسته أقدام الرزايا

ليس حكم النفي والسجن ولا الـ  *** حكم بالشنق لـه إلا مطايا

أيّ شعب نال مــا نال إذا *** لم يقـدم سلفا تلك الهدايا

أيّ شعــب نـال حريته ***  وهو لم يطلع لها تلك الثنايا

إلى أن يختم قصيدته بهذه الحكمة الخالدة:

إن للحــق زئيــرا إن دوى *** فرّ منه الخصم في قعر الزوايا

إن للحــق لسلطـانا إذا ***  خفـقت رايته أبدى المزايا

على أن للسياسة الجزائرية في مفهوم أبي اليقظان، مقومات وخصوصيات، لا تستقيم إلا بها، وهي مـا أصبح يعرف في لغة العصر بالثوابت، وأهمها الدين، واللغة، والوحدة الوطنية... فكيف عالج هذه الثوابت، في ظل الظروف السائدة آنذاك؟

5- الإسلام:

يتخذ الإسلام في مفهوم أبناء المغرب العربي، المعنى الحضاري الشمولي للدين، فهو لا ينحصر في طقوس، أو معاملات خاصة، أو عبادات محصورة في أزمنة معينة، وإنما الإسلام يأخذ هذا البعد الثقافي الذي تنصهر فيه العروبة والإسلام فتغدوان لحمة واحدة. وذلك ما نجده عند علماء الإصلاح في الشمال، وهو ما وجدناه أيضا عند علماء الإصلاح في الجنوب. وهذا أبو اليقظان، يتبنى نفس المنهج، حين يربط بين الإسلام، واللغة، والجزائر مقتديا في ذلك بشعار:

شـعـب الجـزائر مسلـم *** وإلى العروبة ينتـسب

لذلك نجد أبا اليقظان، يؤكد على مبدإ كون الإسلام هو الاسمنت الذي به تلتحم القومية بالوطنية، وهو العامل الأساسي في صيانة الوحدة الوطنية، وإنقاذها من الشتات، والفرقة. من هذا المفهوم نجده، ينحى باللائمة على أبناء وطنه وعقيدته فيتعجب من فرقتهم في حين يجتمع أعداؤهم أعداء الإسلام ضدهم ((... يـا لله العجب، أيتألب أعداء الإسلام، ويتحدون على تقويض معالمه، وبينهم فراسخ من اختلاف اللغات، والأديان، والمذاهب، والمنازع، والمشارب. ونختلف نحن على صيانته، وحمايته، والذود عن بيضته، ودفع الكيد والأذى عنه، وقد جمعت بيننا روابط الوطن، واللغة والدين، ووحدت بين أهوائنا علائق المصالح والآلام؟ وحدوا صفوفكم رعاكم الله، وأجمعوا جهودكم، وضموا قواكم، وسيروا إلى الأمام بقلوب مفعمة إيمانا ونفوس طافحة صدقا وإخلاصا، فإن الحالة حرجة للغاية، والأمر في شدة الخطر)).

وعندما يجيل أبو اليقظان بصره في واقع الأمة الإسلامية، لا يضره أن تأتي الزوابع والعواصف ضد الإسلام والمسلمين من أعداء الإسلام الفرنسيين، كصحيفة "ليكو دالجي" (صدى الجزائر) ومن كاتبة فرنسية كـ "مدام سـيلاربي"، وإنما هو يشهر سيفه على أقوام من بني جلدتنا ((تحدروا من أصلاب يجري فيها دم الإسلام، ولكنهم ينحازون إلى صف أولئـك الخصوم، يتكالبون معهم ضد الإسلام باسم التجديـد العصري)).

