قضية المرأة في منظومة الفكر الباديسي – الحلقة السادسة والأخيرة : خطورة نوعية التعليم على شخصية المرأة

بقلم: د. محمد بن سمينة-

نبادر بالقول أن الفكرة التي انتهى إليها هذا البحث في الحلقة السابقة، والتي يقرر فيها ابن باديس أن المرأة المتعلمة تعليما لا يربطها بأصول دينها وشخصية أمتها ، قد يدفع بها ذلك النوع من التعليم إلى التنكر لأمتها ، ومن ثمة فإن المرأة الجاهلة المحافظة على دينها المتمسكة بشخصيتها تكون أوفى منها لأمتها ، إن هذه الفكرة ذاتها قد وردت عند الشيخ عبد القادر المجاوي في حديثه عن تعليم المرأة في كتابه ( اللمع على نظم البدع) (1).

كما أن الواقع  شاهد آخر على ذلك ، ذلك أنه بالرغم من مرور حوالي أربعين سنة على رحيل شبح الاحتلال الأجنبي من أرضنا ، فإن آثاره في هذه الناحية وغيرها، ما تزال ماثلة في أذهان وسلوكات بعض الأفراد إلى درجة أن المرء واجد من يعتز بتلك الآثار و يدافع عنها ، و من شك  في هذا فيمكنه أن يختبر الواقع ، فإن لسانه أفصح و أصدق من أي لسان . ومهما يكن من أمر فإن هذه العناية بالمرأة قد كلفت ابن باديس أن يدفع الثمن بملاحقة المحتلين له واستعدائهم صنائعهم عليه  وعرقلة جهوده ، ولم يكتف أولئك المستلبون المسخرون للقيام بهذه المهمة المنوطة بكاهلهم ، عن طريق نكوصهم وقعودهم عن مسايرة أهل الحق والعلم فحسب، و إنما انتهى بهم ضلالهم و مروقهم إلى  أبعد من ذلك ، بيد أن الإمام  استمر في طريقه واعيا بفاعلية ما ينهض به في هذا المجال على الدين و على الأمة ، ساهرا على بذل أقصى الجهود لإنجاح المقاصد ، صابرا محتسبا على ما يلقى في سبيل ذلك من بلاء وتبعات ...، وما كان من ذلك إلا أن انتصر الحق بتوفيق الله وعونه على أيدي المدافعين عنه ، و زهق الباطل  وهزم حزبه و باءت عصابته بالخسران المبين .

الخلاصـة : و مما يمكن تسجيله تتويجا لهذا الحديث عن قضية المرأة في نهاية هذه الدراسة هذه  الملاحظ:

1 ـ يعتقد الكاتب أن الحياة الإنسانية تقوم على قانون الزوجية التي تجعل كل طرف من الجنسين الرجل و المرأة مكملا للطرف الآخر حسبما يتميز به كل منهما من خصائص ووظائف خاصة مترتبة عن ذلك ، فالرجل أقوى من المرأة معنويا وماديا ، وذلك في جسمه وفي عقله : قوة العقل وقوة الإرادة وقوة العمل، مما يؤهله للقيام بدوره في قسم الحياة الخارجي، يكد ويجد، يسعى و يرتزق، يرعى ويذود. وحظ المرأة من ذلك أقل ، مما يخولها للقيام  بما يناسب طبيعتها في قسم الحياة الداخلي : رعاية شؤون الأسرة ، وتوعية الأولاد والقيام بالحقوق الزوجية ، إلى جانب قيامها ببعض الواجبات العامة في حدود ما يفرضه الشرع عليها من صون و عدم زينة و عدم اختلاط .