إنهم "رواد" العلمانية اللائكية الإلحادية في الشرق والغرب الذين يصفهم أبو اليقظان بقوله: ((وقد تـولى قيادة الكتائب مصطفى كمال وأشياعه في "الأناضول" فبدأ أولا بإلغاء الخلافة الإسلامية من أصلها، ثم ثنى بإعلان اللاتينية، وتبديل  أحكام الإسلام بأحكام سويسرية، ثم هبت هذه الزوبعة في مصر يثيرها علي عبد الرازق، وطه حسين، وسلامة موسى وغيرهم... وأصبح دعاة التجديد يحدثون كل يوم حدثا في الإسلام من مسألة تعدد الزوجات إلى الطلاق، إلى الحجاب، إلى الإرث، إلى التجنيس، إلى الطعن في القرآن واللغة العربية)).

وبالرغم من أن الحادثة التاريخية لا تتكرر كما يقول علماء الاجتماع، وأنك لا تستحم في النهر مرتين على حد قول الفلاسفة، فإن التاريخ قد يعيد نفسه طبقا لمقولة الحكمة العربية.

فالذي يقرأ تاريخ الجزائر المعاصر، وتاريخ الأمة العربية الإسلامية، يدرك، بلا مشقة تشابه الطروحات، وتماثل دعاة العلمانية فهم يمثلون مشكلا قديما متجددا من حيث الكيد للإسلام، والضيق بالمؤمنين به والعاملين في حقل دعوته. غير أن القراءة المتأنية للأحداث، ومحاولة الغوص في مدلولاتها ومعانيها، تكشف ببساطة عن الملقنين المتوارين خلف ستار المسرحية.. الماسكين بخيوط الستائر.. إنهم شرذمة من بقايـا الاستعمار، كانوا وما يزالون يراهنون على القضاء على كل المقومات الروحية للإنسان المسلم حتى يسهل عليهم إفراغه من مضمونه الصحيح ولقد تنبه إلى هذا أبو اليقظان في الماضي، فرفع قلمه محذرا ((بأن الاستعمار الفرسي خطر كله.. ولكن أي خطر أشد من ذلك الذي يهدف أساسا إلى [القضاء على] المقومات الروحية دينا وجنسية)).

وعلى غرار ما كان في الماضي من المؤامرات الخارجية على الإسلام، والتي ما تزال خيوطها تنسج إلى اليوم، فإن الصورة القديمة تغدو نفسها في مجتمعنا المعاصر، حيث أن الإسلام لا يعاني من العدو الخارجي فحسب، وإنما يعاني أيضا من العدو الداخلي وهو ما عبر عنه أبو اليقظان بالجمود الفكري. لذلك نجده يجهر بالكتابة، بأنه إذا كان ((مفروضا على الصحفي المصلح أن يلاحق كل أنواع الانحراف، فإن مقاومته تكون أوكد وأشد، لذلك الانحراف الذي يتستر بتعاليم الإسلام، ويتخذ من كتب السلف حجة يقف عندها مشلول التفكير والإبداع.. إن هذا النوع من الانحراف المتمثل عند طائفة من المتعصبين المتزمتين أضحى في بعض وجوهه أشد خطورة على الجزائريين من المبشرين المسيحيين)).

ويمضي أبو اليقظان مفصلا ما غمض في هذا المجال فيذكر بأن ((العامة من طبعها الحذر من غير المسلمين لاعتقادها فيهم أنهم أعداء الإسلام دائما وأبدا، في حين قد لا تتفطن [العامة] -جهلا أو حسن نية- لما يمليه عليها أولئك المتعصبون من أفكار وآراء ولما يروجونه في حلقاتهم من خرافات عصور الانحطاط، والجمود على ما تركه الآباء والأجداد، والرضى بالواقع والركون إليه دون تغيير أو تحوير)).

هكذا تبدو المعركة التي خاضها المصلحون قديما على جبهتين جبهة الكيد الخارجي، وجبهة الكيد الداخلي تبدو هذه المعركة ذات امتداد طويل ما تزال خيوطها تحاك اليوم، وبدهاء أكبر، وبوسائل أحدث وإذا كان الإسلام قد خص بهذه "العناية" من طرف خبث أعدائه، وجهل أبنائه، فإن لغة الإسلام لم تكن أحسن حظا من الإسلام في النيل منها، والكيد للقضاء عليها.. وذلك مجال آخر خاضه أبو اليقظان وباقي المصلحين في إطار جهادهم الوطني المصيري.

6- اللغة العربية:

حظيت اللغة العربية في فكر أبي اليقظان بمكانة متعددة الجوانب.. فقد وقع تناولها كمفتاح للعقيدة الإسلامية، فأضفى عليها نوعا من القداسة، وعولجت بوصفها لغة حاملي الحضارة الإسلامية للعالم، فاكتسبت بذلك طابعا شموليا إنسانيا خلصها من كل نزعة عصبية شعوبية ضيقة.

ووقع الاهتمام بها أيضا كأداة خطاب بلاغي جعل الكاتب يهتم بمحسنات أسلوبها، وتجديد مقومات بنائها، ثم كانت عملية الذب عنها، والعمل على تحصينها من محاولات الانتقاص أو الاختزال، أو الإذابة..
من هذه الجوانب كلها يمكن تناول علاقة فكر أبي اليقظان باللغة العربية، وهي جوانب تبرز مدى سعة الفكر اليقظاني، بيانا وتبيينا، لتكون العربية فيه هي واسطة العقد.

ولا عجب إذن أن تكون جلّ مقالاته حاملة لهذا المعنى، الذي يجعل من العربية أداة وصل بين الإسلام بمفهومه الحضاري، والعروبة بمعناها الثقافي والعقدي، لتصوغ كلها مفهوما أعمق وأدق لمدلول الوطن الجزائري ذي البعد التاريخي الحضاري الخالد...

نقرأ هذه المعاني كلها في مقالاته العديدة، مثل "بشرى لكم يا عشاق اللغة العربية" و"اللغة العربية غريبة في دارها" و"الوحدة العربية وكيف تكون" و"التمدن الممسوخ" ففي مقالة "اللغة العربية غريبة في دارها" يؤكد أبو اليقظان على فكرة أساسية هي أن من أبرز مظاهر الاعتزاز باللغة العربية أنها لغة القرآن الكريم فهي عنصر أصيل في تكوين هذه الشخصية، لا يقوم بنيانها بغيرها، ولا تكتمل ذاتيتها إلا بها، ولكنها غريبة في ديارها. مضيق عليها بين أهلها، حتى أصبحت لغة القوم رطانة غريبة تختلط فيها مفردات من الفرنسية والبربرية، والعربية، والعربية أقل الثلاثة حظا.

ويعزو أبو اليقظان سبب هذا الاهتزاز في الشخصية، إلى عوامل ثلاثة هي:

1- جهل المسلمين بقيمة لغتهم، وعدم اعتزازهم بها أمية وتخاذلا.

2- عدم رغبة الحكومة في وجودها والعمل على قتلها لأسرار تعلمها هي.

3- وهن القومية العربية واندماجها في القومية البربرية وعدم اعتبار هذه اللغة العربية مما يجب للإسلام من اعتبار.

وفي مقال آخر عن اللغة العربية يخرج أبو اليقظان بتبيان حقيقة اللغة العربية في الجزائر فينتهي إلى هذه النتيجة: ((إن اللغة العربية -كما لا يخفى- ليست لغة قومية خاصة، ولا لسان فئة ممتازة، بل هي لغة عالمية عامة، لأنها لغة دين عالمي عام ألا وهو الدين الإسلامي فهي لغة القرآن، ولسان السنة القويمة، وترجمان بليغ بين الأسلاف والأخلاف.. وأن مقاومتها، والسعي في إماتتها ليس مقاومة لها، ولا للعنصرية العربية فحسب، بل مقاومة للبشر كافة، وبني الإنسان أجمعين إذ لا سعادة حقيقية للبشرية بغير الإسلام ولا للإسلام حقيقة بغير اللغة العربية)).