2 ـ و قد تناول الكاتب من هذا المنطلق قضية المرأة باعتبارها قضية اجتماعية نظر إليها من منظور الدين الإسلامي الذي حررها وكرمها و نعمها، و أعاد لها إنسانيتها و أهليتها ، فركز حديثه عليها من هذه الناحية ، داعيا إلى تربيتها وتعليمها ، تعليما يحفظ عليها شخصيتها ويصون لها كرامتها و يساعدها على القيام بواجبها الاجتماعي. فاستطاع بذلك أن يوائم في دعوته هذه ما بين تعاليم الإسلام ، وبين ملابسات البيئة ومتطلبات العصر، وفي ذلك إصلاح لها و إصلاح للأجيال التي تتربى على يديها ، مستنكرا ما يروج له بعض المتفرنجين من دفع المرأة المسلمة على طريق تقليد المرأة الأوربية في قضية تعدد الزوجات والمساواة في الميراث و في السفور و غير ذلك .

و اكتفى بالإشارة في هذا الصدد، إلى أن بعض المنصفين من الغربيين أنفسهم قد رأوا صلاحية ما يراه الإسلام في هذه القضايا ، مما يوحي بمعارضة الكاتب لما يراه أولئك المستلبون في ذلك (2)

3 ـ جاء حديث ابن باديس عن المرأة ، مبثوثا في مواطن كثيرة من آثاره ، ويكاد لا يخرج عن هذه الوتيرة  لو لم يخص هذا الموضوع بعمل كامل من أعماله ، وكان محاضرة ، كان قد ألقاها بنادي الترقي بدعوة من إدارته أثناء إقامته بالعاصمة في صائفة 1929 ، وكان موضوعها حول المرأة (حالها و واجباتها وحقوقها ) (3) وكانت بعنوان (الرجل المسلم الجزائري)

ولعله يكون قد قام بها  ليرد على بعض المستغربين الذين ارتفعت أصواتهم يومئذ بالجزائر مطالبة بتحرير المرأة. وقد جاء فيها من الأفكار ما يدل على ذلك ، من مثل دعوته  إلى العناية بالرجل إلى جانب العناية بالمرأة ، الدعوة إلى رفع حجاب الجهل عن المرأة قبل رفع حجاب الستر عنها ، التأكيد على تعليم المرأة تعليما دينيا ، التركيز على وظيفتها الأسرية . وواضح أن هذه الأفكار توحي بأن صاحبها يقف موقفا مقابلا لما كان ينادي به حول الموضوع الواقفون في الضفة الأخرى .

و قد قسم الإمام محاضرته إلى قسمين :

أدار الحديث في القسم الأول عن الرجل ، دوره ومكانته وقوامته ، و تحدث في القسم الثاني عن المرأة، دورها ، مكانتها ، حجابها ، تربيتها ، تعليمها ، فعالج مجملا مركزا معظم ما كان قد تطرق إليه مما يتصل بالمرأة في بقية أعماله موزعا مفصلا ، وهو بهذه القسمة العادلة والمزاوجة الواضحة بين الرجل والمرأة في هذا الحديث ، يدل على أنه يعتقد أن مشكلة المرأة و الرجل واحدة

4 ـ يمكن القول أن أبرز ما تتسم به مواقف ابن باديس وكتاباته في موضوع المرأة ، هذه الطوابع :

الحكمة والاعتدال في الطرح ، والرصانة والتروي في المناقشة ، والصدق والذكاء في تشخيص الداء  وفي وصف الدواء . مما يميز منهجه العام في جميع مواقفه وأعماله ، فهو يحافظ في معظم الأحوال على موضوعيته واعتداله ووسطيته ، فكان في هذا الموضوع كعهده في غيره، بعيدا عن الإفراط والتفريط، إفراط المستلبين وتفريط الجامدين ، فكان  بذلك من بين أبرز مفكري  تيار الاعتدال والوسطية و الروح العلمية في البلاد العربية الإسلامية.

 

الهوامش :

1 ـ ينظر حمزة بوكوشة : مجلة التقافة ع 10 ( رجب 1392/ 1972 ) ص12

2 ـ ينظر آثار الإمام 1 : 370

3 ـ  ابن باديس حياته وآثاره  3 : 464


آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.