بهذه النظرة الشمولية، عالج أبو اليقظان قضية اللغة العربية في الجزائر، فخلصها بذلك مما يحاول بعض المغرضين حصرها فيه، وهي أنها لغة قوم أو قومية ضيقة، نازعين منها أقدس مقوم ألا وهو المقوم الإسلامي، ومحررا إياها أيضا من الخانة الاستعمارية التي تحاول أن تقدمها للناس على أنها لغة عبادة في المسجد لا تراوح ذلك. في مواجهة هذه الأباطيل كلها جاءت صرخات أبي اليقظان لتخرس ألسنة المفترين، ولتوقظ عزائم النائمين.

ولعل مما نسوقه من شعره هو كثير في هذا المجال أبيات نقتطعها من قصيدته العصماء التي ألقاها في تدشين مدرسة الحياة الجديدة والتي مطلعها:

إذا ما رمت عزا للحـيـاة ***  وفوزا خالدا بعد الممات

فخذ لك سلما للعلم وانهـض *** بنجلك نحو مدرسة الحياة

تعلم ديننا الحنفي سـمـحا ***  وحفظ كتابنا ذي المعجزات

وعلم لساننـا العربي طبـعا ***  وهل بسواه ساد بنو الشراة

ولا نغادر مجال اللغة عند أبي اليقظان دون التطرق إلى أسلوبه الأدبي، وتوظيف هذا الأسلوب في حمل المعاني، وبث الوعي بطريقة ذكية جدا في ضمائر بني وطنه وأطرف ما يساق في هذا الصدد، نقتطفه مما جاء على لسان عصفوره وبإمضاء فلاح البستان: ((سألت عصفوري ذات يوم عن أمر جاش في صدري وكان العصفور ذكيا، شيطانا، فأجابني عنه بما أقنعني وتركني باهتا لإصابة نظرته وهو: لماذا تكره النياشين، إذا رأيتها معلقة على صدور ذوي اللحى والبرانيس بأنواعها...؟ أرأيتم كيف أن مقدمة السؤال توحي بنوع معين من الإجابة، وإنما توضع المقدمة المنطقية التي يتفق عليها الجميع، وهي "كره هذه الشرذمة الممزقة من الأهالي" التي تمثل مسخرة اجتماعية تتجلى في النيشان الفرنسي، واللحية الإسلامية، والبرنوس الجزائري.

ويكون الجواب -على لسان العصفور- من نفس السؤال:

- عصفوري: نعم أكره هذا أكثر من رؤيتي الصياد وعلى كتفه بندقية ليقتنصني.

- ولماذا؟

-عصفوري: لأن هذه النياشين بلونها الأحمر تذكرني بجريان الدم في رقاب وحواصل إخوتي العصافير المذبوحة بيد الصياد، ولهذا أتشاءم منها كلما رأيتها أو سمعت عنها.

فقلت: صدقت -والله- أيها العصفور الحر، فلتعش حرا طليقا رغما عن الإنسانية المعذبة)).

هذه سبحات في قضاء فكر أبي اليقظان، وقد حقق بنا فيها عبر محطات متعددة الأرصاد لنحط أخيرا في المحطة الوطنية الكبرى ذات الأبراج العديدة: الإسلام، العروبة، الجزائر.

الخاتمة: 

وبعد.. فمهما منح الدارس لفكر أبي اليقظان من طول نفس، ومهما استخدم من منهجية علمية، فستتمرد على قلمه أفكار ومقالات، ومؤلفات شتى من انتاج هذا الرجل.

فقضايا اهتمامه أوسع من أن تحدها دراسة كهذه أو ملف كملف "الموافقات"... ذلك أنه بالرغم من قضايا الدين، واللغة، والوطن التي عبرنا عنها بثوابت القضية الوطنية والتي أبانت لنا الدراسة فيها عن جوانب المقاومة المختلفة وأساليب الخطاب المعرفي البليغ، إلا أن مواضيع أخرى هي أيضا جديرة بالبحث والدرس، لم يسعفنا الفضاء الزمني، ولا المساحة المكانية من إعطائها حظها من التحليل. فقضية فلسطين التي خصص لها كثيرا من إنتاجه، وقضايا المغرب العربي التي لا تكاد تخلو منها صحيفة من صحفه.

إلى جانب الآفات الاجتماعية كقضية التفرقة الجهوية والقبلية التي دبت في أوصال المجتمع الجزائري قديما على غفلة من حماة الثغر، وهاهي تطل اليوم برأسها كالأفعى في غياب الأطباء الحاذقين وكبار السحرة من آل موسى، كل هذه القضايا وغيرها كالاقتصاد الإسلامي، تحتاج إلى دراسة تحليلية مفصلة، لأنها بمثابة المشرحة التي عليها يمكن تشريح فكر أبي اليقظان، وتحليل نبوغ عبقريته. وحسبنا في ما نستخلصه كخاتمة أن نسوق نماذج من فكره في هذه الميادين، لنضيف إلى الصورة التي حاولنا رسمها عنه، جوانب مضيئة ومكملة للصورة الشاملة.

لنأخذ القضية الفلسطينية هذا الجرح الدامي في جسم الأمة العربية والإسلامية... إننا سنكتشف مدى صدق تنبؤات أبي اليقظان التي أوحى بها شيطان شعره منذ أكثر من ثلاثين سنة فما تزال القدس إلى اليوم في أيدي العابثين بمقدساتها:

ألا يا ليت شعري كيف تـــغدو *** ربوع القدس بين العـابثـــينا؟

أيـرهقـها هزال الـضعف حتـى *** تساومها جفاة مفلـسونا

وإن تعجب فاعجــب مـن عدو  *** يخالف خصمه فـي المـــسلمينا

وواطـأهـم على هـذا بغـاة ***  للسلام بمجلس يدعى أمينا

إلى أن يقول:

ويعلن في فلسـطين سـلامـا *** يعيش بجنـب قسمتها قرينا

فنادى صفـوة العرب الكـرام *** ورهـطا من كبار الفاسقينا

على أن يجلسـوا جنبـا لجنب  *** لمائـدة الصفـاء يفاوضونـا

وأين دعاة حفظ الأمن هل هم *** بعصر النور، أحيا يرزقـونـا

أباسم الرفـق بالإنسان يقصى ***  عن الأوطان ناس آمنـونـا

أباسم الحق والإنصـاف أنتم ***  على طمس الحقيقة مجمعونا

إن هذه القصيدة لم تلق في حق اتفاق الحكم الذاتي، ولا في مجزرة الحرم الإبراهيمي، ولا في زمن حصار الفلسطينيين، وإنما ألقيت في عام 1965 أي منذ ثلاثين سنة، ومع ذلك ما تزال وقائعها ماثلة للأعين أمامنا إلى اليوم.

إن الروح اليقظانية الحارة التي كتبت بها قصيدة مأساة فلسطين، هي نفسها التي عالجت قضايا المغرب العربي. ولم يكتف أبو اليقظان بفتح أعمدة صحفه لكتّاب من المغرب العربي، كرمز لوحدة الجهاد، ووحدة المصير، بل راح بقلمه يبث الوعي في ضمائر أبناء هذا الجزء من الوطن العربي الكبير مبينا ضرورة توحيد الجبهة المقاومة للاستعمار الموحد القوى والصفوف.

في هذا المجال نجد الكاتب يوجه خطابه إلى زعيم الحزب الدستوري الشيخ عبد العزيز الثعالبي بعد أربع عشرة سنة قضاها في المنفى يقول له: ((لا يعزب عن مدارككم العالية أيها الأستاذ أن الشمال الإفريقي بعدكم قد تطور أطوارا، وخطا خطوات، وسار أشواطا... وفي وجودكم على رأس قوتيه [قوة الشيوخ وقوة الشباب] كفالة تامة لجمع أشلاء هذا الجسد وصيانته من عوادي التبديد والتمزيق، وجعله صفا متماسكا، متراصا، وقيادته إلى حيث المجد، والعظمة والكمال في دائرة العروبة والإسلام. ولكن نيل مطلب الوحدة، وبلوغ أمل توحيد النضال يبقى طريقا مزروعا بالأشواك وأولها أشواك التفرقة الجهوية والقبلية، والتي لابد من اقتلاعها للوصول إلى الهدف المنشود)).

لذلك يعبر أبو اليقظان عن هذه الأمة بمقال عنيف يحمل عنوان "نحن وأنتم" استهله بقوله: ((كفى..كفى.. أيها السادة من نحن.. ومن أنتم.. فقد جعل من قوتنا ضعفا، من كثرتنا قلة، ومن عزتنا ذلة، ومن غنانا فقرا، ومن علمنا جهلا. كفى كفى من قولكم هذا مالكي، هذا حنفي، هذا إباضي، هذا تيجاني، هذا قادري، هذا عربي، هذا قبائلي، هذا شرقي، هذا غربي... فقد فتح هذا بين صفوفنا المتراصة للغير ثغرات واسعة نفذ منها إلى نفوسنا، فأججَ نارها على بعضها وإلى قلوبنا فأفعمها حقدا على بعضنا، وإلى ألسنتنا فأنطقها ضد بعضنا، وإلى جموعنا فشتت شملها وإلى أموالنا فبددها، وإلى أخلاقنا فأفسدها، وإلى قوميتنا فأهانها، وإلى بلادنا فجاس خلالها وإلى ديننا فهتك حرمته أفبعد كل هذا نبقى في "نحن وأنتم")).

وما ينتهي إليه أبو اليقظان من كل هذا التشخيص هو الوصول إلى علاج ناجع يمكن به القضاء على كبرياء اليهود، انتقاما للشعب الفلسطيني، وتحقيقا للتضامن الوطني الاجتماعي والسياسي، ويتمثل هذا الدواء في إحداث اقتصاد إسلامي، يعيد للتاجر حريته باسم الإسلام، وللتضامن الوطني لحمته ويقضي على البنوك الربوية الاحتكارية، ويعيد للمسلم ماله، وحقه في المتاجرة والملكية، بعيدا عن الاحتكار اليهودي، والاستغلال الرأسمالي...

ولنتصفح مجرد عناوين المقالات، لندرك عمق الأزمة الاقتصادية التي حلت بالشعب الجزائري آنذاك، من ذلك مثلا: "تأثير الأزمتين السياسية والاقتصادية"، الأنانية وحب الذات وخطرهما على المجتمع"، "الانتحار التجاري"، "النفوس المائعة"...إلخ.

ربما كان أبو اليقظان من المصلحين القلائل الذين تفطنوا إلى أهمية العامل الاقتصادي الإسلامي في حياة مجتمع مسلم، مكبل بسلاسل الاقتصاد الاستعماري، ومن هنا كانت طريقة الطرح جديدة، على المجتمع وعلى العدو أيضا.

إن هذه الطريقة في المعالجة لكبريات القضايا الوطنية والعربية والإسلامية، هي التي بوأت أبا اليقظان هذه المكانة في تاريخ الجزائر الثقافي والإعلامي، وجعلت منه رائدا من رواد النهضة الإصلاحية في الجزائر، مع ما جلب له كل ذلك من قمع، وقهر، وتعسف، ولعل ذلك هو ما حدا بشاعر آخر هو رمضان حمود إلى مخاطبته بقوله:

فسر ودع قول من خست مقاصده ***  في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل

شر البلاد، بلاد خاف ساكنـهـا *** من جمرة الجوّ، أو من فتكة السفل

ورحم الله أبا اليقظان في الأولين والآخرين، وجعله مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

 

 

* عن مجلة الموافقات/ إصدار: المعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر.  من ص303 إلى ص325.


آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.